المنوعات

فادي عبدالله: رسمت الإنسانة التي تكفيها عيناها للحديث عن كل شيء

23 يناير 2018
23 يناير 2018

المرأة ثيمةٌ هيمنت على لوحاته في معرض «أفكار عشوائية»

حاورته: بشاير السليمية:-

فادي عبدالله، فنان تشكيلي أردني مقيم بالسلطنة، ومحاضر بالكلية العلمية للتصميم، كانت لوحاتُ البورتريه التي رسمها تزين جدران المركز العماني الفرنسي، في معرض فني اشترك فيه مع الفنان أيمن حميرة.

وإن كان ثمة ما يلفت في اللوحات فهي المرأة، التي حضرت بكافة صورها في الجدران. وفي السطور القادمة سنتجول مع الفنان بين اللوحات والألوان والكلمات، في عربة الرسم والفن.

• في البدء، حضرت المرأة في لوحاتك حضورا بارزا، واحتلت الثلاث عشرة لوحة كلها في جدران المعرض ، لو تحكي لنا سر حضورها المكثف في هذا المعرض بالذات؟

أنا الرجل الوحيد في أسرتي الصغيرة بين زوجة وبنتين، كما أن الرجل بطبيعته ميال للمرأة على صعيد حياتي وإنساني. المرأة محور أساسي في حياة الرجل، هي الأم والزوجة والبنت والصديقة وبنت الجيران. ومنذ بداية الخلق وحكاية حواء التي جاءت من ضلع آدم، الرجل والمرأة ليسا ندين ولكن وجهين لعملة واحدة.

• اختلفت النساء شكلا في لوحاتك، هناك الشّعر المجعد والأملس، هناك البشرة السمراء والبيضاء، هناك العيون الواسعة والصغيرة والملونة، كيف جمعت هذا التنوع؟

هذا المعرض أخذ سنة من العمل تقريبا، وفي معظم اللوحات حاولت الذهاب إلى ما بعد الصورة المبينة، كنت مهتم بالمعنى ولأجل ذلك كان هناك تنوع في البورتريهات. بالطبع، النساء اللاتي رسمتهن لسن من مجتمع واحد، وبيئة واحدة، مثلا لدي لوحتان لامرأتين عمانيتين، ولدي أيضا لوحة للاجئة سورية، فتناولت نساء مختلفات وكل امرأة رسمتها كانت تشبه نفسها، بحثت فيها عما يميزها في شكلها، وفي داخلها وطريقة مخاطبتها لي، كنت دائما أبني علاقة بيني وبين المرسومة؛ لأعرف من تكون، فمن خلال الظاهر بحثت في الباطن، فلم يكن يعنيني أن تكون غاية في الجمال لأخرج لوحة جميلة، أردت فقط أن أقدمها بحُلتها الحقيقة، لكن باختلاف مشاعرها، باختلاف نظراتها.

• في خلفيات لوحات النساء العمانيات بالذات كانت الخلفية ساكنة أكثر من غيرها، كيف تتشكل فلسفة خلفيات اللوحات؟ وكيف ترتبط بالوجوه وتعابيرها؟

كل لوحة تفرض على الفنان خط سيرها، وتفرض خلفيتها، ومعالجتها. الفنان يعمل كثيرا ثم يصل لمرحلة يتوقف فيها عن العمل، وعندما يتوقف عن العمل تكون اللوحة قد استنزفت كل ما أراد قوله، وهناك ثمة علاقة غريبة بين اللوحة والفنان. في العادة تكون اللوحة جاهزة في اللاوعي واللامدرك، والوعي عند الفنان هو تنفيذ اللاوعي، والفنان فقط كأنه يكشف عنها الغطاء، ويزيل الغبار فهذا هو المستوى الذي كانت تريد أن تصل إليه اللوحة لا أكثر، ولا أقل وهنا يكمن التفاوت. ولو سألت أي فنان عن لوحة ما سواء كان منتهيا منها أم لا، سيقول إنه يعرف أنها ستصل به إلى ماهي عليه؛ لأن لديه تصورا عاما، وأحيانا اللوحة تقوده لاتجاهها الخاص، فهناك لوحات عندي فرضت علي أن لا أكمل الخلفية فيها. هنا أردتها ألا تطغى على البورتريه، فملابس المرأة العمانية التقليدية مليئة بالبهرجات والزخارف، فأحببت أن أبسط الخلفية وأركز على العنصر الأساسي، وهو الوجوه والتعابير وما وراء المرئي وليس العكس، فلو ركزت على الخلفية، سأضعف اللامرئي وأردت جعل الخلفية حيادية، فركزت على العنصر الأساسي، فكلما زدت في تفاصيل الخلفية خَفَت العنصر الرئيسي وخفّ التركيز عليه، وفي اللاوعي كان قد حصل هذا الكلام.

