الملف السياسي

تعاون وتضحيات كل الأطراف .. ضرورة وطنية !

29 يناير 2018
29 يناير 2018

د.عبدالحميد الموافي -

من المؤكد أنه ليس مصادفة على أي نحو أن ينشغل المجتمع العماني ككثير من المجتمعات من حولنا في المنطقة وخارجها بمسألة تشغيل الباحثين عن عمل والسعي إلى إيجاد فرص عمل لاستيعابهم، فهذه المسألة تعيشها وتواجهها مجتمعات عربية وغير عربية متقدمة ونامية منذ سنوات مضت حتى الآن، وستتواصل بالقطع إلى الغد، لسبب بسيط هو أن المجتمعات تنمو، ويزداد عدد سكانها ، وتتلاحق الأجيال ودفعات الخريجين من مراحل التعليم المختلفة عاما بعد عام بمعدلات تزيد دوما عن أعداد فرص العمل المتاحة أو التي يمكن توفيرها سواء عبر مشروعات جديدة، أو من خلال زيادة حركة و نشاط الاقتصاد الوطني، وما يصاحبه من درجة أعلى من التشغيل في قطاعاته المختلفة؛ ولذا فإن قضية تشغيل الخريجين والباحثين عن عمل بشرائحهم ومستوياتهم المختلفة هي قضية دائمة ومتجددة، لن تختفي تماما في وقت من الأوقات، ولكن يمكن أن تنتظم الحركة بالنسبة لها، وأن تتكامل الخطوات بشأنها لتسير بشكل أكثر سلاسة، وأقل ضغطا بما يحقق الاستيعاب للجزء الأكبر من الخريجين والباحثين عن عمل بدون حدوث درجة من التكدس تفتح المجال غالبا لمشكلات جانبية أخرى لا تظهر عادة في الأحوال العادية، ولكن ذلك يتطلب في الواقع درجة عالية من التخطيط الكفء والتنفيذ الأكثر كفاءة، وقبل ذلك وبعده درجة عالية من الالتزام والشعور بالمسؤولية المشتركة، بين الحكومة وأبناء المجتمع ككل، وبالطبع القطاع الخاص؛ للتعامل مع هذه المسألة منذ وقت مبكر، وليس من مرحلة التخرج بالطبع، ومن هنا تظهر أهمية وضرورة التخطيط، سواء على الأجل القصير، أم على مستوى الأجل المتوسط والطويل؛ لأنها مشكلة ذات جوانب متعددة ومتداخلة، منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية، فضلا عن أنها تتأثر كذلك بتقاليد المجتمع وأعرافه ونظرة أبنائه للعمل، وحتى لدور الحكومة ومسؤوليتها في المجتمع، وإذا كانت هناك الكثير من الدروس والخبرات السابقة لمجتمعات أخرى عربية وغير عربية في مجال تشغيل الخريجين، وقيام الحكومة بدور مركزي، وهو ما أدى في كل الأحيان تقريبا إلى تكدس وترهل الجهاز الإداري للدولة بالعاملين، وظهور أشكال مختلفة للبطالة المقنعة، ثم تفاقم الوضع عندما خففت تلك الحكومات من مسؤوليتها والتزامها بتشغيل الخريجين، وبالتالي انتظار الخريجين لعدة سنوات فإن العولمة والاقتصاد الحر والسوق المفتوح ساعدت في الواقع من الحد من مسؤولية الحكومات في هذا المجال، وجعلت الحكومة أقرب إلى «المنظم» بالمفهوم الإداري للتعبير. والمؤكد أن درجة الوعي المجتمعي بهذه المشكلة وبدور الأطراف المختلفة حيالها، وهى هنا الحكومة والقطاع الخاص والمواطن الباحث عن عمل، تؤثر إلى حد كبير في أساليب التعامل مع المشكلة، ومن ثم في القدرة على استيعابها والحد من الآثار المترتبة عليها اقتصاديا واجتماعيا على الأقل، ولعله من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إنه من المهم والضروري في البداية التوقف أمام ما يعنيه التشغيل، أو فرصة العمل، التي يبحث عنها أبناؤنا وبناتنا، خاصة بعد تخرجهم من مراحل التعليم المختلفة. صحيح أن خبر التعيين، أو القبول في عمل، هو من أهم الأخبار التي تنتظرها أسر كل الخريجين، وتفرح بها كثيرا، وكذلك الأبناء لأن الانخراط في عمل، هو بالفعل بداية مرحلة جديدة من الحياة بالنسبة لهم، ينتقلون منها من مرحلة التلمذة والتعليم والاعتماد الكامل على الأسرة إلى مرحلة الاستقلال المادي، ولو النسبي عنها في البداية على الأقل، ولكن الصحيح بالتأكيد أن الأمر ليس مجرد عمل يتلقى عنه الابن أو الابنة مرتبا ما آخر كل شهر، فالعمل أو التشغيل والتوظيف، بهذا المفهوم، كان مسؤولا في كثير من الأحيان عن حالات تشوه عديدة في الجهاز الإداري للدولة، وفي المالية العامة لتلك المجتمعات التي جعلت من استيعاب الخريجين وتوزيعهم إجباريا على الوزارات والهيئات والشركات لاستيعابهم أمرا مؤسفا، بل ومرادفا للبطالة المقنعة، فلا الأبناء يشعرون بأهميتهم في أعمالهم، ولا يحققون ذاتهم فيها، ولا أعمالهم ترحب بهم، ولا تحاول الاستفادة بهم، وبالتالي تحولت مرتباتهم إلى عبء إضافي على الموازنات بالنسبة للحكومة والمؤسسات، وتم تعطيل هذه الطاقات الشابة والطموحة، بل وحرمان الوطن منها. ولذا تم الإقلاع عمليا منذ سنوات عن هذا الأسلوب العقيم. واصبح الأمر يعتمد، بدرجة كبيرة، على قدرة سوق العمل على استيعاب الخريجين والباحثين عن عمل، لتوفر مواصفات لديهم يحتاجا سوق العمل اليوم وغدا، وينبغي أن تتوفر لديهم.

