إشراقات

فراغ عاطفي .. أم فكري؟!

08 فبراير 2018
08 فبراير 2018

نادية بت سعيد الخوالدية -

«بسبب غياب الدور الأسري الفاعل في تربية النشء وعلى رأس الأدوار الدور الأمومي الذي يحتل المكان الرئيسي من بين هذه الأدوار في حل هذه الإشكالية، فهناك تصريحات متفرقة للأم العربية ضمن حوارات مجالس النساء في الواقع أو على شبكات التواصل الاجتماعي أنها لا تريد أن تبذل أي عناء لتربية أبنائها أو بذل أي جهد يشوش استمتاعها بالحياة! ولسان حالها وإن لم تنطق «التلفاز والآي باد وعاملة المنزل يكفون ويوفون»!! وكأن تربية الطفل في مجتمعاتنا أصبحت مهمة مطبخية أو مهمة تنظيف يجلب لها عاملة منزل (مربية) لتؤدي معه الدور كبقية الأدوار فأي امتهان للعنصر البشري بلغته بعض الأسر والأمهات في مجتمعاتنا..»

 قبل سنوات كنت أتابع برنامجا تربويا لأحد الاستشاريين التربويين يتحدث فيه عن الغياب الوالدي في التربية وأثره النفسي والعقدي على شخصية الفرد طيلة مراحل عمره، فحكى يومها عن قصة شاب جاء إليه بعد أن مزقه التناقض والحيرة التي لا تنفك عنه، حيث عاش هذا الشاب في أسرة محافظة معروفة بقيمها وأصالتها في البلدة التي كان يسكنها، وكبقية أفراد العائلة يرتاد المسجد لأداء الصلوات ويشارك البقية في مناسباتهم الاجتماعية ثم تزوج وأنجب أطفالا يبعثون إلى الحياة حياة أخرى.. ولكن .. قالها وبكل صراحة للاستشاري أنه يصلي ولكن لا يؤمن بما نؤمن به ولا يقتنع بوجود إله واحد كما نعتقد بل وحين تشتد أزمات الحياة عليه وينضب ماء عاطفته وروحه يحجز تذكرة سفر ويقصد إليها وسط غابات وأدغال بلد من بلدان شرق آسيا ولا تهدأ نفسه حتى يرتمي في أحضانها ثم يعود إلى بلده!!! نعم إنها عاملة المنزل التي ربته واعتنت به منذ اللحظة الأولى التي أبصر فيها النور في دنياه وحتى بلغ 14 عاما من عمره - العام الذي رجعت فيه العاملة إلى وطنها بعد كبر سن كما يبدو - ، كان يقضي مع عاملة المنزل النصرانية ساعات طوال في طفولته تماما كأي أم مع طفلها، فكانت تنحت في فكره عقيدة الثالوث وتغذي عاطفته بحنان لا يمكن أن يسده ويملأ فراغه إلا هي...

 يقول حبيبنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته »، كم من خسائر نفسية وعاطفية وفكرية يخسرها أبناؤنا في الوقت الذي يلهث فيها الأب والأم وراء سداد فواتير خسائر شخصية لهم.. وكل منهم والأبناء يدور في حلقة مفرغة من الخسائر ويلقي بأسباب شقائه على الآخر، ثم إذا ما وقع أحد الأبناء في مصيبة نتيجة للفراغ الموحش في النفس والروح والعقل انهالت عليه كل جراح تلك الحلقة البائسة بين الأم والأب والأبناء.. والسؤال الذي يطرح نفسه: لم كل هذا العناء النفسي والطريق إلى بقعة النور واضحة؟؟!

 إن مشكلة الفراغ العاطفي، وأضيف عليها «الفكري» أصبحت مشكلة تهدد كيان الأسرة العربية من أقصى شرق الجزيرة وإلى أقصى غرب المغرب العربي بسبب غياب الدور الأسري الفاعل في تربية النشء وعلى رأس الأدوار الدور الأمومي الذي يحتل المكان الرئيس من بين هذه الأدوار في حل هذه الإشكالية، فهناك تصريحات متفرقة للأم العربية ضمن حوارات مجالس النساء في الواقع أو على شبكات التواصل الاجتماعي أنها - باختصار - لا تريد أن تبذل أي عناء لتربية أبنائها أو بذل أي جهد يشوش استمتاعها بالحياة! ولسان حالها وإن لم تنطق «التلفاز والآي باد وعاملة المنزل يكفون ويوفون»!! وكأن تربية الطفل في مجتمعاتنا أصبحت مهمة مطبخية أو مهمة تنظيف يجلب لها عاملة منزل (مربية) لتؤدي معه الدور كبقية الأدوار فأي امتهان للعنصر البشري بلغته بعض الأسر والأمهات في مجتمعاتنا..

