أعمدة

نوافـذ: عندما نراهن على الحياة المدنية

09 فبراير 2018
09 فبراير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

استطاعت المدينة عبر إغراءاتها الاحتفالية أن تنتزع منا حالتنا القروية؛ هذا الانتزاع الذي نعنيه، ليس فقط الظاهر في أشكالنا الـ «مهندمة» فكل ما يبدو منها جميل، ومرتب، ورائع، وكأننا على خشبة مسرح، حيث يظهر الممثلون وكأنهم شخصيات أسطورية تتجاوز واقعها في كثير من الأحيان، وهنا لا أعقد مقارنة بين شكلين: أحدهما للمدينة؛ وآخر للقرية، فلم تعد هناك؛ خاصة اليوم؛ أية فروق موضوعية في الأشكال ذاتها، وإنما أذهب أكثر إلى شيء كنت أعرفه في القرية، بحسب التنشئة، وأفتقده في المدينة بحكم المعيشة، فالمدينة، وحسب وصف الروائي الأيرلندي ماكجرين في روايته (كي يواجهوا الشمس المشرقة) يقول ما نصه: «...عالما غيبته التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عصفت بالمجتمع الريفي (...) عالم يتلاشى بفعل الهجرة والرحيل ويذوي المجتمع فيه على هامش الحداثة وأنماط الحياة الجديدة» -انتهى النص.

تغرقنا هذه التحولات كثيرا، فلم نعد كما نريد أن نكون؛ وهذه ليست مبالغة؛ هذا واقع أمة، أو قل: أمم؛ إن شئت؛ فكل مرتهن وفق ما ينتج عن «التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية» وفق رؤية ماكجرين، وإن كان تاريخ هذه الرؤية يعود إلى ما قبل عام 2002م؛ حيث تاريخ صدور الرواية، وقد يكون ذلك بزمن أبعد، فالتحولات هي مشروع إنساني بامتياز، سواء كانت تحولات للأفضل والأحسن، أو كانت تحولات للأسوأ، المهم أن الحراك الاجتماعي حراك لا يتوقف، وإنما تُحمل الـ «مدينة» أكثر من القرية؛ لأن نسق الحياة في المدن؛ كما هو معروف؛ أكثر تسارعا وحيوية ونشاطا، وذلك انعكاس لما تعيشه المدن؛ عادة؛ في هذه الصورة الاحتفالية، ولأن المدن؛ غالبا؛ تضم بين جنباتها الكثير من التناقضات والمصادمات، والارتباكات، لوجود كم بشري آت من بقاع الأرض المختلفة باحثا عن تحقيق ذواته الوثابة نحو الطموح وتحقيق الآمال، والقرية بطبيعتها الهادئة الساكنة لا تستطيع أن تلبي هذه الحاجيات والرغبات لدى أبنائها فقط، فما بالك بآخرين أكثر طموحا، من هنا تُحمل الـ «مدينة» تعثر القيم في صورتها الشاملة فقط، وليس في فردية أفرادها، فهناك مقياس خاص، لا يجب تجاوزه، مع التسليم المطلق أن سكان المدن هم أفراد أيضا أتوا من قرى يحملون بين جنباتهم قيمهم، وعاداتهم، وقناعاتهم، وهم يسوقونها؛ بصورة أو بأخرى، أينما حلوا وارتحلوا، حفاظا على كينوناتهم الصغيرة، وليس في ذلك من خلاف. ولذلك تظل القيم محددا مهما في أي مجتمع، فكما هو مُسَلّم به في مجتمع القرية، هو أيضا يعول عليه الكثير في مجتمع المدينة الذي يوصف بهيلمانه وتدافعه، وضخامته، وهناك من ثَمنَ هذه الرؤية أيضا؛ ومن هؤلاء «فرنسيس فوكوياما» الكاتب وعالم الاجتماع، ومما قاله في هذا الشأن: «المجتمع المدني المركب بكل ما يتميز به من ثراء وحيوية، لا ينهض انطلاقا من التصنيع المتقدم بشكل حتمي، بل خلافا لذلك؛ فإن اليابان وألمانيا والولايات المتحدة؛ لم تصبح من أكبر القوى الصناعية في العالم، عموما إلا بسبب وجود ذخيرة ضخمة سليمة من رأس المال الاجتماعي، والميول العفوية للتواصل الاجتماعي، وليس العكس»- انتهى النص.

نعي جميعنا أن الرهان على الحياة المدنية فيه مخاطرة، ولا ينبغي التسليم مطلقا نحو هذا الاتجاه، وإلا حتما سنغرق في مستنقع الصورة المادية، وهي إن تحققت في أي جانب من جوانب الحياة، ستضر إضرارا مباشرا بالحياة الإنسانية، وعندها لا يستبعد أن يتصدر مفهوم: «الغاية تبرر الوسيلة» وتوظيف الوسيلة؛ أيا كانت؛ لتحقيق الغايات، فذلك سيكون على حساب القيم الإنسانية التي لا تزال تجدف بسواعد واهنة، للحفاظ على أي مقدر إنساني لا يزال العالم يعترف به.