أفكار وآراء

المواقف الدولية .. تقويض لمكانة أمريكا العالمية

24 يناير 2018
24 يناير 2018

بشير عبد الفتاح -

,, في خطوة نادرة لم تخل دلالة بالنسبة لمكانة واشنطن ، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل اسابيع، بأغلبية 128 صوتا؛ أي ما يعادل66.3% من الأصوات، لصالح قرار يناهض قرار الرئيس الأمريكي المثير في شأن القدس، فيما امتنعت 35 دولة عن التصويت واعترضت 9 دول أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل,,

ليس خافيا أنها بخطوتها أحادية الجانب حيال القدس، والتي تتعارض مع الشرعية والمقررات الدولية التي تعتبر القدس مفتاح الحرب والسلام في المنطقة، وتؤكد أن وضعها إنما يتقرر بالتفاوض، كما تعتبر جميع الإجراءات الأحادية التي تستهدف فرض حقائق جديدة على أرضها لاغية وباطلة، وأن اعتراف أي دولة بالقدس عاصمة لإسرائيل لا ينشئ أي أثر قانوني لتغيير وضعها كأرض محتلة، وفق ما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تواصل مسيرة تقويض دعائم النظام العالمي وزعزعة ركائز الأمن والسلم الدوليين، على نحو ما تجلى من قبل في رفضها الانضمام إلى المعاهدة الدولية الجديدة لحظر انتشارالسلاح النووي ، التي أقدمت نحو 50 دولة على توقيعها خلال اجتماعات الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، بعدما اعتمدتها 122 دولة قبل ذلك بشهرين، كما تدعمها «الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية « (آيكان) ،التي نالت جائزة نوبل للسلام لـلعام2017، تقديرا لمساعيها الحثيثة لنزع الأسلحة النووية ،التي تجاوز مخزون العالم منها 15 ألف رأس نووي.

وقد بررت إدارة ترامب موقفها الصادم بأن هذه المعاهدة لن تجعل العالم أكثر سلاما ولن تؤدي الى نزع سلاح نووي واحد ، كما أعتقادها أنها لن تعزز الأمن والاستقرار العالميين، إذ لم تنضم إليها أي من الدول النووية التسع التي تمتلك او يشتبه في انها تمتلك السلاح النووي ،وهي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان واسرائيل وكوريا الشمالية.

وفي مطلع يونيو الماضي، أعلن ترامب انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ووقف أي التزام بالقيود المالية والاقتصادية الشديدة التي تفرضها الاتفاقية على الولايات المتحدة. وبينما تسعى الاتفاقية لتحويل الاقتصاد العالمي عن الوقود الأحفوري خلال القرن الحالي ووقع عليها سلفه باراك أوباما عام 2015، واعتبره الجميع وقتئذ قائدا لمواجهة الاحتباس الحراري وتغير المناخ في العالم، فيما ينص محتواها على حظر انسحاب واشنطن رسميا من هذه الاتفاقية قبل حلول نوفمبر 2020 ، لم يتورع ترامب عن التنصل منها ، مبررا ذلك بأن الاتفاقية لا تصب في صالح الولايات المتحدة، كما تقف في طريق إنهاض الاقتصاد الأمريكي، عبر تكبيده ثلاثة تريليونات دولار وإفقاده ستة ملايين وظيفة صناعية ، فيما تفتقر الاتفاقية لأي تأثير ملموس على المناخ العالمي لأنها ليست حازمة بما يكفي مع الصين والهند، ثم ارتأى ترامب أن الوقت قد حان لإعطاء الولايات الأمريكية أولوية على مكان آخر حول العالم.

وفي الثاني عشر من أكتوبر الماضي، وفى خطوة صادمة ومثيرة في آن معا ، رغم أنها لم تكن الأولى من نوعها، باغتت الولايات المتحدة العالم بأسره، وسددت ضربة موجعة للتنظيم الدولي الراهن، حينما أعلنت بالتزامن مع فعاليات التصويت لاختيار مدير عام جديد لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عن عزمها الانسحاب من المنظمة الأممية وذلك اعتبارا من يوم 31 ديسمبر 2017 ، على أن تشكل بعثة رمزية مصغرة تمثل واشنطن لدى المنظمة بصفة مراقب وتحل محل بعثتها الكاملة الدائمة لدي المنظمة التي تتخذ من باريس مقرًا لها.

