أفكار وآراء

واشنطن وأنقرة وعملية غصن الزيتون

31 يناير 2018
31 يناير 2018

عبد العزيز محمود -

بات واضحا أن عملية غصن الزيتون في منطقة عفرين السورية تثير أزمة عنيفة بين واشنطن وأنقرة، بينما تتباين مواقف باقي الأطراف، فالأكراد يتهمون روسيا بالتخلي عنهم، والسلطات السورية في دمشق تتهم الأتراك بانتهاك السيادة السورية، وإيران لا تبدي معارضة للعملية التي تتم في ظل تنسيق تركي روسي إيراني على ما يبدو.

ويبدو أن الحلم الكردي بإقامة منطقة حكم ذاتي شمال سوريا في سبيله للتلاشي، كما فشلت في السابق محاولة استقلال كردستان العراق، وسط إجماع من كل دول الجوار، على وأد أي محاولة لإقامة دولة كردية مستقلة تكون نواة لإنشاء كردستان الكبرى.

ومع تهديد أنقرة بتوسيع العملية لتشمل منبج، حيث تتمركز القوة الضاربة من مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي يعتبره الأتراك الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، أعلنت واشنطن أن منبج خط أحمر، في ظل وجود قوة أمريكية بها قوامها نحو ألفي جندي.

وهكذا تدخل عملية غصن الزيتون، التي بدأت في ٢٠ يناير الماضي، مرحلة حرجة، قد تنتهي بمناوشة ما تركية أمريكية، ما لم يستجب أحد الطرفين لمطالب الآخر، أو يتوصلان إلى حل وسط، في ظل تصميم تركي علي المضي قدما في العملية، التي جاءت ردا على رفض واشنطن وقف الدعم العسكري للأكراد، واعتزامها تشكيل قوة كردية قوامها ٣٠ ألف مقاتل، للعمل كقوة حدودية في المناطق المتاخمة لحدود تركيا الجنوبية مع سوريا.

وسواء كان الدعم الأمريكي للأكراد، يشكل تهديدا للأمن القومي التركي، كما تقول أنقرة، أو يستهدف تشكيل قوة كردية تحول دون عودة تنظيم الدولة - داعش - مجددا في شمال سوريا، كما تزعم واشنطن، فالمؤكد أن عملية غصن الزيتون تثير توترا كبيرا بين البلدين. والحقيقة أن طموحات الأكراد في الاستقلال تشكل هاجسا لتركيا، التي تخوض حربا ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني المعارض منذ عام ١٩٨٤، لمنع الحزب من السيطرة على المناطق الكردية في تركيا وإقامة دولة كردية في الجنوب، وهو صراع لم يتوقف إلا عامين (٢٠١٣-٢٠١٥) وتسبب حتى الآن في مقتل نحو ٤٠ ألف قتيل من الجانبين.

وفي ظل مخاوف من إقامة كيان كردي في شمال سوريا، في ظل الشراكة القائمة بين حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وجناحه المسلح، المعروفة باسم ، وحدات حماية الشعب، نفذ الجيش التركي عملية غصن الزيتون بالتعاون مع الجيش السوري الحر المعارض لدمشق، بهدف إقامة منطقة أمنية خالية من المقاتلين الأكراد بعمق ٣٠ كيلو مترا على طول الحدود التركية السورية. وهي عملية وضعت الولايات المتحدة في مأزق، فالأكراد والأتراك حلفاء تاريخيون، وهي لا تستطيع أن تتخذ موقفا في هذا الصراع لصالح طرف ضد طرف، وهذا ما دفعها لمحاولة الوساطة بعد اعترافها بمشروعية المخاوف الأمنية للأتراك، وأيضا بحق الأكراد في الدفاع عن أراضيهم. وهو موقف ملتبس ساهم في زيادة التوتر بين واشنطن وأنقرة، بعد أن اعتبره الأتراك محاولة لتخفيف الضغط عن الأكراد، مما دفعهم لمطالبة الولايات المتحدة بسحب قواتها من منبج، حتى لا تحدث مواجهة بينها وبين القوات التركية، التي تعتزم مواصلة العملية حتى يتم تطهير المناطق الموازية لحدود تركيا الجنوبية من المقاتلين الأكراد ، على حد ما أعلنته انقرة. ويبدو أن واشنطن لا تريد التصعيد مع الأتراك، ولا ترغب في الوقت نفسه في التخلي عن حلفائها الأكراد، ما لم يكن هناك ضرورة قصوى تستدعي ذلك، لذا تركز في الوقت الراهن على إقناع الأتراك بأن استمرار عملية غصن الزيتون، يهدد الإستراتيجية الأمريكية في سوريا.

