أفكار وآراء

المتناقضات .. معناها ودلالاتها وأهميتها في حياتنا !

28 يناير 2018
28 يناير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

إن مجموعة المفارقات التي نستحضرها انعكاسا لمختلف التضادات أو المتناقضات التي نعيشها في حياتنا، سواء تلك من وحي الطبيعية كالليل والنهار، أو من تخيلات الألوان، كاللونين الأسود والأبيض، إنما هي وحي نفسي، يعكس ما يختلج في نفوسنا من شعور قد نبالغ في تقديره، فكل هذه المشاهد الكونية، أو الطبيعية تكون في سياقها الطبيعي جدا.

نعيش أفراحنا وانكساراتنا، سرورنا وحزننا، ابتهاجاتنا وعبوسنا على امتداد يومنا، ونحول كل ذلك من حالات طبيعية موسومة بالإنسان لنسقطها على مختلف التضادات التي نعيشها في اليوم والليلة، حيث نرى في الليل حالة صادمة قاتمة، ونقيسها على مثل هذه الانكسارات، وهذا الحزن، وهذا العبوس او البؤس، حيث يكثر: التبرم والتشكي وعدم الرضا، وإلباس الحياة ثوبا قاتما من السواد، والنزوع نحو الضجر، والتململ، وأن الحياة خلقت لبشر دون آخرين، والأخذ بالقياس المادي البحت في ميزان الخيارات الممنوحة، واختزال كل المكتسبات الإنسانية، على كثرتها، منذ منشأ الحياة الأولى، والى مرحلة العمر المتقدمة الى نتيجة متواضعة ضيقة لا تستأهل أن نكبر فيها قيمتها الإنسانية الكبيرة، ويأتي النهار ليجلي كل هذه الترسبات، ويزيل الستائر الداكنة فيغرقنا في كثير من الفرح والسرور والابتهاج والأمل أكثر.

حيث نأمل في الغد أكثر مما حققناه في يومنا هذا، وتوغل في الصحاري القفار؛ ونرى قسوة الطبيعة في الجدب، وفي غبار الأتربة اللاهبة للوجوه، وندخل في البساتين الخضراء فتورق النفس باخضرار اشجارها، وزهورها، نرى في موت القريب ستائر من اليأس، وصغر الحياة وهلاميتها وتفاهتها، وفي المقابل نرى في ميلاد طفل يصرخ للتو صرخته الأولى، ويتجدد فينا أمل البقاء والاستمرار، وأن الحياة؛ يقينا؛ ماضية الى تقدمها، وهكذا تتوالى علينا تضادات الأشياء ومتناقضاتها؛ فمنها ليس لنا يد في تغييره حيث الليل والنهار، الصيف والشتاء، الحق والعدل، الحب والكره، الحر والبرد، والطول والقصر، والفقر والغنى، والذكاء والغباء، والعلم والجهل، ومنها تكون أيدينا متلبسة بشيء منه: الكره والرضا، العطاء والمنع، التضحية والأثرة، الكرم والبخل، كل هذا تدخل في ممارسات اليومية في الحياة بطريقة أو بأخرى، فمنا من يعي هذه المتضادات ويوظفها بالطريقة التي يرى فيها خير حياته، ومنها من يقف منها الموقف المعادي ويحملها إخفاقاتها، وقلة حيلته، وهكذا تستمرئ الإنسانية الاستسلام لمناخات هذه المتضادات الى آخر حدودها القصوى.

هنا أيضا يجب ان نصيخ السمع الى العوامل النفسية التي تحدد مستوى هذه المتضادات، وتأثيراتها على حياتنا اليومية، وبالتالي فإن كان هناك من يلعن الظلام؛ لأنه يرى فيه متاهة من الخوف، ومن تحجيم الفعل الإنساني الممتد، ومن كونه وكر للإجرام، فإن هناك من يرى فيه واحة للتأمل والتوحد مع الخالق عز وجل، حيث تكثر الابتهالات والنداءات الخفية المرسلة الى رب السماء، وقد امتدح الله أولئك الذين خصصوا من الليل مساحتهم الآمنة للتهجد والتودد، وما ينطبق على الليل هذا السواد الحالك، كذلك ينطبق على النهار هذه الرؤية الأفقية الممتدة الى ما لا نهاية، حيث تتحرك الآلة البشرية هنا، ويتضح فعلها هنا، وتسمو هنا، ويعلو صوتها هنا، فسبحان الله في هذه التضادية؛ كما وصفه الكاتب الكبير عباس العقاد - رحمه الله – :

“صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا

وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا

ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا

وذو الأولاد مهمومٌ .. وطالبهم قد انفطرا

ومن فقد الجمال شكا .. وقد يشكو الذي بُهِرا

ويشقى المرء منهزما .. ولا يرتاح منتصرا

ويبغي المجد في لهفٍ .. فإن يظفر به فترا

شُــكـاةٌ مالـها حَــكَـمٌ .. سوى الخصمين إن حضرا

فهل حاروا مع الأقدار .. أم هم حيروا القدرا؟”

