أفكار وآراء

عودة متأخرة لواشنطن لإفساد الطبخة الروسية !!

27 يناير 2018
27 يناير 2018

د. عبدالعاطي محمد -

ما إن أعلنت الولايات المتحدة عزمها على تشكيل قوة أمنية على الحدود السورية قوامها من الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية، حتى اشتعلت الأزمة السورية مجددا. احتجت تركيا وبدأت تحركا عسكريا مضادا في شرق الفرات، وقالت موسكو إنها ستوجد طرقا لمنع الولايات المتحدة من انتهاك السيادة السورية، واعتبرت السلطات السورية الخطوة عدوانا أمريكيا. وتزامن ذلك مع إعلان الولايات المتحدة بقاء قواتها في سوريا، بعدما كانت روسيا قد سحبت قواتها.

البنتاجون حاول أن يخفف من وقع هذه الخطوة لتهدئة الجانب التركي عندما قال إن الأمر لا يتعدى تدريب حلفاء الولايات المتحدة من الأكراد في شمال سوريا على مسائل الأمن الداخلي من أجل منع بقايا مقاتلي «داعش» من مغادرة سوريا، وتحسين الأمن في المناطق المحررة، وشدد على أن واشنطن حريصة على الشفافية بالكامل مع تركيا فيما يتعلق بجهود مكافحة التنظيم، وستبقى ملتزمة حيال شريكتها في حلف الأطلنطي ضد الإرهاب. وبهذا التفسير أراد البنتاجون التأكيد لتركيا بأن ما يجري ليس بناء جيش للأكراد في المنطقة.

ولكن أنقرة لم تقتنع بهذا التفسير استنادا إلى أن هذه القوة الأمنية يصل عدد أفرادها لنحو 30 ألف عنصر ويجري تسليحها بمعدات عسكرية ثقيلة مما يجعلها بمثابة جيش حقيقي يستطيع أن يعزز أهداف الأكراد هناك لإقامة دولة لهم لن تقبل أنقرة بوجودها بأي حال من الأحوال. واعتبر كبار المسؤولين الأتراك هذه الخطوة تهديدا لأمن بلادهم القومي لا يتعين السكوت عليه، ولم ينتظروا طويلا حيث تحركت القوات التركية بالفعل إلى عفرين ومنبج لإجهاضها وشددوا على ألا يصل الأمر إلى حد الاصطدام عسكريا مع الولايات المتحدة. ولأن روسيا معنية بأية تطورات تحدث على أرض الواقع في الأزمة السورية خصوصا إذا كانت الولايات المتحدة طرفا فيها، وبالنظر إلى علاقاتها الجيدة مع الأكراد هناك، حرصت أنقرة على أن تحصل على الضوء الأخضر من موسكو بهذا الشأن وهو ما حدث بالفعل.

ما رفع من درجات القلق عند كل من موسكو وأنقرة هو ما أعلنه ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية خلال محاضرة ألقاها في جامعة ستانفورد حضرتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وذلك بعد أيام قليلة من الإعلان عن رؤية البنتاجون بهذا الخصوص، عندما استعرض ما أسماه باستراتيجية جديدة للولايات المتحدة في سوريا ستحقق وقفا نهائيا للقتال. وفي ذلك تم التأكيد مجددا على بقاء القوات الأمريكية في سوريا برغم النجاح الذي تحقق في القضاء على تنظيم داعش أو إضعافه إلى أقصى حد، بما يعنى أن تهديده لم يعد قائما، ذلك النجاح الذي كان يفترض انسحاب قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة طالما تحقق هذا الهدف. وما رشح عن هذه الاستراتيجية هو أن بقاء القوات الأمريكية يستهدف منع عودة «داعش» بما لا تتكرر معه أخطاء الانسحاب الأمريكي من العراق، وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، والتوصل إلى حل سياسي لا يسمح في نهاية الطريق ببقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة. وقوام هذا الحل - وفقا لما طرحه تيلرسون - هو إقامة نظام ديمقراطي في سوريا لدولة مركزية تحظى بالشرعية وتحقق الاستقرار.

مصدر القلق عند أنقرة هو أن الحليف الأمريكي يطعنها من الخلف على حد تعبير بعض المسؤولين الأتراك ، لأنه يدعم الأكراد هناك سواء من خلال القوة الأمنية على الحدود أو إذا ما تحولت إلى جيش، أو بقاء القوات الأمريكية ذاته الذي سيصبح عامل دعم وتشجيع لهم مما يدفع أنقرة إلى التورط في صراع مسلح ، لم تكن تنتظره ولا تريده أصلا، وهو أمر يختلف تماما عن المهام التي قامت بها لمحاربة «داعش» في سوريا وأحرزت فيها نجاحا أقر وأشاد به المسؤولون الأمريكيون أكثر من مرة.