وفي ضوء ذلك فإن التشغيل المطلوب، أو المرغوب فيه، هو ذلك الذي يحقق مصلحة الباحث عن عمل، ومصلحة الشركة أو المؤسسة، أو جهة العمل التي يعمل فيها، ومصلحة الاقتصاد الوطني ككل في النهاية، باعتبار أن الباحث عن عمل هو في النهاية طاقة إنتاجية مفيدة، إذا تم توظيفها وتشغيلها بشكل صحيح، وبما يعود بالفائدة على كل الأطراف، وإذا كان من غير السهل عادة تحقيق الدرجة المرغوبة من التناغم الكبير في هذا المجال، فإن آليات التشغيل في السوق، ودرجة الوعي والالتزام من جانب كل الأطراف، بل والتضحية أحيانا بمكاسب آنية، من أجل مكاسب أطول تلعب دورا كبيرا في تحديد مدى أو درجة النجاح في تحقيق هذا التناغم بين الحكومة والقطاع الخاص والباحثين عن عمل لتحقيق المصلحة الوطنية الأكبر، أي مصلحة الوطن ككل في النهاية.

*ثانيا: إنه إذا كانت الحكومة في المجتمعات الغربية، ومجتمعات السوق الحر، تخففت كثيرا من مسؤولياتها في مجال التشغيل والتوظيف، وتركت الأمر في هذا القطاع، لآليات السوق، مع قيامها بالطبع بمسؤولياتها في العمل على الحفاظ على حركة الاقتصاد والعمل على زيادة ديناميكيته وقدرته على النمو، وحل المشكلات التي يتعرض، أو قد يتعرض لها، حتى لو اقتضى الأمر تدخل الحكومة بشكل أكبر من المعتاد أحيانا، خاصة في حالات الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية، والأمثلة في هذا المجال كثيرة جدا، حتى في أمريكا ذاتها، فإن الأمر في مجتمعاتنا العربية بوجه عام وفي دول الخليج بوجه خاص يختلف، إذ إن النظرة إلى الحكومة في المجتمعات الخليجية بالذات لا تزال أسيرة لمفهوم مجتمع الرفاهة الذي يوفر لأبنائه كل احتياجاتهم تقريبا بسهولة ودون عناء كبير. فإلى جانب توفير خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وتوفير مختلف الخدمات الأخرى بأقل قدر من التكاليف فإنه لا يزال ينظر إلى الحكومة على أنها القادرة، بل المسؤولة عن تشغيل الخريجين، وإيجاد وظائف وفرص عمل لهم، وهى نظرة ليست فقط فات أوانها، بل إنها غير صحيحة لاعتبارات موضوعية عديدة وعملية أيضا، فالجهاز الإداري في كل دول مجلس التعاون لا يستطيع بالفعل استيعاب الخريجين عاما بعد عام، كما أن الاقتصاد في تلك البلدان يحتاج إلى قوة عمل الخريجين في قطاعاته المختلفة للاستفادة بها، ومع توسع الاقتصاد الوطني في كل منها أخذ دور القطاع الخاص فيها يتسع ويكبر، ويصبح بحكم قدراته الراهنة والمستقبلية القطاع القادر على استيعاب أعداد أكبر من الباحثين عن عمل. ولعل مما يفيد في هذا المجال أن القطاع الخاص العماني يستوعب الآن أكثر من مليون وسبعمائة ألف عامل أجنبي، وهو ما يعني قدرته بالتأكيد على استيعاب بضع عشرات من الآلاف من الخريجين، أو الباحثين عن عمل سنويا.

