1244651
1244651
المنوعات

فن تفريغ المكتبة

07 فبراير 2018
07 فبراير 2018

ألبرتو مانجويل -

ترجمة: أحمد شافعي -

رأيي أن المكتبات العامة، بما تحتويه من نصوص افتراضية ومتعينة، أداة لا غنى عنها لمجابهة الوحدة. وأدافع عن مكانها بوصفها ذاكرة المجتمع وتجربته. وأقول إنه بدون المكتبات العامة، وبدون فهم واع لدورها، فإن مجتمع الكلمة المكتوبة منذور بالنسيان. وأدرك كما هو وضيع، وكم هو أناني في ظاهره، أن أتوق توقا إلى امتلاك الكتب التي أستعيرها. وأعتقد أن السرقة مدانة، ولكنني في مرات لا حصر لها كنت أستخرج كل ما يمكنني العثور عليه من المقدرة الأخلاقية لكي لا أدسَّ في جيبي كتابا مرغوبا. وتتردَّد في أفكاري أصداء بلونيوس إذ يقول لابنه «لا معيرا ولا معارا تكون». ومكتبتي الخاصة تحمل هذا الشعار بوضوح تام.

أحب المكتبات العامة، وهي أولى الأماكن التي أزورها حينما أكون في مدينة لا أعرفها. ولكنني لا أستطيع العمل سعيدا إلا في مكتبتي الخاصة، مع كتبي الخاصة، أو بالأحرى، مع الكتب التي أعرف أنها كتبي. ولعل في ذلك الأمر نوعا من الولاء العتيق، أو من حدَّةِ تعلق الشيوخ بمنازلهم، أو هو سمت محافظ في طبيعتي يتجاوز ما يمكن أن يعترف به شاب فوضوي في نفسه. مكتبتي لي كالقوقعة للسلحفاة.

في لحظة ما من عام 1931 كتب والتر بنيامين مقالة قصيرة اشتهرت الآن عن علاقة القراء بكتبهم. جعل عنوانها «تفريغ مكتبتي: خطبة عن الاقتناء» مستغلا فرصة تفريغه كتبه التي شارفت على الألفي كتاب من صناديقها في تأمل مزايا القارئ ومسؤولياته. كان بنيامين ينتقل من البيت الذي عاش فيه مع زوجته حتى طلاقهما القاسي في العام السابق إلى شقة مفروشة صغيرة كان يوشك أن يعيش فيها وحيدا للمرة الأولى في حياته كما قال «حياة شخص راشد». كان بنيامين في ذلك الوقت على «عتبة الأربعين وبلا ممتلكات أو وظيفة أو بيت أو أصول». فقد لا يكون من الشطط تماما أن نرى في تأمله كتبه موازنة لانتهاء زواجه.

الحزم والتفريغ وجهان لدافع واحد، وكلاهما يضفي المعنى على لحظات الفوضى. و«كذلك هو حال المقتني» كما يكتب بنيامين «يتنازعه قطبا الفوضى والنظام» وربما كان بوسعه أن يضيف: أو الحزم والتفريغ.

التفريغ في جوهره، مثلما أدرك بنيامين، نشاط واسع يفتقر إلى النظام. فالكتب إذ تتحرَّر من قيودها تتناثر على الأرض أو تتراكم في أعمدة متقلقلة تنتظر الأماكن التي سوف تتوزع عليها لاحقا. وفي مرحلة الانتظار هذه، قبل أن يتأسس النظام الجديد، توجد في مأزق التزامن والتذكر، مشكِّلة تحالفات مفاجئة غير متوقعة، أو مفترقة عن بعضها البعض ومتنافرة. فإذا بالخصمين اللذين تنافرا على مدار العمر جابرييل جارثيا ماركيز وماريو فارجاس يوسا على سبيل المثال يجلسان في تحابٍّ على رفِّ توقع واحد بينما أعضاء جماعة بلومزبيري الكثيرون يجدون أنفسهم وقد نفي كل منهم إلى منطقة مختلفة من «المناطق المشحونة سلبيا» (بحسب تسمية علماء الطبيعة) في انتظار اجتماع مأمول يلملم جزيئاتها.