• اللون الأصفر ساد معظم خلفيات اللوحات في المعرض، هل من سر ما وراء الأصفر؟

أنا أحب هذه المجموعة اللونية، وفي معظم الأعمال تجدين الـ «هارموني»، ووحدة وانسجام بين الألوان؛ لأن كل فنان له مجموعة لونية للوحات التي يعمل عليها، وكثرة الاختلاف في اللون أحيانا تفسد وتؤثر على الرسالة التي يقولها الفنان، وتؤثر على الموضوع وعلى المعنى. مثلا عندما تفتحين خزانتكِ تجدين معظمها بنفس الألوان، وتتساءلين عن السبب في كل مرة، لكن هذا منطقي ونوع من أنواع الذوق العام، وله علاقة باختيار الألوان، وهذا لا يعني التشابه التام بين الأعمال ولكنها الوحدة العامة، وهي وحدة أسلوب ووحدة معالجة وطرح، ويمكن أن يكون المعرض القادم بألوان ومعالجة تختلفان باختلاف المزاج، وباختلاف الروح والفكرة نفسها.

• التنقل بين البلدان كأماكن أخرى للعيش وليس للسفر والسياحة فقط، كإقامتك الآن في عُمان، هل حفّز في فنّك شيئا جديدا؟

لا أنتمي لهذه البقعة جغرافيا، جئت من الأردن ولكني على كل حال ما أزال في وطننا العربي، ولست خارجه، وهذا أعطاني دافعا للغوص في ثقافة جديدة على الرغم من التشابه بيننا.

• إذاً هل كنا سنرى لوحاتٍ لنساء عمانيات لو أنك لم تنتقل للعيش في عُمان؟

رسمت نساء عمانيات من ظفار قبل أن آتي إلى هنا، رسمتهن وأنا بعيد، ولا أعرف شيئا عنهن، ومنذ مجيئي إلى هنا رسمتهن عن قرب، ويكاد لا يمضي يوم دون أن أتعامل مع المرأة العمانية، فأنا أدرّس طالبات في الكلية العلمية للتصميم، وهذا التماس كوّن معرفة بطبيعة المرأة العمانية، فلو لم آت إلى هنا كانت عمان ستأتيني بكل حال.

• عُمان من أرض وبورتريهات إلى متلقٍ، كيف قرأت تذوق العمانيين للفن؟

العمانيون شعب عنده ذائقة فنية عالية، وهذا لمسته من الزائرين للمعارض والفنانين أنفسهم. هناك حراك فني عماني دائم، وهناك ورش عمل ولقاءات، ولاحظت أنهم يجنحون لما يعرفونه أكثر مما لا يعرفونه، يعجبهم التفرج على فن يفهمونه، أما معرضي فكان ما بين وبين لا هو تجريد غير مفهوم، ولا هو واقعي «superrealism» الذي يهتم بأدق تفاصيل البشر وكأنه صورة فوتوغرافية. وحسب هذه الملاحظة أعتقد أن معرضي قد يلاقي استحسان الناس من خلال علاقته الوسطية بين التجريد والواقعية.

• كمتلقية، عندما رأيت لوحة المرأة التي تعزف على التشيللو تذكرت «ياسمين» في مسلسل «تشيللو»، لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك بشكل عكسي عندك، أي أن تشاهد مسلسلا ثم ترسم لوحة؟

الدراما هي عدة عناصر فنية متداخلة، هي فكرة تحولت إلى أحداث وحبكة بشخصيات مختلفة، وهذه الشخصيات تخرج لنا منتجا بصريا، فالمنتج البصري للدراما وحتى للروايات كلها يحمل صورة بصرية للأحداث الحاصلة، ولا يمكن أن نقرأ قصة ولا نتخيل أبطالها. في الدراما تنتقل القصة من الورق إلى أشخاص من دم ولحم يجسدون ما كتب، أما الفن التشكيلي فهو يتعامل بالصورة الواحدة، بينما المسرح والسينما والدراما تتعامل مع هذا الإطار المتحرك. الفنان التشكيلي عندما يحضر فيلما في السينما لا يشاهده كالإنسان العادي، وإنما يراه بإطارات وكل إطار له تكوين بصري خاص فيه والمخرج قصَدَ إخراجه بهذه الطريقة من خلال الممثلين، ونحن نتأثر لا شك بالدراما بشكل كبير فكل هذا يغني المخزون البصري عندي.

• لو تحدثني قليلا عن تحديق البورتريهات في الفراغ.

عادةً الفنان الذي يعمل العمل الفني يدخل في عالم آخر ينفصل تماما عن محيطه. الوحدة والعزلة والتماهي مع ما نفعله هي كل شيء. في معظم لوحاتي تأثرت بصور، يصعب أن يكون هناك «مودل» أمامي أشتغل عليه، ولكن لا أنقل الصورة كما هي، وإنما الصورة تعطيني تكوينا فقط، وبعد التكوين أُخرج ما وراء المرئي، فلا الألوان نفس الألوان، ولا المعالجة نفس المعالجة، ولا حتى الملامح تشبه الملامح أضيف فيها شيئا من نفسي وقد أوفق وقد لا أوفق، وهذه مسألة اجتهاد في محاولة تقديم شيء أحب عمله.

