أفكار وآراء

مواكبة عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة

31 يناير 2018
31 يناير 2018

عمــاد عريــان -

«ليس خافيا أن توفير فرص التوظيف للأفراد المؤهلين لدخول سوق العمل هو الهم الأكبر لأي حكومة وهو أيضا هدف أساسي من وراء برامج التنمية وعمليات الاستثمار، ووفقا للحسابات الاقتصادية فإن توفير فرصة عمل واحدة ربما يحتاج إلى عشرات آلاف الدولارات، ما يؤكد أن المسألة ليست من السهولة بمكان»

ومن الطبيعي أن يكون هدف توفير الوظائف وفرص العمل لمن هم مؤهلون ضمن قوائم القوى العاملة ، وللشباب المقبلين على دخول سوق العمل بعد انتهاء مراحل دراساتهم أو فترات تدريبهم على رأس مسؤوليات أطراف العملية الاقتصادية، ممثلة في الحكومات والمؤسسات الرسمية والقطاع الخاص والمواطنين المقبلين على سوق العمل أو الباحثين عن فرص للتوظيف، كل في مجال اختصاصه. وتبرز هنا بالتأكيد أهمية تبني مفاهيم ريادة الأعمال والمبادرات الاقتصادية القائمة على الابتكارات والاختراعات الجديدة، ودعم الخطط الوطنية لبناء قواعد اقتصادية راسخة تصب في نهاية المطاف في مصلحة الوطن والمواطن على حد سواء، وانطلاقا من ذلك يمكن التأكيد على أنه لا تناقض على الإطلاق بين خطط التنمية الوطنية الشاملة ومبادرات الأعمال الخاصة والمشروعات الصغيرة ومنح مساحة أكبر لمشاركة القطاع الخاص والاستثمارات الخارجية, وهكذا يجب أن تكون لتحقيق معدلات تنمية مستدامة، وهو ما تحقق بالفعل في عديد من الدول التي طبقت هذه المعادلة منذ وقت طويل وفقا لخطوات وبرامج مدروسة.

وبكل تأكيد يحتاج الأمر إلى بذل المزيد من الجهود لتشجيع المواطنين على اقتحام مجال العمل الخاص - سواء من خلال ريادة الأعمال وقيادة المشاريع الخاصة، أو من خلال الالتحاق بوظائف الشركات والمؤسسات الخاصة - بدلا من انتظار الوظائف العامة أو الحكومية والرسمية، فاقتحام الشباب والمواطنين عموما لهذه القطاعات سيساهم بالفعل مساهمة إيجابية للغاية في رفع معدلات التشغيل ومن ثم التنمية بشكل واضح، وإذا كانت هناك ضرورة لتحقيق ذلك بمزيد من التشريعات والقوانين التي تساعد على دعم هذا الهدف وجعل العمل بالقطاع الخاص أكثر جاذبية، فلابد من التحرك سريعا لتحقيق هذه الخطوة بعد خطوات مهمة تضع التنمية البشرية في خدمة توطين القوى العاملة في مختلف المجالات.

