أفكار وآراء

أمة بلا ذاكرة.. أمة تخسر الحاضر والمستقبل

10 فبراير 2018
10 فبراير 2018

د. عبدالعاطي محمد -

في عالمنا المعاصر حيث يتدفق سيل المعلومات والأنباء صباح مساء في كل ما يخص المرء في حياته العامة، بل والخاصة أيضا تحضر ذاكرة الأمة لتكون هي المصدر الرئيسي الذي يتم من خلاله الفرز بين الغث والسمين أو بين السيئ والجيد. وتزداد أهمية هذه الذاكرة كلما كان المناخ العام مرتبكا نتيجة اشتداد المصاعب والأزمات داخلية كانت أم خارجية.

ليس الحديث عن تدفق المعلومات والأنباء بخيرها وشرها ترفا ثقافيا أو إعلاميا، بل حاجة ملحة فرضها الواقع العالمي المعاصر بكل تجلياته، فالتسابق على جني ثمارها الجيدة والشكوى مما هو فاسد منها لا يتوقفان يوما، لا فرق في ذلك بين الأمم شمالا كانت أم جنوبا، حتى أصبحت الشغل الشاغل الذي يسعى الجميع إلى التعامل معه بأقصى درجات الحكمة.

وحتى ربع قرن مضى تقريبا لم يشكل الأمر مشكلة في منطقتنا العربية على وجه الخصوص لأن ذاكرة الأمة كانت حية وقوية ومتماسكة. وقد لعب المثقفون وكبار الكتاب والمفكرين والمسؤولين عن الثقافة والتعليم دورا مهما للغاية في الحفاظ على هذه الذاكرة، ليس من موقع الجمود وإنما من موقع التطوير والتجديد، والقائمة تطول إذا لزم التأكيد على هذه الحقيقة. وحملت هذه الذاكرة الحية واليقظة أجيالا عدة فكانت لها قاعدتها الاجتماعية الصلبة التي لم تجزع من الانفتاح على العصر وتقبل ما يتيحه من معلومات تسهم في بناء الأمة. ولكن مع فقدان المنطقة العربية للرموز القديمة ومحدودية من حملوا الراية بعدهم، وفي ظل التزايد الكبير في أعداد السكان والأعباء الثقيلة التي ألقيت على كاهل التنمية، «والانفجار المعلوماتي» الذي شهده العالم وظهور الشبكة العنكبوتية حيث الانترنت بكل وسائله في فضاء رحب لا يمكن السيطرة عليه،كل ذلك كان من الأسباب التي أضعفت من الذاكرة للأمة في منطقتنا العربية ولا نبالغ إذا قلنا أنها أصبحت مرتبكة.

قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن المقصود بذاكرة الأمة هنا هو بقاء التراث الفكري والثقافي حيا في الأذهان، أو الاهتمام بالتاريخ وضرورة استرجاعه دائما للاستفادة الصحيحة منه في قراءة الحاضر والتخطيط للمستقبل، وهذا وذاك صحيح بكل تأكيد ولا تقليل من أهميته،ولكن المقصود في هذا المقام هو أنها - أي ذاكرة الأمة - بيت الخبرة لأي من الشعوب العربية الذي تشكل عبر عقود طويلة من واقع مواجهة المصاعب والأزمات ومن الآمال الوطنية ومواقف الوحدة والتماسك الداخلي، وأنتج وعيا أصبح بمثابة المناعة الطبيعية الوطنية التي تدرأ تلقائيا مفاسد ما يهب من الواقع العالمي المعاصر سواء كانت معلومات مضللة أو أنباء مغلوطة، وبالأحرى ما أصبح يسمى بحروب الجيل الرابع في إشارة إلى هدم المجتمعات بالأفكار دون اللجوء إلى الحروب العسكرية. وكما ان بيت الخبرة بمثابة حائط الصد أو المناعة الطبيعية، فهو في نفس الوقت لديه القدرة والثقة بالنفس للحصول على أفضل ما يتيحه العصر من منجزات. ومن جهة أخرى فإن لذاكرة كل أمة وطنية عربية منابعها العربية والإسلامية التي لا تنفصل عنها وتزودها بكل صور الدعم للبقاء والتجدد دوما. ولأنها منابع ضاربة في جذور التاريخ، لا تهتز أمام شدة التحديات المعاصرة، ودائما وأبدا ما تلهم بالدروس والعبر بما يصحح المسارات.

التعليم والثقافة والإعلام هي ثلاثية البناء لذاكرة الأمة. وليس ذلك من قبيل اختراع العجلة من جانب أي من الشعوب العربية، وإنما هو من مصادر قوة الأمم الأخرى التي قطعت شوطا كبيرا في التقدم وفي المقدمة منها الدول الغربية ذاتها، فما سمعنا يوما أن أحدا منها قد تراخى أو تخلى عن أي من هذه العناصر الثلاثة، بل على العكس شديد الحرص على بقائها وتعظيم تأثيرها، وحتى في مجال الإعلام الذي يقال عنه دائما أنه يتعين أن يكون محايدا، لا يتردد هذا الإعلام في الانحياز لما يحقق مصالح مجتمعه ونظامه السياسي، ولا يخجل من ذلك. نحن فقط في منطقتنا العربية الذين نشغل أنفسنا بمسألة حيادية الإعلام، بينما لا يتصور عقلا ولا واقعا أن يتم اتخاذ موقف الحياد في مسألة شديدة الوضوح في الضرر الذي توقعه على حاضرنا ومستقبلنا.