• الأوضاع الراهنة في الشام بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام، كيف أثّرت على فادي؟ كيف أثْرت تجربته؟

الحروب والنزاعات تؤثر على الفنان والمتلقي، والفنان بطبيعة الحال جزء من المجتمع ويتأثر ويؤثر باعتباره ناقلا لهذه الهموم، لكن بطريقته وبفكره الخاص. على سبيل المثال، رسمت لاجئة سورية ومع ذلك لم أحبّ أن أضعها في إطار المخيم وانتظار المساعدات، ولكني رسمت الإنسانة التي تكفيها عيناها للحديث عن الحزن الذي أنجبته الحرب، ولنفرض أني نقلتها من محيطها ذاك ووضعتها في بلد آمن، أعطاها كل سبل الحياة الرغيدة، ستبقى في عينيها تلك النظرة الذي أبحث عنها للوحتي. وفي الوطن العربي هناك خريطة كبيرة من المعاناة وليست سوريا أو فلسطين فقط وإنما هما جزء منها.

• عملك كمحاضر في الكلية العلمية للتصميم كيف ساعدك في الانغماس مع الفن التشكيلي كونه موهبة أكثر منه عملا؟

وجودي في كليات الفنون وتدريسي هذا يقربني جدا ويرجعني للفن، فهو مهنتي وتوجهي حتى آخر يوم في حياتي.

• هل أستطيع أن أقول إن العمل في الفن والموهبة الفنية في آن، يجعلانك أكثر حظا من فنان آخر لا يجد لفنه وقتا إلا وقت الفراغ؟

هو فقط يعاني في استحضار الحالة الفنية، غير الفنان الذي يعيشها بشكل يومي. نحن عند دخولنا للكلية وحتى خروجنا منها كل حديثنا عن الفن، ماذا قدّمَت وستقدم الطالبات، والفنان لا ينعزل أبدا عن الفن، فالفن يلاحقه حتى في منامه، ومن يكتب له ألا يعيش هذه الحالة بزخمها تكون فترة تعاطيه مع الألوان أقل. الفن عندي حديث مستمر، غير الفنان الهاوي الذي يمارس الفن فقط في وقت فراغه، فكلما كان الفنان متفرغا للفن كلما كان قريبا منه، فالجزء الأكاديمي في عملي لا يعتبر جزءا من انخراطي بالفن؛ لأن هذه العملية لها قوانين وشروط وضوابط.

• ما رأيك بالمعارض المشتركة بين فنانين، أو بالأحرى نوعان من الفن لفنانين اثنين مثل هذا المعرض، أم أنك تفضل المعارض المنفردة؟

أفضّل الاثنين، ولكل منهما مزايا وتحديات، أن تكون لوحدك يصبح جو المعرض العام واحدا، ولكن أيضا عندما يكون في المعرض فنانان مختلفان يأتي التنوع، والتنوع في الأعمال المقدمة يغني المعرض ولا يقلل من قيمة فنان معين، فإن حصل وشاركت فنانا ما في معرض لن أتردد، وإن لم يكن فلا مشكلة لدي، فقد خضت التجربتين، المهم عندي هو العمل الفني، لا أين ولا مع من يشكل فرقا بالنسبة لي.

• هل ثمة لوحة تتطلع لرسمها، ولم ترسمها بعد؟

كنت وما زلت أرغب برسم لوحة لوالدتي رحمة الله عليها، لكني لم أجد لها صورة عندي تصلح لهذا النوع من الرسم، وما وجدته يصلح للرسم بالرصاص ولكن بالألوان فلا. وهي متوفاة منذ فترة طويلة، وهذه هي اللوحة التي أود العمل عليها، وعسى أن يوفقني الله يوما ما.

• أن تبيع لوحة فنية لا يشبه ذلك بيع صورة فوتوغرافية، الصورة تبقى محفوظة عندك، لكن ذلك لا يحدث مع اللوحة، فهي العمل والتجلي الذي يحدث لمرة واحدة لكل لوحة، كيف تشعر حيال ذلك؟

بعت لوحات في الأردن، وشعرت أنه نقصني شيء ما، لكن في الغالب أهدي اللوحات لأشخاص يقدرونها ويتذكرونني، فاللوحات كبناتي إذا زوجتهن لم أفقدهن، ولكن أودعتهن عند شخص آخر سيحافظ عليهن بكل تأكيد. أما عندما جئت إلى هنا جلبت الباقي معي، ولو تنقلت ثانية قد أهديها لمؤسسات أو لهيئات، أو أحد من طلابي الذين أعزهم كثيرا، وأعتقد أن العمل الفني يجب أن يكون عند الناس، ولا يبقى حكرا عند الفنان وحده، يجب أن يكون في متناول الناس، في متحف مثلا، يجمّل الجدران و الحياة. طبعا في الأردن كنت أعلق اللوحات على الجدران، أما هنا أخشى تعليقها فيغضب مؤجر البيت، وعلى كل حال أنا لا أملك البيت وإذا تكاثرت اللوحات سأهديها بالتأكيد كما أسلفت لمن أحب، وأسعد كثيرا عندما أجد لوحة لي في جدار أشخاص أعزهم، بل أشعر أني جزء من بيوتاتهم، وهذا مدعاة فخر واعتزاز.