ومن حيث المبدأ فإن الحكومات مطالبة بالفعل بتهيئة البيئة الجاذبة للأعمال والاستثمارات، وأصبحت كذلك مطالبة بتهيئة كل الظروف الملائمة لانطلاق المشروعات الصغيرة والبناءة، التي هي ترجمة صريحة وعملية لمجال ريادة الأعمال. ومن شأن ذلك في نهاية المطاف أن يصب بالتأكيد في مصلحة النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة ، وكذلك يمكن توظيف هذا التوجه بما يخدم الخطط طويلة المدى للدول والاقتصاد الموجه ، وعند هذه الحقيقة ليس مستغربا أن تسلك بعض الحكومات الطريق الأصعب نحو تنمية شاملة من خلال مشروعات عملاقة لا تغيب عنها مبادرات ريادة الأعمال ، وما حدث في الصين وكوريا الجنوبية على مدار عشرات السنين الماضية، دليل واضح على ذلك ، فالدولة عليها واجبات هائلة تجاه خطط التنمية، تأسيسا على أنه لا يمكن لأي برامج تنموية أو خطط إصلاحية أن تنجح بدونها ، أو في حالة غيابها، خاصة الجانب التنظيمي أو التأسيسي، وتتحمل مسؤوليته بالكامل الدولة، ممثلة في حكومتها ومؤسساتها وهيئاتها وأجهزتها الرسمية، المكلفة بوضع التشريعات والقوانين والقواعد التنظيمية للشؤون الاقتصادية، وتهيئة البنى الأساسية في مختلف القطاعات وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين ورواد الأعمال، وإجمالا فهي المكلفة بتهيئة وإعداد البيئة الصالحة لانطلاق الأعمال والمشروعات الجديدة ، وليس خافيا أن أي عملية تنموية شاملة ومتكاملة، تتضمن تطوير الواقع الاقتصادي بمكوناته المتعددة بما فيها المكون البشري، بحفز قدراته المعرفية والمهارية ، ولن يتأتى ذلك إلا بتضافر مجموعة من العوامل التي أصبح متعارفا عليها دوليا كسبيل للتنمية المنشودة ومنها : استغلال الموارد الذاتية أفضل استغلال، وتنويع النشاط الاقتصادي واستغلال الطاقات البشرية ، حيث العنصر البشري هو محور العملية التنموية لأنه المستهدف بها والصانع لها في الوقت ذاته، إضافة إلى المشاركة المجتمعية الشاملة بدمج كل فئات المجتمع في العملية التنموية، دون إقصاء أو استبعاد أو تهميش، لأسباب دينية أو مذهبية أو عرقية أو نوعية ، كتلك التي تفرق بين الرجل والمرأة، سواء في عملية التوظيف ذاتها، أو عند المعاملة المالية ممثلة في المرتبات والأجور والمستحقات المالية عموما.

لعل ما سبق عرضه، إلى جانب حتمية رفع معدلات التنمية البشرية، تمثل مبادئ عامة وأساسية لتهيئة البيئة المناسبة من مختلف أطراف النشاط الاقتصادي، لإيجاد فرص العمل وفق خطط علمية مدروسة، ولكن هناك أيضا عوامل مهمة يجب أخذها في الاعتبار، بل واعتبارها أساسا مهما عند تبني هذه الخطط، والحديث هنا عن الثورة العلمية الطاغية التي تجتاح العالم في العقود الأخيرة، وأصبح الحديث عنها تحت مسمى «الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة» وزحفت بقوة على المفاهيم الاقتصادية ، في معظم دول العالم ، الكبرى منها على وجه التحديد، وأصبحت هذه التحولات العلمية الكبرى المرتبطة بالأتمتة والتكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، وفتح الباب بقوة أمام استخدام «الآلة الذكية» أو «الإنسان الآلي» أو «الروبوت» أو«الدرونز» - أيا كان المسمى - في أعمال ووظائف كانت حكرا على العنصر البشري دون غيره في كل المجالات على وجه التقريب، هذه التحولات أصبحت مجالا للبحث الدقيق والدراسات الفاحصة لإيجاد إيجابات شافية للتساؤلات القائمة حول تأثير تلك التحولات العلمية على فرص التوظيف الحالية والمستقبلية.

