abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش.. ومتون : للعدسةِ لسانٌ ناطقٌ، وذاكرة

03 فبراير 2018
03 فبراير 2018

عبد الرزّاق الربيعي -

[email protected] -

يبدو أنّ المصوّر (محمد المحجوب) عندما أراد أن يلتقط صورة لمعرض للسيارات الكلاسيكية أقيم بمسقط في أبريل 2014 م وجد نفسه أمام مشهد جامد، فيه للحديد كلمة عليا، فاحتار فيما سيفعل، ليخرج بصورة تشدّ انتباه من يشاهدها، ولم تطل حيرته كثيرا، فقد شاهد سائحة أجنبية تلتقط صورة لإحدى السيارات بهاتفها النقّال، فأسرع بخفّة طائر، نحو المشهد، تلك الخفّة اعتاد عليها من كثرة عمله في الصحافة الرياضيّة، والتقط صورة، فإذا بالمشهد يبدو أكثر حيوية، لأنّ الصورة التي عنوانها الجمال، جمعت بين الأمس، والحاضر، بين الحياة، والجماد، فكانت صورة داخل صورة!!

تلك الصورة هي واحدة من عشرات الصور التي جمعها في كتاب حمل عنوان (عمان في ذاكرة العدسة) صدر عن وزارة الإعلام، وجرى تدشينه ضمن فعاليات (ملتقى الأسرة الإعلاميّة)، وفيه ترك للصورة أن تعرض خطابها السردي لتروي بلسان مبين محطات من تاريخ عمان الحديث من خلال أحداث سجّلها بكاميرته على مدى أكثر من عشرين سنة أقامها المحجوب في السلطنة، التي وصلها ليعمل مصوّرا صحفيا في إحدى المؤسسات، فأثبت نجاحه، فاعتمدته وكالة الأنباء الفرنسية مصورا مراسلا لها، منغمسا بالأحداث: السياسية، والثقافية، والرياضية، وكنت أراه حاضرا في أكثر من مكان، يظهر فجأة مثل (شبح) يهجم على فريسته (الحدث)، وليس معه سوى سلاح واحد هو (العدسة)، ومع تتابع الأحداث كثرت الصور، بدأ بعضها يختفي وسط أكداس الصور، وكان لابدّ له من أن يقوم بجمعها في كتاب تكون فيه الكلمة الأولى، والأخيرة للصورة الصحفيّة التي تبقى «الشاهد الأصدق على مجريات حياتنا اليوميّة، ذاكرتنا الباقية عبر تجاعيد المكان والزمان، سلطة الحاضر، ودليل بقاء» كما كتب معالي د.عبد المنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام في تقديمه للكتاب الذي جاء بعدّة فصول بدأها بصور صاحب الجلالة صانع الأحداث، أعقبها بفصل حمل عنوان (مسؤولون زاروا عمان)، وثالث عنوانه (حدث في عمان)، ورابع هو (المرأة)، وخصّص الفصل الخامس لـ(الفن والثقافة)، والسادس لـ(الرياضة)، وخلال ذلك ترى صور ملوك، ورؤساء دول، وشخصيّات عامّة، وأدباء ، وفنّانين، ورياضيّين، إلى جانب أحداث هامّة جرت في السلطنة، خلال العقدين الأخيرين، لم تسمح لها عدسته أن تهرب، فقام بتوثيقها، ليكون شاهدا عليها.

ورغم التطوّرات التي حصلت في صناعة الكاميرات، إلا أن الصورة لدى المحجوب ظلّت واحدة، لأن عينه هي التي صنعها، وليس الآلة التي تلتقطها، وهو قبل أن يضغط على زر التصوير يكون قد قرأ المشهد قراءة بصريّة واعية، من أجل أن تكون الصورة ناطقة، ومعبّرة. عرفت (المحجوب) خلال حضوره العديد من الفعاليات الثقافية، والمهرجانات الفنية مصوّرا، قبل أن نعمل في أكثر من مؤسسة صحفية، ونسافر معا، وكنت خلل ذلك أبحث عن خبر، فيما يبحث عن صورة، لا تعزّز الخبر فقط ، وتسدّ مكانا فارغا في الصفحة، بل لتضيف له، وتكمله، وتمنحه أبعادا جماليّة، وتشحنه بمعلومة، قد تكون فاتت على المحرّر!

ومثل محارب، مثقل بأكثر من سلاح، كان يسير مع حقيبة يضعها على كتفه، بها عدسات، ومساند، وأدوات تعينه في عمله، ومن ثقلها حفرت أوجاعا على ظهره، اضطرّته أن يخضع للعلاج، في المستشفيات أكثر من مرّة، وكنت أراه يضع في يده اليمنى كاميرة تبدو ثقيلة، لذا يدعمها باليسرى، ويحملها، بحنوّ، كما يحمل طفلا حديث الولادة، فيما تتدلى من رقبته كاميرة أخرى، وقد تكرّر هذا المشهد أمامي كثيرا، حتّى أكاد لا أعرف (المحجوب) عندما أراه بدونها، فقد صارت جزءا من شكله العام!

وهناك سرّ آخر من أسرار تميّزه، وعلوّ كعبه في التصوير كونه قارئا جيّدا، وقد حدث أكثر من مرّة، بينما يكون منشغلا بتصوير لقطة مميّزة لفنّان، أو أديب كنت أحاوره، ويستفزّه رأي للضيف، فيوقّف عن التصوير، ويضع الكاميرة جانبا، ويدخل على خطّ الحوار، موجّها ملاحظات دقيقة للضيف الذي يبدو مندهشا، من الزاوية التي جاءت منها (نيران) يفترض أن تكون (صديقة) !!

ومن يتصفّح كتاب المحجوب المصوّر (عُمان في ذاكرة العدسة) يلاحظ حساسيّته العالية، ودقّته في اختيار زاوية التقط الصورة، ومراعاته جوانب عديدة، قبل أن يلتقط صورة لها لسان ناطق، يؤسّس ذاكرة.