أفكار وآراء

مؤسساتنا وتقبل الخسارة

24 يناير 2018
24 يناير 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

ما أريد أن اقترحه هنا هو محض فكرة شخصية . قد تعبر كغيرها مما يكتبه الكتاب والصحفيون، في الكلام العابر فلا يبقى لها اثر، وقد يكتب لها ان تتفاعل مع افكار و أحوال قادمة او قائمة ، وتعيش وتتحول بعد جهد طال ام قصر، الى واقع بهذا الشكل او ذاك .

اصل الفكرة بدأ في ذهني لدى استعادة حكاية قديمة من عالم كرة القدم . فقد حدث يوما ان كان ناد قاهري كبير يلاعب فريقا من الاقاليم في المسابقة الرسمية للدورى العام على ملعب الاخير بوسط الدلتا شمال مصر، واستمات فريق الاقاليم - كعادة تلك الفرق عند اللعب في مواجهة الكبار - الى ان حافظ على النتيجة الى ما قبل نهاية المباراة بنحو عشر دقائق عند التعادل السلبي وقد تألق بنحو خاص حارس مرمى الفريق الاقليمي ولنقل ان اسمه كان “ س” ، وصد اكثر من قذيفة تم تصويبها على المرمى في عدة دقائق متتالية ، وسط هجوم كاسح من الفريق القاهري وبينما الحال كذلك ، وحيث بدا ان المباراة مكتوب عليها ان تنتهي بالتعادل السلبي ، سمعنا نفرا من جمهور النادي القاهري ، كان معدودا للأمانة ولا يمكن ان يعبر عن جمهور النادي كله في النهاية وهو

يهتف بهتاف لا يمكن ان يتوقعه احد او يخطر له على بال في مثل تلك الحلبة ،  الا وهو :  يا “ س” (حارس المرمى )  يا عدو الله ! ويكررها في شكل إيقاعي منغم وحماسي للغاية . صحيح هم عدد قليل لكن الفعل رمزي ، وصحيح انه ناتج عن انفعال زائد ومن النوع الذي يذهب بعقل بعض مشجعي الكرة كما نشاهد كثيرا ، لكن الهتاف كان له دلالة لا يمكن تخطيها. لقد قلت وانا استعيد الذكرى بعد عقود الى هذا الحد نتعامل مع فكرة الخسارة ( والتعادل في عرف جماهير النادي الكبير هو بمثابة الخسارة ) . الى أي حد يمكن ان نذهب في حالة تحقيق خسارة سواء على مستوى الاعمال - الذي يعنيني هنا - او على أي مستوى آخر ؟ وما نوع الاسلحة التي يمكن ان يتم اللجوء اليها في حال اولئك الذين يرفضون تقبل الخسارة والعمل بالشعار الرياضي الشهير : “تواضع عند النصر وابتسم عند الهزيمة ! . هل حقا يمكن ان يبتسم رجال الاعمال وقادة مؤسسات الاعمال عموما عندنا اذا خسروا ام انهم يستخدمون امورا اخرى لمقابلة ذلك او ربما لمنع الخسارة او ترحيل عبئها الى آخرين بسبب او بدون سبب ولا لشيء الا مجرد امتلاك القوة السياسية او النفوذ الذي يمنحهم الفرصة لعمل ذلك.؟

وثمة تجربة اخرى عاينتها في اكثر من مرة ، ففجأة تجد شخصا او اكثر يتصل بك وبغيرك ويقول انه يريد عمل تجربة صحفية جديدة او تجربة اعمال جديدة، مختلفة عن القائم ، وتعبر اكثر عن العصر وهمومه ، وتفتح الباب لأصوات جديدة واهتمامات غائبة ، او تقدم خدمة غير موجودة ، ويود ان نكون معه لتحقيق حلم او حلمنا المهني ، وبعد اول مجموعة اجتماعات وطرح ما في الرؤوس من أفكار تأسيسية مهمة، يقول صاحب المشروع - او يقولون - ان هذا كما نعرف حلما لنا جميعا ( كأننا شركاء في ملكية المشروع) وانه يأسف لأنه لن يدفع أي مكافآت الى ان تتحقق ايرادات للمشروع

