أفكار وآراء

موازنة التوازنات

23 يناير 2018
23 يناير 2018

د.الطيب الصادق -

ان موازنة 2018 ستكون لها آفاق أكبر لتعزيز التنمية الوطنية خاصة أن هناك توقعات بارتفاع معدلات النمو في السلطنة العام الجاري حيث تشير التوقعات إلى أن الاقتصاد العالمي سيحقق نموا قدره 3.7% وهو ما يصب في صالح النمو المحلي، كما أن موارد الدولة غير النفطية بدأت ترتفع مع استمرار تطبيق برنامج التنويع الاقتصادي مع تحفيز استثمارات القطاع الخاص والتركيز على الاقتراض الخارجي لتمويل المشروعات الإنمائية وتمويل متطلبات الموازنة مما يضمن الاستدامة المالية للموازنة.

ونجحت سلطنة عمان في تخطي التحديات التي واجهتها منذ ثلاث سنوات بعد انخفاض أسعار النفط في عام 2014 ويتضح هذا النجاح من المؤشرات التي تضمنتها موازنة عام 2018 التي تؤكد على أنها موازنة التوازنات بين الإنفاق والإيرادات والتي اشتملت على إجراءات احترازية وتحفيزية في آن واحد.

مؤشرات الموازنة الحالية تدعو للتفاؤل لأنها تتميز بالإيجابية ولم تتراجع عن الإنفاق أو تتخذ إجراءات تقشفية قاسية مثل تطبيق ضريبة القيمة المضافة - والتي تم إرجاؤها العام الجاري- رغم فرضها في دولة أخرى، وهو ما يؤثر على حياة المواطنين بشكل مباشر إلا أن الرؤية كانت واضحة ورشيدة، ليس من العام الحالي ولكن منذ عام 2014 فور انخفاض أسعار النفط، حيث أدركت الدولة منذ الوهلة الأولى خطورة هذا الانخفاض وتأثيره الواضح على الموازنة وأسرعت باتخاذ إجراءات حمائية ظهرت في ميزانية 2015 التي واجهت فيها الدولة تحديات كبيرة وما زالت تواجه حتى الآن، رغم تعافي أسعار النفط - إلى حد ما - مع استمرار الأعراض والأسباب . لكن الوضع الحالي بالطبع أفضل من الأعوام الثلاثة الماضية، خصوصا أنّ المعطيات الحالية سواء المحلية أو العالمية تدعو للتفاؤل تجاه نمو الاقتصاد الوطني مع اتجاه السلطنة إلى حصاد برنامج التنوع الاقتصادي، فضلا عن الاستمرار في إنشاء المشروعات ذات العائد طويل وقصير المدى ما يكون له آثار إيجابية وتوقعات جيدة للاقتصاد العُماني في 2018.

وبتحليل بنود الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2018م التي صدرت بالمرسوم السلطاني السامي رقم (1/‏‏‏‏‏‏2018) نجد أن المحورين الرئيسيين للموازنة الجديدة وهما الإيرادات والمصروفات يؤكدان على الإيجابية والتوازن والتفاؤل، والحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي، ورفع معدلات النمو واستقرار المستوى المعيشي للمواطنين، رغم تضمنها عدداً من الإجراءات الاحترازية والتحفيزية في نفس الوقت في جانبي الإيرادات والإنفاق، وراعت الموازنة الحالية استمرار الإنفاق وعدم تحمل المواطنين أعباء جديدة أو فرض إجراءات على القطاع الخاص مما سيساهم في إنعاش عمليات النمو الاقتصادي ويبلغ حجم المصروفات المقدرة في الموازنة الجديدة 12.5 مليار ريال عماني مرتفعا من 11.7 مليار ريال عماني في الموازنة الأصلية للعام 2017 وهي بذلك تكون المصروفات قد ارتفعت بقيمة 800 مليون ريال عماني، بعد أن تراجعت في ميزانية 2017 من 11.9 مليار ريال عماني في 2016 وذلك في ظل اتخاذ الحكومة الإجراءات المالية وترشيد الإنفاق فقد انخفضت بنود الإنفاق العام عن مستوياتها في عام 2015 والتي كان أبرزها مصروفات الدعم والمصروفات الجارية للوزارات والوحدات الحكومية لمواجهة انخفاض عوائد مبيعات النفط والغاز وانخفاض العوائد غير النفطية أيضا ولكن موازنة عام 2018 تؤكد على السعي لتنفيذ الأهداف العامة المعتمدة في الخطة الخمسية التاسعة للتنمية ومن أهمها تحقيق معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة وتعزيز البيئة المحفزة لاستثمارات القطاع الخاص وتعزيز دوره في تحقيق النمو الاقتصادي وتوليد فرص عمل للمواطنين، وزيادة كفاءة الإنفاق العام وتحقيق الاستغلال الأمثل لمخصصات المصروفات الجارية، إضافة إلى الحفاظ على مستويات الإنفاق الاستثماري لاستكمال منظومة البنية الأساسية وتنفيذ المشاريع في القطاعات الرئيسية المعتمدة في الخطة والبرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي (تنفيذ)، وكذلك مشاريع قطاع النفط والغاز وذلك لتحقيق التأثير الإيجابي على النمو الاقتصادي.

