1244104
1244104
إشراقات

خطبة الجمعة: تطوير النفس واستخراج طاقاتها ومواهبها انطلاقا نحو التغيير والرقي مطلب شرعي

08 فبراير 2018
08 فبراير 2018

إهمالها عقباه الضعف والوهن -

دعت خطبة الجمعة التي تعدها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى الحرص على تطوير النفس واسـتخراج طاقاتها واسـتغلال مواهبها حيث ان كل فرد منا ذو تميز.

مبيّنة ان لكل انسان ميدانه الواسع للإبداع والتقدم. فمن خلال نور العلم يسبر دقائق الحقائق ويكون الانطلاق نحو التغيير ليكون البناء وبداية الرقي..

ونبهت الخطبة إلى أن الفرد كما أنه مسؤول عن صلاح نفسه وتقويمها، فإنه مدعو إلى تطويرها وتعزيز قدراتها، فترك تزكيتها وإصلاحها عقباه خسران الدنيا والآخرة، وإهمال تطويرها عقباه الضعف والوهن.. وإلى نص الخطبة المعنون (التقويم والتطوير الذاتي مطلب شرعي).

الحمد لله رب العالمين، كرم الإنسان بالعقل بين العالمين، ودعاه إلى النظر والتغيير، لينشد التقدم والتطوير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل طريق الحق بينة متينة، القائل سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ)، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحـبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم ونفسي - عباد الله -، بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، فمن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أيها المسلمون:

يولد الإنسان في هذه الحياة صفحة بيضاء نقية، الفطرة صبـغته، والطهارة طبيعته، فتسـتقبله الحياة بطبيعتها وبيئتها، وتساهم في تكوينه بسلوكيات تجمعاتها، وأفكار مجـتمعاتها. وأول محطة له في حياته أسرته التي ولد فيها، وبيـته الذي احتضنه، فيكون أول ما تسود به صحيفته، ويبنى عليه فكره، ما يسـتقبله من أبويه، وما يجد عليه أهـله، وبعد الأسرة، يأتي المجـتمع الذي يمد يديه إلى عجينة هذا الناشـئ، فيشـارك - بقدر ما - في تشكيله وتكوينه؛ فيكون الإنسان ابـنا لبيئته، وغصـنا في شجرة مجـتمعه، متطبعا بطبائع من حوله، وهنا - إخوة الإيمان - يأتي سؤال شائك، زلت عنده أقدام، وضلت به أفهام، وهو أيؤاخذ الإنسان على أخطاء بيئته ومجـتمعه إن نشأ فيها، وغذي بلبانها، فسار على مناهجها؟! وهل من مقتضيات العدل أن يحاسب المرء على الأفكار الزائفة والمعـتقدات الباطلة والسلوكيات المنحرفة التي ربي عليها منذ نعومة أظفاره إن هو اتبعها أو أخذ بها؟! إننا نجد الجواب على هذا السؤال - عباد الله - في ثنايا كتاب الله عز وجل، يقول الله جل جلاله في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). سيحاسب المرء على ما اعتقد واكتسب، فلقد أودع الله عز وجل في نفوس كل خلقه جذوة الفطرة، وداعي الخير، ونور العقـل، فلا عذر لمن بلغ سن الرشد منهم من إجابة داعي الخير فيه، واتباع نداء فطرته، والسير بنور عقله، فالحق دائما أبـلج، والباطل دائما لجـلج. جاء عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).

أيها المؤمنون:

من كان يظن أن في الظروف القاهرة والبيئة الجائرة، عذرا للانحراف فليسـتمع إلى قول المولى جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ، ومن كان يظن أن اتباع الانحراف السائد في المجـتمع، والرضوخ للظلام المخيم عليه، أمر لا جريرة فيه؛ لأنه لا انفكاك منه، فليقف على قول العليم البصير: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)، والمؤمن ليس بإمعة - عباد الله - يتبع كل ناعق بلا تفـكير، ويرضى بكل فكرة بلا تمحيص. يقول خير الخلق صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحـسنا، وإن ظلموا ظلمـنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظـلموا). إن الله عز وجل يؤكد في غير ما موضع من كتابه العظيم أن كل إنسان مسـؤول مسؤولية فردية عن صلاح نفسه وفسادها، فيقول الله عز وجل: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، من هنا كان لزاما على كل إنسان أن يقوم بإصلاح نفسه وتربيتها وتزكيتها، يقول ذو الجلال والإكرام: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