وأما مصدر القلق الروسي فإنه يتعلق بما تعتبره موسكو تحركا مضادا تماما لما تخطط له من حل سياسي للأزمة السورية، فالمعروف للكافة أن روسيا كانت قد أعلنت منذ فترة الانتصار على «داعش» في سوريا وما تبقى منه وما يندرج تحت عنوان الجماعات المسلحة المعارضة للنظام، لم يعد يشكل تهديدا لا لروسيا ولا لنظام الأسد الذي لا تخفي أنها تدعمه، ولذلك أعلنت انسحاب قواتها من هناك واحتفظت بوجودها العسكري في حميميم وطرطوس، ونظر الرئيس بوتين لما حققته قواته ، وللدور الذي قامت به روسيا ، على أنه إنجاز يعزز فرص نجاحه في الانتخابات الروسية القريبة ثم الاستمرار في الحكم لفترة رئاسية جديدة. ووقتها سارعت الإدارة الأمريكية إلى التشكيك في الإعلان الروسي بانتهاء الحرب على «داعش» ، وأكدت أنه إعلان متعجل وغير دقيق ، حيث لا يزال للتنظيم وجود في المناطق السورية، وردت موسكو بالتأكيد على سلامة تقديرها للموقف وطالبت الولايات المتحدة بسحب قواتها دون تأجيل. وفي نفس الوقت مضت موسكو في التحركات التي قامت بها لتفعيل حل سياسي للأزمة السورية في جوهره الإبقاء على الأسد كجزء من الحل، وعليه بدت الأستانة وسوتشي بديلا لجنيف وفيينا وأمسكت موسكو بخيوط اللعبة الدبلوماسية للحل السياسي. وتزامن مع ذلك إحراز مزيد من التقدم لقوات السورية الحكومية في إدلب التي جرى هندسة تجميع الجماعات المسلحة المعارضة فيها بهدف الإجهاز عليها لاحقا، وهو ما كان يجرى على مدى الأيام الماضية. حدث كل ذلك بينما كان الدور الأمريكي متراجعا إلى حد كبير حتى بدا أن الولايات المتحدة قد تركت الملف السوري لموسكو!.

وجاءت كلمات تيلرسون عن بقاء القوات الأمريكية لزمن غير محدد من ناحية، والبدء في إعداد القوة الأمنية من الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية المدعومة بوضوح من الولايات المتحدة من ناحية أخرى، لتؤكد رغبة الأخيرة في العودة إلى الملف السوري ومزاحمة الطرف الروسي فيه، أو على الأقل قيامها بوضع العصا في العجلة الروسية لإجبار موسكو على العودة عن المسار الذي خططته للحل السياسي.

موسكو لم تشأ أن تتسرع في رد فعل عنيف ضد الموقف الأمريكي الجديد، ولكن المشهد يشير إلى ان نذر المواجهة السياسية مع واشنطن قد حلت. فالإدارة الأمريكية باتت تنتقد موقف موسكو من الأسد علنا وبقوة وتدعوها إلى الدخول بشكل جدي في مفاوضات جنيف ، بينما هي تمضي في مسار آخر مختلف ، ومن الصعب عليها أن تتراجع لتحافظ على الأقل على الزخم الداخلي لبوتين في معركة الانتخابات، ومن ثم فالصدام قادم لا محالة عنه. ولم يتورع لافروف وزير الخارجية الروسي عن اتهام الولايات المتحدة بأنها ساعدت في انتقال بعض عناصر «داعش» من العراق إلى سوريا!، واعتبر تشكيل قوة أمنية على الحدود بمثابة تشكيل سلطة بديلة في سوريا مما يعد مساسا بسيادتها كدولة. ومن المنطقي أن تقلق موسكو من وجود نحو 10 آلاف من قوات المارينز على أراض سورية ، بينما لم يعد لها قوات بعد أن انسحبت من هناك تستطيع إنقاذ حكم الأسد ، في حالة ما إذا تعرض للهجوم من جيش الأكراد الذي تقوم الولايات المتحدة بتشكيله. ووفقا لما تراكم من نتائج مواتية للجهود الروسية في الأزمة سواء عسكريا أو سياسيا ،لا تود موسكو أن تعود مجددا للتورط في الأزمة السورية، ولذلك فإنها تأخذ التحرك الأمريكي الجديد مأخذ الجد لأنه من الممكن أن يجعلها تتورط مجددا بالفعل. وربما يرى البعض أن التحرك الأمريكي الجديد جاء متأخرا، ويواجه عقبات يمكن أن تؤدي إلى التراجع عنه، ولكن عندما يتعلق الأمر بدولة عظمى لها إمكانيات ضخمة لقلب المائدة على خصومها، فإنه يتعين التأكيد على أن نذر المواجهة بين موسكو وواشنطن قائمة حقا، حيث لن تقبل الأولى بأن تفسد عليها الثانية طبختها في ملف معقد كالملف السوري. تيلرسون نفسه قال في محاضرته إن مقترحات واشنطن الجديدة قد لا تكون أمرا سهلا. ومن جهة أخرى فإن استمرار الوجود العسكري الأمريكي قد يكون دافعا لظهور أشكال جديدة من المقاومة السورية ضد القوات الأمريكية، على شاكلة ما حدث في العراق بطريقة الحشد الشعبي (غالبا ما سيكون من شيعة العراق وسوريا ولبنان ومدعوما من إيران) مما يسبب قلقا شديدا للإدارة الأمريكية.

ولكن إذا تم النظر لذلك في ضوء ملامح استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي تم الإفصاح عنها مؤخرا وتتضمن التنافسية الشديدة مع القوى الكبرى الأخرى وفي مقدمتها روسيا، يؤكد أن واشنطن قررت أن تضع أقدامها في الملف السوري بقوة هذه المرة مهما تكن خطورة التداعيات المترتبة على ذلك، والمعنى أن الملف يشهد أشكالا جديدة من الصراع الدولي على عكس الحسابات الروسية الجارية لإعادة إنتاج النظام السوري.