وبالنظر للإيرادات فمقدر بأن تكون 9.5 مليار ريال عماني مرتفعة عن المقدر في موازنة العام الماضي 8.7 مليار ريال، وهو يعني استمرار العجز بالموازنة الحالية بقيمة 3 مليارات ريال ولكن تراجعه بنسبه ضئيلة أفضل من زيادته وبالمقارنة بالأعوام الثلاثة السابقة التي وصل فيها إلى 5.3 مليار في 2015 نجد أن العجز يتحسن تدريجيا وأنه ضمن المستويات الآمنة خاصة مع التوقع بزيادة الإيرادات المقدرة وذلك بسبب التفاؤل بارتفاع أسعار النفط عن السعر المفترض في موازنة عام 2018 والذي يبلغ متوسط سعره عند 50 دولاراً للبرميل ارتفاعاً من 45 دولاراً لعام 2017 ، ورغم أن سعره حاليا فوق 62 دولاراً للبرميل، ثم فإن إيرادات السلطنة من المتوقع أن ترتفع بأكثر من التوقعات إذا ظلت أسعار النفط مستقرة فضلا عن ارتفاع المدخولات نتيجة لزيادة كفاءة التحصيلات الضريبة والرسوم من أجل دعم النمو اقتصادي، ومن المتوقع حدوث زيادة ملموسة في الإيرادات غير النفطية العام الجاري بعد اتخاذ إجراءات في العام الماضي تعمل علي تحسين مساهمة الإيرادات غير النفطية ومنها تعديل قانون ضريبة الدخل والضريبة الانتقائية وتعديل رسوم إصدار تراخيص استقدام العمال غير العمانيين ورفع كفاءة تحصيل الضرائب على الشركات والمؤسسات وغيرها.

يمكن القول بأن موازنة 2018 ستكون لها آفاق أكبر لتعزيز التنمية الوطنية خاصة أن هناك توقعات بارتفاع معدلات النمو في السلطنة العام الجاري حيث تشير التوقعات إلى أن الاقتصاد العالمي سيحقق نموا قدره 3.7% وهو ما يصب في صالح النمو المحلي، كما أن موارد الدولة غير النفطية بدأت ترتفع مع استمرار تطبيق برنامج التنويع الاقتصادي مع تحفيز استثمارات القطاع الخاص والتركيز علي الاقتراض الخارجي لتمويل المشروعات الإنمائية وتمويل متطلبات الموازنة مما يضمن الاستدامة المالية للموازنة، في الوقت الذي تحسنت فيه قطاعات الصناعة التحويلية والتجارة الخارجية، والاستثمارات الأجنبية فضلا عن تنشيط السياحة التي ستنعكس بالإيجاب علي زيادة المدخول منها وهو تحسن جيد حاليا.

ومما يعد أهم إيجابيات الموازنة الحالية انها تدعم استقرار المستوى المعيشي للمواطنين حيث تحقق إنجازات كبيرة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية والبنية التحتية مع الاهتمام الحكومي بدعم كافة فئات المجتمع وإيلاء اهتمام خاص بفئات ذوي الدخل المحدود والباحثين عن العمل والطلاب وهو ما يوجد توازنا حقيقيا بين خفض المصروفات أو زيادة الإيرادات من جهة وتقليل الأثر على هذه الفئات من جهة أخرى إضافة إلى الاستخدام الأمثل للمخصصات المالية للعديد من القطاعات وذلك ضمن استراتيجية محددة ورؤية واضحة لتنويع مصادر الدخل مع الاستمرار في السير قدما للإنفاق على المشروعات وعدم اتجاهها إلى فرض سياسة تقشفية قاسية، لكنها قامت بإدارة الأموال وصرفها في أماكنها الصحيحة والاستفادة منها بشكل أكبر ولكي تدر عائدا يضمن إنعاش الوضع الاقتصادي ويعود على المواطنين بشكل إيجابي.

تتطلب موازنة 2018 وما تحمله من توازنات بين الإنفاق والإيرادات الاستمرار بالاستفادة بكل ما تمتلكه السلطنة من مقومات اقتصادية وسياسة واجتماعية واستقرار أمني وعلاقات خارجية ممتازة مع مختلف دول العالم، مع استكمال برنامج تنويع مصادر الدخل والابتعاد عن سيطرة الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على النفط كمصدر مهم للدخل مع الرقابة القوية والفعالة مما سينعكس بالإيجاب ويساهم في تحقيق معدلات نمو اقتصادي أعلى توفر مزيدا من فرص العمل وتزيد من إيرادات الدولة وتكون الداعم الحقيقي للموازنة.

لا يمكن الاعتقاد بأن الموازنة العامة لا تواجه تحديات، لكنها تستطيع أن تتجاوز هذه التحديات خاصة أن الاقتصاد العُماني في مرحلة الخروج من عنق الزجاجة، وتجاوز الظروف الصعبة التي واجهها في عام 2015.

ومن التحديات التي تواجهها الموازنة حاليا الاتجاه للاقتراض لتمويل عجزها، مما يزيد من أعباء الدين العام بسبب ارتفاع المصروفات عن الإيرادات كما أن هناك اعتمادا على النفط والغاز كموارد أساسية وفي حالة انخفاضها عن الأسعار المقدرة ستساهم في زيادة العجز، وفي نفس الوقت فإن برنامج التنويع الاقتصادي لا يزال يحتاج إلى تسريع وتيرته مع توجيه الإنفاق لدعم القطاعات الإنتاجية فضلا عن ضرورة الاستمرار في رفع كفاءة القوى العاملة الوطنية وصقل خبراتهم والاهتمام بالتدريب، ودعم الابتكار وتقديم محفزات استثمارية لجذب مستثمرين جدد في مختلف القطاعات الإنتاجية.