من الاعلانات او المبيعات وغيرها وعلينا ان نبذل اقصى جهد حتى تستقطب الشركة موارد واعلانات وسيكون الكل راضيا حينها . ما اتوقف عنده هنا ان المالك لا يريد على اي نحو فحسب ان يتقبل فكرة المخاطرة والخسارة ولو في الاشهر الاولى على ما هي طبيعة المشروع الجاد ، بل ايضا لا يريد تحمل فكرة دفع تكاليف تشغيلية من الاصل ، طبقا ، لمبدأ لا وجود له في اي نوع من انواع مناهج الحرية الاقتصادية وحرية السوق والمنافسة وريادة الاعمال . لا وجود له الا في ادمغة مثل اولئك البشر. وبطبيعة الحال يفر الجميع تقريبا فى اخر الشوط بعد ان تتضح الألاعيب ، وان ما يسمى حلمنا هو غالبا محاولة بناء آلة ابتزازية بشكل او بآخر ، او مشروع فردي بحت يعمل لحساب صاحبه ويأكل به على حساب المعايير المهنية والاقتصادية السليمة. هذا مثال آخر متكرر على عدم تقبل الخسارة ولو من المبتدأ ، اي من بداية التأسيس والتشغيل .

لقد رأينا ونرى كذلك في السياسة، وفي الدول الديمقراطية العريقة بصفة خاصة ، كيف يصافح الخاسر المنافس الفائز ويتمنى له التوفيق ، وكيف يشكر ناخبيه، ويعدهم انه سيواصل معهم من اجل الفوز فى الجولة المقبلة ، لكن الى أي مدى يلتزم مجتمع الاعمال في بلادنا والعالم بهذا المبدأ السلمي لاستقبال الافلاس والخسارة والتعامل معهما بشرف ؟.

الشواهد تقول ان الدول الكبرى تشيع فيها ثقافة تقبل الخسارة /‏‏‏ الهزيمة الاقتصادية اكثر بكثير من دول العالم الثالث ، والى حد بعيد ، غير ان الصورة ليست وردية طوال الوقت، فبعض الشركات الكبرى والتي يكون لها صلات بالسياسيين والبرلمانيين، والتي ايضا تمول مجموعات ضغط كثيرا ما تحاول ان تغير قواعد اللعبة بالضغوط لتتفادى خسارتها .. خسارتها الناتجة عن عوامل طبيعية اي تتحملها بالكامل الشركة وقيادتها او يجب ان تتحملها . والغريب انه في حالات معينة تتدخل الدولة نفسها لتعويم شركة كان يجب ان يتم إشهار إفلاسها طبقا لقواعد السوق وآليات المنافسة الحرة ـ  لسبب التأثير الضخم لسقوط هذه الشركة العملاقة والمتشعبة غالبا - على بقية القطاعات ،  وكلنا يذكر ان جورج بوش الابن اصر على إشهار افلاس “ ايه اي جي” - عملاق التامينات في العالم - وقال إن الرسالة الخاصة بدفع الثمن في سوق تنافسي يجب ان تتم المحافظة عليها والا ستنهار قواعد اللعبة وتسبب مضاعفات لا قبل لأحد باحتمالها . لكن امريكا في نفس الوقت قامت بتعويم “ جنرال موتورز”، اي تدخلت بالمال العام لمساندتها لأهميتها للاقتصاد الامريكي ( وقد يكون لقوة ضغوط لوبي السيارات تأثير ولو جانبي في هذا التعويم ) . وقد قيل وقتها انه تمت خصخصة المكاسب اي حصل عليها المساهمون والإدارة حين كانت الشركة تكسب ، وعمعمة الخسائر أي تحملها دافع الضرائب عند الخسارة . القصد ان التعامل مع الخسارة والإفلاس والطرق التي يتم اللجوء اليها لتفاديهما والمراوغة حيالهما او الهروب منهما كلية ، بأدوات غير مشروعة ، موضوع يستحق البحث ويستحق أن يكون له مؤشر عالمي لترتيب الدول او يضاف الى مؤشرات تقرير البنك الدولي عن مناخ الاعمال (دوينج بزنس ) والذي يتناول كثيرا أهمية وجود قواعد للخروج من السوق في كل دول ( وقانون لإشهار الإفلاس والصلح الواقي من الإفلاس )، لكنه لا يتطرق للجانب الذي تحدثت عنه.