وهي إستراتيجية تركز على محاولة حل الأزمة السورية عبر عملية سياسية ترعاها الأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى دولة سورية موحدة تتسع للجميع، وذلك بالتزامن مع تقليص النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، وتأمين جيران سوريا من أي تهديدات تنبع من الداخل السوري.

ولا شك أن هناك توافقا أمريكيا تركيا على العملية السياسية في سوريا، لكن هناك أيضا خلافات حول الأهداف الأخرى، لذا تحاول واشنطن إقناع الأتراك بأن التوسع الإيراني المدعوم روسيا في سوريا يشكل تهديدا لهم، بينما يعتبر الأتراك هذا الطرح محاولة لوأد تقاربهم مع إيران وروسيا.

ومع استمرار الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي للأكراد السوريين، تبدو رغبة واشنطن في حماية جيران سوريا من أي تهديدات تنبع من داخل سوريا، بعيدة عن الواقع، في ظل تصميم الأكراد السوريين الذين تعتبرهم أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على إقامة كيان كردي في شمال سوريا، وهو كيان تتخوف تركيا من وقوعه تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، بشكل ما في المستقبل . ومن الواضح أن محاولة واشنطن لإقناع أنقرة بوجهة نظرها، لم تحقق تقدما، فالأتراك يشعرون بالمرارة من عدم التزام الولايات المتحدة في السابق بوعودها، سواء فيما يتعلق بتراجع المقاتلين الأكراد إلى ما وراء نهر الفرات، أو وقف شحنات السلاح الأمريكية للأكراد، ثم جاء الإعلان الأمريكي عن تشكيل قوة كردية قوامها ٣٠ ألف مقاتل في شمال سوريا، بمثابة دليل جديد للأتراك على أن الأمريكيين يخدعونهم.

وأمام الموقف التركي المتصلب وجدت واشنطن نفسها أمام خيارين كلاهما مر، فهي لا تستطيع التفريط في شراكتها الإستراتيجية مع تركيا، بموقعها الجغرافي الملاصق لروسيا، وعضويتها في حلف الناتو، وحليفها السابق في الحرب الباردة وأيضا في الحرب ضد أفغانستان والعراق وتنظيم الدولة - داعش . كما لا يمكنها التفريط في شراكتها الإستراتيجية مع الأكراد، الذين لعبوا دورا أساسيا في الحرب ضد تنظيم الدولة، ويشكلون سدا منيعا للحيلولة دون عودة التنظيم مجددا، وهذا ما دفع واشنطن لمحاولة التوفيق بين الحليفين المتصارعين. وتعتمد الخطة الأمريكية على إقناع الأكراد السوريين بالنأي بأنفسهم بعيدا عن حزب العمال الكردستاني، حتى لا تتسبب العلمية العسكرية التركية في تحطيم قدراتهم العسكرية، وإقناع الأتراك بإمكانية التعاون مع الأكراد السوريين، حال التزامهم بهذا الشرط، كما فعلوا مع الأكراد العراقيين، وحتى يتفرغ الجميع لمواجهة العدو المشترك.

لكن الأتراك فيما يبدو ما زالوا غير مقتنعين بالخطة الأمريكية، التي يعتبرونها جزءا من وعود أمريكية سابقة تم التراجع عنها، لكن البديل الآخر من وجهة النظر الأمريكية هو انخراط الجيش التركي في حرب استنزاف طويلة الأجل مع المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، أو السماح بوقوع هذه المناطق تحت سيطرة دمشق وكل من إيران وروسيا. وهكذا ومن خلال التلويح بوجود تهديد مشترك، تحاول واشنطن إقناع الأتراك والأكراد بضرورة التعاون، لتحقيق مصالح إستراتيجية في مواجهة عدو مشترك، وهو ما يعني تخلي الأكراد السوريين عن حلم الاستقلال، وان يقبل الأتراك بدرجة من الحكم الذاتي في المناطق الكردية بسوريا.

مشكلة الخطة الأمريكية أن الأتراك يدركون جيدا أن إقامة أي كيان للحكم الذاتي في شمال سوريا بجوار حدودهم الجنوبية، سوف يؤدي لقيام دولة كردية مستقلة في المستقبل، وهو ما لا يمكن قبوله من جانب تركيا، وأيضا من جانب العراق وإيران وسوريا، وهكذا فإن الطرح الأمريكي يساعد جهود روسيا وإيران الرامية لسحب تركيا بعيدا عن الولايات المتحدة وحلف الناتو.

وهكذا تستمر عملية غصن الزيتون بالتوازي مع وساطة أمريكية في الكواليس هدفها وقف القتال بين الأتراك والأكراد والدخول في حوار، في عملية ليس معروفا بدقة كيف ستنتهي، في ظل تصلب تركي وشد وجذب من أطراف دولية وإقليمية.