أعمدة

نوافـذ :مدرستي.. لا تزال حاضرة

02 فبراير 2018
02 فبراير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

طرحت على نفسي؛ قبل بداية الكتابة في هذا الموضوع: هل نسينا المدرسة؟ هل نسيتنا المدرسة؟ هل بقي شيئا من مفهومها في أنفسنا؛ وفي سلوكياتنا؛ وفي محاذيرنا؛ وفي قناعاتنا؛ وفي بعدنا وقربنا؛ ما مستوى الذكرى العالقة في أذهاننا؟ ما الذي نحمله لهذا الكيان الجميل؛ الذي لهونا يوما ما في ساحته، ورسمنا خطوطه العريضة والطويلة عبر خارطتنا الذهنية؟ وماذا عن تلك الشخوص الرائعة؛ المخلصة؛ الباذلة نفسها للآخر – جملة المعلمين – الذين نقر لهم بالمعرفة، ونجل مكانتهم، وندعو لهم بالخير، ونترحم على من غادرنا منهم، كل هذه المشاهد تتوالى اليوم أمام ناظرينا كفيلم سينمائي متسلسل، لم تشوهه الأيام وحوادثها كثيرا، ولم تلغ الذاكرة الكثير منها، وترانا في كثير من لقاءاتنا الصافية؛ نعيد الكثير من مناخات تلك الفترة، لأن هذا الكيان «المدرسة» تمثل في وجداننا جميعا، ذلك المناخ الذي أتاح لنا مساحة العطاء بلا مقابل، وفرصة اللقاء بلا انتهاء، وأمل البقاء بلا يأس، فلم تكن المدرسة المساحة التي تحيطها الجدران الأربعة فقط، وما تحتويه من غرف يطلق عليها «صفوفا» بل كانت مرتعا مهما من مراتع الطفولة والصبا، وتكوين الذات، تشكلت من خلالها شخصياتنا، ونمت عبرها مدركاتنا، وتسامت بها قدراتنا، عرفنا معنى الـ «كلمة»: معلم، مدير، كتب، قراءة، كتابة، دفاتر، أقلام، سبورة، طباشير، وما رافقها من أفعال: اقرأ، أكتب، ناقش، اجتهد، ابحث، احفظ، احك، تأمل، احسب، عدّ، تكلم، احترم، لا تخجل، الزم: الصف؛ النظام؛ النظافة؛ الهدوء؛ لا تعتدي، لا تأخذ حق غيرك، حافظ على: نظافة جسمك؛ ملبسك؛ صفك؛ حيث الـ «ألف» مبتدأ الكلمة، ومنتهاها الـ «ياء»، وعبر (28) حرفا مجموع حروف اللغة العربية، تكونت هذه الشخصيات اليوم التي تذرع الأرض شرقا وغربا، منتصرة لذاتها، ومعتزة بشخصياتها، ومتحققة آمالها، ومنتصرة على إراداتها.

لم تكن هناك مدرسة راقية، ومدرسة أقلها رقيا، كان هناك طالب مجتهد، وآخر أقل اجتهادا، كان هناك طالب يأتي من قمم الجبال ودهاليز الوديان مشيا على الأقدام، وآخرون يمتطون سيارات اللاندروفر المعراة من كل أدوات السلامة؛ حيث تعفر أجبنتهم النظرة الأتربة ويعصدهم زمهرير الشتاء ولواهيب الشمس الحارقة في منتصف النهار، لم يكن معلمنا يحتاج الى كثير من التهديد والوعيد ليجبر الطالب على احترامه، فيكفي شبحه يتهادى من البعيد لتتقاذف الأقدام هروبا وتزاحما؛ تعبيرا عن احترامه وتقديره؛ وليس الخوف منه فقط.

في المسافة التي تفصلنا عن سور المدرسة؛ حيث المنازل تكون الأقرب؛ في بعض الأحيان؛ تكون المدرسة المرتع الآمن الذي يضم أبناء الأحياء القريبة، فأنشطتها لم تكن موقوتة في فترة الدوام الرسمي، كان السهر لتنفيذ أنشطة المدرسة الى وقت متأخر من الليل، فالمهم جدا أن تكون مدرستنا في طليعة المدارس التي تتنافس على أنشطة كثيرة في ذلك الوقت، ولعل مسابقة «أوائل الطلبة» من أشد المسابقات ضراوة، حيث تشد الرحال الى مدارس تبعد مئات الكيلو مترات لإقامة هذه المسابقة التي يتنافس فيها الطلاب والطالبات، وتنتصر فيها المعرفة، وتكون الرحلة عبر هذه التطواف الجميل ما بين المدارس المتباعدة من أجمل الرحلات يجد فيها الطلبة المتنفس الجميل، ويتعرفون من خلالها على بلدان أكثر جمالا، وأناس أكثر دماثة في الخلق والكرم والتضحية. هنا؛ لا أرسم فقط صورة خيالية لشيء ما أسمه مدرسة، فالواجبات تقصف الظهر، حيث نعيد كتابة الدرس في اللغة العربية الممتد لأكثر من أربع صفحات في بعض الأحيان، مرات متكررة، تصل في بعض الأحيان الى خمس مرات، وعلينا أن نقدم واجبنا المدرسي هذا في اليوم التالي، وإلا ستمزق بطون أقدامنا العصي، ومع ذلك نعود فرحين من المدرسة، ونذهب إليها في اليوم التالي أكثر فرحا.

تبقى ذكريات مدرستنا أكثر بقاء، وأنصع صورة، وأجمل فترة من فترات العمر، وسيبقى معلمونا في إخلاصهم وأخلاقهم وحرصهم وتفانيهم «كبارا» نرفع الأكف ضارعين إلى الله عز وجل أن يكرمهم في أعمارهم وصحتهم، وأن يرحم الموتى منهم.