إلا أن هذه التضادية التي ارتبطت بالإنسان على وجه الخصوص، جاءت لتكمل نواقصه، حيث تتكامل الأشياء في ضديتها، فما ينقصنا في شيء، يكمل نقصنا الشيء الآخر «النقيض» بل نواقصنا هي دوافع لنا لأن نكمل مسيرة حياتنا اليومية، فالفقير يجبر كسره الغني، والجاهل يكمل معرفته المتعلم، والضعيف يسنده القوي، وطول الجري طوال النهار، وراء مستلزمات الحياة، يوقف تسارعه الليل حيث السكينة والهدوء، وذلك امتثالا لقوله تعالى: (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) وهذه المراجعات النفسية التي تجسدها الأبيات الرائعة للحكيم العقاد، هو ذلك الهاجس النفسي الذي يعترينا لكل فقد، فما أن نفقد الشباب وصخبه؛ وندخل مرحلة الشيب والكهولة؛ تأتي هذه المداغدة (من فعل يدغدغ) النفسية لتحن الى ذلك الماضي الجميل، على الرغم أنه لما نكون في حالاتنا الإنسانية التي نكون عليها، يكون هذا الشعور بعيدا، حيث نكون في زحمة الحدث الذي يشغلنا عن الاستغلال الأمثل للمرحلة التي نكون فيها، وهي مراحل نمر عليها كلها بلا استثناء: الشباب، الغنى، العمل، الجمال، الصحة، المجد، إلا أن جماليات هذه الأشياء كلها تمر علينا في لحظة عين كما نعتقد، بينما هي تمكث كثيرا، وإن كانت بنسب متفاوتة بين شخص وآخر، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى «وإن لله في خلقه شؤونا».

وكما ترتبط حالات التضاد بالحالات الإنسانية على وجه الخصوص، هي أيضا ترتبط بحقيقة الألوان، حيث تلعب الألوان دورا محوريا في مسألة المعاني المتضادة، ربما أكثر من غيرها، وذلك بحكم التفاعل النفسي اليومي معها من قبل الإنسان، وقد شكل اللونان الأبيض والأسود - وهما اللونان المركزيان في مجموعة الألوان – وقد وظف هذان اللونان توظيفا تجريديا، انعكاسا للونيهما الصارخين، فاللون الأسود، وهو اللون القاتم والرامز وفق بعض التصورات الى اليأس والقنوط والحزن، يتقاطع تضاديا مع اللون الأبيض؛ والرامز الى السلام والاطمئنان والرضا؛ ويتداخل معهما اللون الأحمر؛ والرامز الى سفك الدماء والمخاطر بدرجاتها المتفاوتة، إلا أن هذين اللونين شكلا أهمية كبيرة في حياة الناس، ونسجت على أساسهما الكثير من التصورات، وأنزلا منزلة تكاد تتجاوز منازل كل الألوان، ولعل ارتباطها بالليل والنهار، أعطاهما هذه الأهمية، وجسدت في حالتيهما مختلف التصورات والتخيلات الى حد بعيد، ومن ذلك – على سبيل المثال – اصبح في حكم العرف أن مجموعة الناس ترتدي اللون الأسود في حالات الوفاة، أو في الحالات المعبرة عن الموت والحزن، وقد رسم الشيطان شكلا مخيفا بلون أسود؛ كنوع من التخيل؛ بينما عبر باللون الأبيض عن السلام، حيث الحمامة البيضاء شعارا للسلام، وما بين الحرب والسلام حالة تضاد عبر الناس عنهما بالأسود والأبيض وهما لونان متضادان في الشكل والمعنى، كما هو سائد.

اختم هنا بنص قرأته في رواية «مذكرات دجاجة» للدكتور اسحق موسى الحسيني، وهو مفكر معروف من فلسطين، يقول فيه: «عجيب أمر هذه الدنيا؛ ففي يوم يمتلكنا الانقباض والضجر، وفي آخر يشيع في قلوبنا الطرب والفرح؛ ترى ما سر هذين الشعورين المتناقضين» فهل النور والدفء وسيلة من وسائل البهجة والسرور» وهل البرد والظلام وسيلة من وسائل الانقباض والضيق» إن كان الامر كذلك فلا بد ان يكون الخالق قدر للخلق أن ينقبضوا يوما، ليبتهجوا يوما آخر، ولعله أراد أن يلون الحياة بلونين متناقضين ليستطعموا السرور بعد الابتئاس والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، ولو كان أيام الخلق جميعها على وتيرة واحدة لكانت حياتهم ذات لون واحد وطعم واحد، ولما وقعت لهم المتناقضات التي هي فتنة الحياة، ومصدر السعي والنشاط. ما على المخلوق إذن أن يتبرم بالحياة وهو عالم بأن لعسره حدودا تنتهي عند يسره، وأن ليسره حدودا تنتهي عند عسره» - انتهى النص -.

وأصل الى نتيجة أيضا؛ وهي: أن مجموعة المفارقات التي نستحضرها انعكاسا لمختلف التضادات أو المتناقضات التي نعيشها في حياتنا، سواء تلك من وحي الطبيعية كالليل والنهار، او من تخيلات الألوان، كاللونين الأسود والأبيض، إنما هي وحي نفسي، يعكس ما يختلج في نفوسنا من شعور قد نبالغ في تقديره، فكل هذه المشاهد الكونية، او الطبيعية هي تكون في سياقها الطبيعي جدا، وليست هناك ثمة ضرورة لأن نزحم بها أنفسنا الضيقة لنلبسها معاني أخرى قد تقوض علينا جمال الحياة وسرورها، ولعل في هذه التضادات والمتناقضات كلها ما يجعلنا نميز بين دلالات الأشياء، لنعطي أنفسنا فرصة التفكير في الاختيار، وفي الانتقاء، لنكون على بصيرة في مختلف سلوكياتنا، وتعاملاتنا في هذه الحياة.