وبينما أرجعت واشنطن انسحابها من اليونسكو،التي بدأت فى مباشرة عملها عام 1946 والمعنية بتحديد مواقع التراث العالمي ، إلى اعتبارات اقتصادية تتمثل في رغبة واشنطن الملحة في تقليص النفقات وتوفير الأموال التي يتم دفعها سنويا للمنظمة الأممية، والتي تقدر بنحو 80 مليون دولار، ترى إدارة ترامب أن واشنطن لم تجن من ورائها أية غنائم ملموسة على أى صعيد ، فقد جاء القرار الأمريكي في سياق الإجراءات الاحتجاجية والعقابية الأمريكية ضد اليونسكو جراء موضوعيتها واجترائها على اتخاذ قرارات جريئة وتاريخية بحق فلسطين، كان من أبرزها: منحها العضوية الكاملة بالمنظمة عام 2011، وبأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين وقتئذ، لتغدو فلسطين العضو رقم 195 بالمنظمة الدولية .

وهي الخطوة التي أثارت مخاوف دول شتى حول العالم من أن يفضي انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو إلى إفشال تلك الأخيرة ، أو على الأقل تقليص نشاطها وتقييد دورها أو ربما يصل الأمر إلى إغلاقها يوما ما، أسوة بما جرى مع منظمات ومعاهدات دولية أخرى عديدة توارت أو تراجع دورها إثر مجافاة واشنطن لها أو انسحابها منها، وتخشى منظمة اليونسكو من أن يسفر انسحاب واشنطن منها وتجميد دعمها المالي لها بعد الامتناع عن تسديد أية مستحقات سابقة ، عن مفاقمة الأزمة المالية التي تلقى بظلالها على المنظمة الأممية منذ عقود ، بما يقود في نهاية المطاف إلى تكبيل تحركاتها وتقويض دورها، لاسيما وأن حصة الولايات المتحدة المالية للمنظمة والتي تبلغ نحو 80 مليون دولار سنويا ، تمثل وحدها قرابة خمس ميزانية تلك المنظمة الأممية المعنية بالشؤون الثقافية والعلمية والتراثية في العالم .

وفي مطلع شهر ديسمبر الماضي ،انسحبت إدارة ترامب من ميثاق منظمة الأمم المتحدة للهجرة ، الذى توصلت إليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر عام 2016 بالإجماع ، مبلورة نصًا يُسمَّى «إعلان نيويورك للاجئين والمهاجرين»، ويهدف إلى تحسين الإدارة الدولية فيما يخص الاستقبال، والمساعدة في العودة، لحركات اللاجئين والمهاجرين حول العالم .

واستنادًا إلى هذا الإعلان، كلفت المفوضة السامية لشؤون اللاجئين باقتراح اتفاق عالمي بشأن المهاجرين واللاجئين في تقريرها السنوي المقدم إلى الجمعية العامة في عام 2018 . وقد بررت إدارة ترامب خطوتها تلك بأن الميثاق يتضمن عدة أحكام لا تتفق مع سياسات الهجرة واللاجئين الأمريكية ومبادئ إدارة ترامب بهذا الصدد ، فيما أعلنت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي،أن المقاربة العالمية لإعلان نيويورك تتنافى تمامًا مع السيادة الأمريكية، مشددة على أن القرارات الأمريكية بشأن سياسات الهجرة يجب أن تأتي دائمًا من قبل الأمريكيين وحدهم، وبهذا الانسحاب الأمريكي، تكون واشنطن قد تنصلت من أية التزامات أممية أو أية مساع دولية لمعالجة قضايا الهجرة واللجوء على المستوى الدولي ، في قابل الأيام.

ولقد حمل قرار الجمعية العامة الأخير بشأن القدس رسالة تحذيرية بليغة لواشنطن مفادها أن استمرار ذلك النهج الأمريكي المستفز في التنصل أو الانسلاخ المتواصل و التدريجي من الأطر القانونية والهيكل التنظيمي والبنيان المؤسسي للنظام الدولي الراهن، ربما يكون كفيلا، إذا ما تفاعل مع معطيات ومتغيرات محلية وإقليمية ودولية أخرى عديدة ومعقدة ، بأن ينال من استقرار ذلك النظام وأن يقوض قدرته على إرساء دعائم السلم والأمن الدوليين، مثلما يلقي بظلال من الغيوم كذلك على الهيمنة الأحادية التي جاهدت الولايات المتحدة لفرضها واستبقائها على ذلك النظام، في المدى المنظور، وهو الأمر الذي لاحت أبرز إرهاصاته في إصرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الاستعانة برعاية دولية لعملية السلام في الشرق الأوسط وإبعاد الولايات المتحدة عن مباشرة الدور الذي طالما عكفت على الاضطلاع به طيلة العقود القليلة المنقضية بوصفها وسيط وراع لتلك العملية المتعثرة .