هذه الثلاثية شديدة الصلة بالتنمية البشرية التي هي العمود الفقري في أي استراتيجية للتنمية، باعتبار أن الاستثمار في البشر هو الأساس للاستثمار في العمران أو الحجر. وما من أمة نهضت بالفعل إلا وبدأت أولا ببناء البشر. ومن الصحيح أن هناك متطلبات أخرى كالصحة وفرص العمل والخدمات ورفع مستويات الدخول، ولكن كل ذلك لا جدوى منه في غياب التعليم الجيد فضلا عن كونها نتيجة للنجاح الذي يتعين أن يتحقق أولا في التعليم. وإذا وضعنا جانبا الدول الغربية المتقدمة؛ فإن الدول التي صعدت إلى مصاف القوى الناهضة حققت ذلك بالتعليم أولا وقبل كل شيء، اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند الآن وماليزيا أمثلة على ذلك لا تخطئها العين. وأما الثقافة فهي مصدر المناعة الوطنية ضد أية مفاسد تهدف إلى تشتيت العقل وهدم الوجدان والزاد المعنوي المستدام للوصول إلى المعارف قديما وحديدها. هي مصدر للافتخار الوطني الذي يقوى النفس ويشعرها بالاعتزاز، وكذلك تشكيل الهوية الوطنية التي من خلالها تتحقق النظرة للحياة. ولا شك أن الثقافة تنمو وتزدهر كلما وجدت رموزها وروادها في مختلف مجالات الإبداع والفعاليات التي تبقيها نشطة بين جمهور الأمة بالإضافة إلى صور النشر المختلفة. وأخيرا فإن الإعلام بصوره المختلفة مثلما له وظيفة الإخبار، هو صاحب رسالة تعبر عن الطموحات والآمال المعقودة على مزيد من التقدم والنهضة والتصدي للتحديات. هو إحدى الآليات المهمة لتعظيم الفرص ودرء التهديدات لأن ما من أمة إلا وتواجه الأمرين معا خصوصا في هذا الزمان الذي تصاعدت فيه حدة التنافس والتهديد في نفس الوقت.بالتفاعل والتعاون الوثيق بين التعليم والثقافة والإعلام لا خوف على ذاكرة الأمة بوصفها مصدر الثقة في التعامل مع مستجدات الحاضر والتخطيط للمستقبل، مهما كانت وطأة التهديدات التي تنشأ من ظروف العصر المثيرة للقلق. تلك الظروف التي لا مفر من التعرض لها بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة، وفي ظل الاكتساح الرهيب لمجالات التواصل والتأثير في الرأي العام من جانب مختلف أدوات الشبكة العنكبوتية. لقد أدى ذلك إلى أن أصبح الفرد المواطن أيا كان مستوى تطوره هو الباب الأول الذي تأتي منه الفرص أو يتحقق من خلاله التهديد، وإن لم تكن ذاكرة الأمة حاضرة بقوة عنده فإنه سرعان ما يجزع أو يهتز أو ينجذب تلقائيا إلى السيئ لا إلى الجيد من ذلك الفيض من المعلومات والأنباء التي يتحصل عليها بين يديه بمجرد نقرة واحدة في جهازه المحمول!، والعكس صحيح فإنه لا شك مستفيد مما هو جيد من هذا الفيض إذا كانت ذاكرة الأمة حاضرة أيضا عنده.

في منطقتنا العربية لا نرى من المشهد إلا جانبه المظلم، أي الجزع والعيش داخل دائرة من القلق، بل والغضب والرفض والاحتقان أيضا لسبب مباشر هو سخونة المناخ العام بفعل الأزمات المتلاحقة، ولو أن الأوضاع غير ذلك لأصبح التعامل مع المشكلة أمرا عاديا ومحتملا. ولكن ما لا يمكن تجاهله هو أنه كلما ظلت ذاكرة الأمة حية ونشطة كلما نجح المواطن العربي في التعامل بحكمة مع هذا الفيضان المتدفق من المعلومات والأنباء التي يختلط فيها الحابل بالنابل، فيستطيع أن يميز بين الغث والسمين علما بأن لفظ التمييز كما هو معروف في اللغة يعني تفضيل الشيء على غيره، وجرى العرب على استخدام هذه العبارة للتدليل على تفضيل المرء للواقع على الخيال وللجيد على السيئ. ولا تبقى ذاكرة الأمة حية يقظة وفعالة لانتهاز الفرص ودرء التهديد إلا بمزيد من المتابعة والجهد من المؤسسات المعنية بالعناصر الثلاث: التعليم والثقافة والإعلام للمساهمة في التنمية البشرية الجيدة منذ الصغر حتى الكبر.

وما وطأة المناخ العام أو شدة الأزمات إلا دافع إضافي أقوى من أي وقت مضى لهذه المؤسسات لتقوم بجهد مضاعف في هذا الشأن. وبنظرة بسيطة على الواقع العربي فإن من انتبه لهذا الأمر واستعد له مبكرا نجا إلى حد كبير من مشكلات المواجهة الناجمة عن طوفان الانترنت وتدفق المعلومات خطئا كانت أم صوابا وتمكن من التمييز الحقيقي بين الغث والسمين، حيث عرف البداية الصحيحة بأن أقام تنمية بشرية قوامها الإبقاء على ذاكرة الأمة متماسكة ومتجددة، بينما من لم يدرك ذلك أصبح في مهب الريح.