وبالنظر إلى أن الأمر ليس مجرد إحلال نظري فإن هناك مشكلة مزدوجة، فالقطاع الخاص بمؤسساته وشركاته، وبرغم رغبة الكثير منها في التعاون مع الحكومة، إلا أن درجة استيعابه للباحثين عن عمل لا تزال حتى الآن غير كبيرة لاعتبارات كثيرة ومعروفة، وإذا كانت هناك شركات كبيرة تمتعت ببعد نظر وذكاء ملحوظ تمثل في تبنيها لأعداد من الباحثين عن عمل والتعهد بتدريبهم على النحو الذي يفيدها وتوظيفهم لديها، ومن ثم سد احتياجاتها، وضمان ولاء العاملين فيها لسنوات طويلة، إلا أن آلاف الشركات في القطاع الخاص لا يتوفر لها لا هذه النظرة، ولا الإمكانيات المتوفرة لشركات النفط مثلا، ومن هنا فإن الحكومة تحاول القيام بدور «المنظم»، بمعنى العمل والتنسيق مع القطاع الخاص لإيجاد فرص العمل المتوفرة لديه والممكنة، وإتاحتها للشباب الباحثين عن عمل. فالحكومة ووزارة القوى العاملة ليست لديها مخزون من فرص العمل ولا الوظائف جاهزة لتقديمها للباحثين عن عمل، ولكنها تسعى وتتعاون مع القطاع الخاص، وتشجعه وتقدم له امتيازات ليوفر فرص عمل للباحثين عن عمل، بل وتفرض عليه أحيانا نسب تعمين، كأسلوب لتسريع عملية التشغيل، وبعد هذا الجهد من جانب الحكومة والقطاع الخاص فإن الحلقة لا تكتمل، ولا تعطي ثمرتها وجدواها، إلا إذا قبل الأبناء فرص العمل المتاحة والمعروضة عليهم؛ لأنه بدون ذلك لن تتحقق فائدة ما بذل من جهد، ومع ذلك يتم رفضها أحيانا بسهولة، وربما دون تفكير، تعللا بسبب أو بآخر، وثقة أيضا بأن الحكومة ستعمل على توفير فرصة أخرى، وربما أكثر من فرصة.

*ثالثا: إنه إذا كانت نظرة المجتمع والمواطن للحكومة ولدورها قد تكون وترسخ عبر السنوات والعقود الماضية، بما في ذلك افتراض مسؤوليتها – الحكومة – عن إيجاد فرص عمل، فإن تغيير هذه النظرة، وبرغم أن العمل في هذا الاتجاه بدأ قبل سنوات، إلا أنه يظل في حاجة إلى جهد أكبر، على المستويات الإعلامية والثقافية والتعليمية، وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي أيضا للتأكيد على مسؤولية الفرد والأسرة والمجتمع في تشغيل واستيعاب الباحثين عن عمل، ودور الفرد في العمل على إيجاد وتأسيس مشروعه الخاص، وتنمية الاتجاه نحو التشغيل الذاتي والحرفي، وتنمية ثقافة إنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقبل ذلك تنمية شعور الفرد بالمسؤولية، حيال نفسه وحيال الوطن وأن الحفاظ على مستوى معيشة أفضل يقتضي بالضرورة العمل الجاد من جانب كل مواطن في موقع عمله أيا كان هذا الموقع؛ لأن اقتصاد الوطن هو ببساطة محصلة عمل أبنائه والعاملين في قطاعاته المختلفة؛ ولذا فإن كل مواطن قادر على أن يضيف إلى اقتصاد الوطن، إذا قام بممارسة عمل منتج، وفي الوقت ذاته فإنه يخصم أو يستهلك من قدرة المجتمع والاقتصاد إذا لم يعمل عملا منتجا، أو إذا ظل في حالة بطالة مقنعة، أو إذا تلقى راتبه دون عمل يحقق به ذاته، أو يضيف به إلى المجموع.

ومع التقدير لجهود كل الأطراف العاملة من أجل إيجاد مزيد من فرص العمل للباحثين عن عمل، اليوم وغدا، فإنه من المؤكد أن خيط المصلحة الوطنية يربط بين كل الأطراف، الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين الباحثين عن عمل وأسرهم أيضا، وبالتالي فلا مناص من تعاون وتكاتف وتضحيات كل الأطراف، فبقاء واستمرار المسألة لا يخدم أحدا، والرهان في النهاية على وعي المواطن العماني ويقظته وإدراكه لمسؤوليته الوطنية في الحفاظ على مكتسبات النهضة اليوم وغدا لأنه المستفيد الأول منها في الحقيقة.