 وعلى اختلاف ظروف العصر الحالي واتساع رقعة مهام المرأة في المجتمعات لا تأتي المطالبة للكم من الوقت الذي تمارس فيه الأم أو المربي دوره التربوي مع أبنائه، وإنما بيت القصيد في «الكيف» الذي يقضيه مع الطفل أو المراهق أو الأسرة كلها من ساعات يومه، فلو ضربنا مثالا على صنفين من أصناف الأمهات، الأولى معلمة في مدرسة ما تحاول جاهدة إنهاء واجباتها ومهامها الوظيفية أثناء ساعات الدوام، وبعد الرجوع وأخذ قسط من الراحة تتفرغ بقية اليوم لأبنائها من متابعة لمهامهم الدراسية ولعب معهم ومؤانسة ومشاركة لا تخلو دقائقها من تعويض عاطفي ونفسي بصور مختلفة، ثم تتفرغ لذاتها وبقية أفراد الأسرة حسب الوقت والجدول والنظام الذي تسير به شؤون بيتها.. وصنف آخر من الأمهات (غير عاملة وغير مرتبطة بمشاريع حرة) تتنقل طيلة ساعات اليوم من وسيلة تواصل إلى أخرى فإذا ما رجع الأبناء نادت على العاملة أو أحد أفراد الأسرة ليقدم لهم الطعام، ثم تخرج مع جارتها ثم إلى السوق ثم تعود مرهقة لتواصل تصفح مواقع التواصل فإذا ما اقترب منها أحد الأبناء شاكيا أو باكيا أو لديه مشكلة أجابته إجابات مختصرة على عجالة حتى لا تقطع حديثها الذي لا ينتهي في الهاتف، هذا إن لم تصرخ في وجهه أو وجوه الجميع ليصمتوا ويوفروا لها الجو الهادئ! فالقضية ليست قضية وقت وليست قضية عمل المرأة - إن كان معقولا في وقت غيابها عن البيت - بل ليست قضية تقليل من شأن ربة البيت غير العاملة وإنما هي في كيفية إدارة وتعبئة الدقائق في الجلسات الأسرية والحوارات الهافة مع الأبناء... ولا شيء يبني الفكر كبناء حوار الأم مع ابنها في السبع سنوات الأولى.. ولا شيء أثقل على نفسية الطفل أن تطعمه العاملة أو تغير له ملابسه وأمه مشغولة بنفسها أمام ناظريه..

 ومع هذا فإن الآثار السلبية المترتبة على أزمة الفراغ العاطفي والفكري لا تعني أن الأم - وإن جل دورها - هي المخاطب الوحيد لحل هذه المشكلة، فأولا وأخيرا يظل الفرد – صاحب المشكلة - هو المسؤول الأول عن إدارة ذاته فأول والدية للإنسان هي والديته لنفسه، وهذا منهج قرآني ونبوي «ولا تزر وازرة وزر أخرى» فالأم والأب والمربي أيا كان موقعه مسؤول عن الواجبات التربوية المناطة به اتجاه الفرد، ولكن السلوك الذي يكتسبه الفرد - نتيجة وجود مثل هذه المشكلة العاطفية - مهما تشعبت أسبابه ودوافعه فهو على رأس قائمة المحاسبين، ولعل هذه الثغرات النفسية هي مدار جهاد الإنسان في الحياة فكل له ثغرة يحاول سدها أو مزاحمتها بنقاط القوة إلا الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم - .

وسأجمل هاهنا بعض الحلول أو التطبيقات التربوية التي يمكن أن تعين على احتواء هذه المشكلة:

- ترسيخ الوازع الديني لدى الفرد، فوجود الحصانة الأخلاقية والإيمانية لدى الفرد تكون بمثابة سد مانع من الانحراف وإشباع الفراغ العاطفي أو الفكري بالطريقة السلبية، مع التنبه الجيد أن الفراغ العاطفي كمشكلة لا تحل بالوعظ وإنما هي مشكلة نفسية قد توجد لدى العابد أو المنحرف، أو أي فرد من الأفراد.

-  التوعية الشاملة على الأصعدة كافة التربوية منها والإعلامية والدينية لواجبات الأم والأب التربوية والفكرية من قبل تكوين الأسرة ومعرفة الهدف الرئيسي من الزواج وسعة الفكر والأفق والطموح في الذرية التي ينجبانها، وأن الأمر لا يقتصر على سد رغبات مؤقتة سرعان ما يمل منها ليطلب رغبات أخرى، وأن التربية أوسع وأعمق من توفير الحاجات المادية للأبناء.

- اهتمام المرأة بتطوير ذاتها من قبل مرحلة الأمومة وبعدها وفي كل مرحلة من مراحل حياتها وحياة أطفالها وأسرتها وأن يكون مشروع الأسرة الناجحة على رأس قائمة أولوياتها، كالالتحاق بالدورات والبرامج التعليمية والقراءة في الحاجات النفسية للمراحل العمرية للفرد، ومتابعة البرامج الهادفة على القنوات الإعلامية وقنوات التواصل، ونبذ الفكرة السقيمة التي ترددها بعض الأمهات عند ارتكاب أخطاء تربوية فادحة «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون».

- تلقي صاحب المشكلة لبرنامج علاج نفسي وفكري، يتناول المشكلة من الجانب العاطفي ثم تلقي الفرد لبرنامج ثقافي وفكري بما يتناسب مع تطلعاته وتطلعات المجتمع والأمة في أبنائها.

- أن تحتوي المناهج الدراسية على مناهج نفسية وتربوية وفكرية مستقلة تعرف الفرد بحاجاته النفسية في مراحله المختلفة وكيفية التعامل معها ومواجهة عقباتها ومشكلاتها، وكذلك تحتوي على الأدوار والحقوق والواجبات الأسرية لكل فرد من أفراد الأسرة، ومن ناحية الفكر تعرف الطالب على طرق التفكير وكيفية تمحيص الفكر الدخيل والتربية على الفكر الناقد وغيرها.

وختاما .. فإن مشكلة الفراغ العاطفي والفكري التي تؤرق بعض المربين تحتاج إلى صبر وأناة لسدها وتلافيها، وقد لا تظهر صورتها في البحث عن البديل المشبع لهذه العاطفة من قبل الشاب أو الشابة أو في تبني أفكار وعقائد مشبوهة ولكن قد تكون لها صور أخرى يعرفها المتخصصون وكلها تكون مصدر معاناة نفسية يعيشها الشاب صرح بذلك أم لم يصرح، لذلك السعي التربوي الحثيث لا ينبغي أن يقتصر عند حدوث أزمة أو مشكلة نتيجة وجود هذه المشكلة لدى الشاب، وإنما شعار المربي دائما.. الوقاية خير من العلاج ..