وتفريغ الكتب ـ ربما لكونه فوضويا في جوهره ـ عمل إبداعي، وكما في كل عمل إبداعي، فإن الخامات المستعملة تفقد في ثناياه طبائعها الفردية: إذ تصبح جزءا من شيء مختلف، شيء يحتوي وفي الوقت نفسه يحوّل هذه الطبائع. وفي ثنايا ترتيب مكتبة، إذا بالكتب المتروكة خارج صناديقها والموشكة على الانتهاء إلى الرف تذرف هوياتها الأصلية وتكتسب هويات جديدة من خلال علاقات عشوائية، أو توزيعات قائمة على تصورات مسبقة، أو لافتات مستبدة. وفي مرات كثيرة وجدت أن كتابا أمسكته مرة بين يدي يصبح كتابا آخر حينما يحتل موقعه من المكتبة. هذه فوضى في شكل نظام. باتت نسختي من «رحلة إلى مركز الأرض» ـ التي قرئت للمرة الأولى قبل عقود كثيرة ـ مرافقة بقوة الترتيب الألفبائي لـ فيكروس وفيرلين، في موضع أعلى من مرجريت يورسونار وزولا وأدني من ستندال وناثانيل ساروت، وكلهم أعضاء في أخوية الأدب الفرنسي المعروفة. ما من شك في أن رواية جول فيرن المثيرة احتفظت في صفحاتها بآثار من مراهقتي المشحونة بالقلق، وبقايا من الصيف البعيد الذي وعدت نفسي فيه بزيارة بركان سنيفيلز، ثم صارت تلك الآثار، بمجرد وضعي الكتاب على الرف ملامح ثانوية، تغلبها الفئة التي فرضتها عليها لغة كاتبها والحرف الأول من اسمه. ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بترتيب وتصنيف مكتبة ذاكرتي وتؤدي الطقوس كما لو أن المكان الفعلي لم يزل موجودا. فلم أزل أحتفظ بمفتاح الباب الذي لن أستعمله مرة أخرى.

الأماكن التي تبقى جوهرية بالنسبة لنا تستعصي حتى على الدمار المادي. حينما أضرم نبوخذ نصر النار سنة 587 ق م في الهيكل اليهودي الأول، تجمّع الأحبار وفي أيديهم مفاتيح الهيكل، وصعدوا إلى السقف المحروق صائحين «يا سيد العالم، لم نكن جديرين بالحراسة، فلترَدَّ المفاتيح إليك»، ثم ألقوا المفاتيح باتجاه السماء. ويقال إن يدا ظهرت وتناولت المفاتيح، وبعد ذلك ألقى الأحبار أنفسهم وسط النيران المضطرمة. بعد دمار الهيكل الثاني على يد تيتوس سنة 70 م بقي اليهود يؤدون الشعائر المقدسة وكأن الجدران العتيقة لم تزل قائمة حولهم وظلوا يتلون الصلوات المكتوبة في أوقاتها المعلومة المناظرة للأوقات التي كانوا يؤدونها فيها في الهيكل الغابر. ومنذ ذلك الحين لم تعدَّ صلاة من أجل بناء الهيكل الثالث جزءا رسميا من صلوات اليهود الثلاث كل يوم. فالخسارة تستوجب الأمل، وتستوجب التذكر.

ولأن المكتبة موضع الذكرى، مثلما يشير بنيامين، فإن تفريغ المرء كتبه سرعان ما يصبح طقس تذكر. يكتب بنيامين: «ليست أفكارا، إنما هي صور وذكريات» تتداعى في ثنايا التفريغ. ذكريات مدن عثر فيها على كنوزه تلك، ذكريات قاعات مزادات اشترى فيها الكثير منها، ذكريات غرف ماضية احتفظ فيها بكتبه. والكتاب الذي أستخرجه من صندوقه، وفي اللحظة العابرة السابقة لوضعه في مكانه الصحيح، يتحول بين يدي فجأة إلى تذكار، أو أثر، أو جزء من الدي إن آيه، يمكن أن يعاد من خلاله بناء جسد بأكمله.

عن باريس رفيو