فهناك في الدول الصناعية الكبرى كالولايات المتحدة واليابان والصين وألمانيا وبريطانيا وكوريا الجنوبية، أعلنت دراسات بالفعل حول نسب مشاركة «الذكاء الاصطناعي» في العملية الاقتصادية بعد خمس أو عشر سنوات ، وما سيترتب على ذلك من استغناء عن قوى بشرية عاملة في الوقت الراهن أو إيجاد مزيد من الوظائف أو نوعيتها وتخصصاتها أو إعادة توجيه القوى العاملة في اتجاه معين بما يعني إعادة توظيف واستيعاب القوى البشرية العاملة في وظائف ومجالات تناسب الواقع الجديد، خاصة وأن الصورة لا تزال غير محسومة فيما يتعلق بإيجاد مزيد من فرص التوظيف أو تسريح جماعي للأيدي العاملة لصالح « الآلة»، إلا أن هناك إجماعا على حدوث تأثيرات محتومة لهذه التطورات.

وانطلاقا من هذه الحقائق بات لزاما على القوى المجتمعية كافة ، وأطراف العملية الاقتصادية والمعاهد والمؤسسات والهيئات البحثية، أن تدرج هذه المسألة في أعمالها بشكل شامل لبحث تأثيراتها المجتمعية وكذلك الاقتصادية ، حاضرا ومستقبلا ، ونظن أنها مدركة أن عملية تخطيط اقتصادي شاملة يجب أن تأخذ في اعتبارها، بل وتنطلق على أساس الحقائق الجديدة للذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة ، حيث ترى مؤسسات ودراسات وأبحاث عالمية أن عام 2020 سيشكل عاما محوريا بالنسبة لتطورات التوظيف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، خصوصا مع تحوله إلى حافز إيجابي فيما يخص البحث عن العمل، وفي ضوئها من المتوقع أن تتنوع الوظائف التي يمكن أن تتأثر بتوجهات الذكاء الاصطناعي بحسب قطاعاتها، حيث ستشهد وظائف الرعاية الصحية والقطاع العام وقطاع التعليم على سبيل المثال طلبا متزايدا ومستمراً خلال عام 2019 ، في حين تتأثر وظائف قطاع التصنيع سلبا بشكل كبير خلال العام نفسه، واعتبارا من بداية 2020، ستشهد فرص العمل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي انتعاشا إيجابيا، لتصل أعدادها إلى مليوني وظيفة جديدة بحلول عام 2025.

في حين تعرض دراسات أخرى صورة صعبة لمستقبل سوق العمل ، في مجال تقنية المعلومات عام 2020 وما بعده، وطبيعة الوظائف التي ستسود في ذلك الوقت والتي ستتراجع ، أو ربما تختفي , وتؤكد الدراسات أن التطورات في مجال «الذكاء الاصطناعي» وتعلم الآلة وعمليات الميكنة أو «الأتمتة»، ستترك تأثيرا واضحا على سوق العمل ، وفي مقدمتها أن هذه التطورات ستسهم بقوة في اختفاء أو تراجع ما يقرب من 7.1 مليون وظيفة على مستوى العالم ، بينما ستسهم في المقابل في توفير وإيجاد 2.1 مليون وظيفة جديدة، لتكون الخسارة الصافية نحو خمسة ملايين وظيفة، فضلا عن أنها ستعمل على نشوء ضغوط كبيرة في سوق العمل، تهبط بالأجور وترفع مستويات التفاوت وعدم العدالة في العائدات، ولكنها ستفرض في الغالب مواصفات مغايرة للتوظيف ومهارات مختلفة لراغبي الدخول في سوق العمل.

وانطلاقا من تلك التحليلات، بات من الضروري إجراء مزيد من الدراسات وعمليات التقييم لبحث التأثيرات المحتملة والمتوقعة للذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة على التوظيف ومجالاته، وهي خطوة أساسية مطلوبة من أطراف العملية الاقتصادية، وهي كذلك وكما سبقت الإشارة، الأجهزة الرسمية للدولة بوزاراتها وهيئاتها ومؤسساتها المختلفة، ومنظومة القطاع الخاص، وكذلك المواطن أو العنصر البشري الذي بات لزاما عليه النظر لفرصة التوظيف ومتطلباتها بشكل مختلف في ضوء الحقائق السابق عرضها.