أيها المحسنون:

هؤلاء صحابة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كان لكل فرد منهم عالمه المسـتقل من الهموم والآمال، والمعـتقدات والأفـكار، والمسؤوليات والالتزامات التي بنيت على أساس تنشئتهم، وصيغت على وفق بيئتهم، في مجـتمع الشرك والوثنية، كما صيغت بذلك علاقتهم الاجتماعية، وروابطهم الأسرية، لكن داعي الفطرة في أنفسهم ما لبث أن أجاب دعوة الخير والحق عندما نادى بها البشير النذير صلى الله عليه وسلم؛ فهجروا الباطل وحزبه، وهاجروا إلى الله في إقدام وثبات. ودعوة الخير والحق ما توقف نداؤها - أيها الكرام- وما انطفأت جذوتها، في كل زمان ومكان، يراها من أزال عن عيـني عقله الغشاوة، ويسمعها من فتح لفطرته مسامعها، فتبـقى إرادة المرء نفسه حاكمة لمسـلكه، وموجهة لطريقه، (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). والصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -، كما ضربوا أروع الأمـثلة في ترك الباطل واتباع الحق، ضربوا أروع الأمـثلة كذلك في الحرص على تزكية النفس وتقويمها وتربيتها، فهذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان يقول للرجل من إخوانه: (اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فيذكران الله ويحمدانه).

فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن على كل امرئ أن يكون ذا بصيرة وتمحيص، فلا يرضى بكل فكرة بحجة أن قومه عليها، أو بكل سلوك بذريعة أن الكل صانعه، كما عليه ألا يسمح لمن حوله أن يمـلكوا زمام توجيهه، ولا لعادات مجـتمعه أن تقيد سيره في الخير والرقي، أو تغطي عيـنيه عن رؤية النور والحقيقة. وليكن من شعارنا في مسير هذه الحياة (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

*** *** ***

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحـبه ومن والاه.

أما بعد: فاعلموا - رعاكم الله - أن الفرد كما أنه مسؤول عن صلاح نفسه وتقويمها، فإنه مدعو إلى تطويرها وتعزيز قدراتها، فترك تزكيتها وإصلاحها عقباه خسران الدنيا والآخرة، وإهمال تطويرها عقباه الضعف والوهن. إن المؤمن العاقـل لا ينتظر من أهـله ومجتمعه أن يأخذوا بيده إلى الرقي والتقدم، أو يدفعوه إلى اسـتغلال مواهبه، وإبراز ملكاته، وتنمية قدراته، بل يسعى بنفسه إلى بناء ذاته، ويحرص على تكوينها وتطويرها علميا، وعمليا، ومهنيا. ونحن نجد في كتاب الله عز وجل وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يسـتثير النفوس إلى ذلك، وما يدفع بالهمم إلى تحـقيقه، أوليس مما يحث النفس على طلب العلم وفتح خزائن المعارف قوله عز قائلا عليما: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)، أولا يدفع إلى ذلك قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجـنحتها لطالب العلم رضا لما يطلب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يطلب فيه علما، سهـل الله له طريقا إلى الجنة). وفي مجال التقدم العملي والسـلوكي نجد في قول ربنا جل جلاله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، نجد ما يجعل الجد في العمل سبيلا، والإخلاص قائدا له ودليلا، وهذا التأثير يصـنعه كذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، ويقول: (ما أكل العبد طعاما أحب إلى الله من كد يده، ومن بات كالا من عمل يده بات مغفورا له).

فلنتق الله -أيها الأحبة- ولنحرص على تطوير أنفسنا، واسـتخراج طاقاتها، واسـتغلال مواهبها، فكل منا ذو تميز، ولكل منا ميدانه الواسع للإبداع والتقدم. ولـنسبر بنور العلم دقائق الحقائق، وننطلق بأنفسنا نحو التغيير، فثم البناء وبداية الرقي، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.

اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.

اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).