الملف السياسي

عناصر أساسية لبناء حاضر ومستقبل أفضل !

22 يناير 2018
22 يناير 2018

د. عبدالحميد الموافي -

اذا كان البحر قد شكل بوابة الشعب العماني الى العالم من حوله، شرقا ، وصولا الى سنغافورة وكانتون، وجنوبا الى مدغشقر وموروني وممباسا ودار السلام ، وكل موانئ الساحل الشرقي لإفريقيا ، وغربا وصولا الى نيويورك ، واذا كان العلامة البحار العماني « إحمد بن ماجد » هو الذي قاد سفن البوكيرك للدوران حول افريقيا – رأس الرجاء الصالح - ليصل البرتغاليون الى الهند ، فان البحر لا يزال قبلة الكثيرين من العمانيين ، كطريق للتجارة وللتواصل مع الشعوب الأخرى،

وكسبيل للصيد والاستمتاع ، فإن مما له دلالة عميقة أن يؤكد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – قبل اثنين وعشرين عاما – ومن مدينة صور « ذات الأمجاد البحرية التليدة » الاعتزاز العظيم بتاريخ عمان البحري الذي سطرته تلك الصواري الشامخة ، التي اندفعت ، في ذلك الماضي الموشى بالمجد من مختلف الموانئ العمانية تمخر العباب المتلاطم في طموح فتي ، مجسدة قوة هذا البلد وقدرته ، وهيبته وعزته، ورغبته في التواصل مع حضارات الأمم كلها ، القريبة منها والبعيدة . وفي هذا الإطار فانه يمكن القول بأن الاهتمام العماني الواضح والمتواصل ، بإعادة إحياء الموانئ العمانية ، وبتطويرها على أسس حديثة ، ومن ثم استعادة أمجادها السابقة ، تجاريا واستراتيجيا ، بالنسبة لعمان وللمنطقة من حولها أيضا ، ليس مجرد حنين الى ماض تليد ، ولكنه بالتأكيد تحرك ونشاط مدروس ، وبعيد النظر أيضا لإعادة استثمار الموقع العماني الاستراتيجي الفريد ، لصالح الحاضر والمستقبل العماني والخليجي والإقليمي والدولي كذلك ، ففي عالم اليوم ، وفي ظل العولمة والاقتصاد الحر والسوق المفتوح ، تلعب الموانئ البحرية دورا بالغ الأهمية ، في التجارة ، وفي السياسة والاستراتيجية ، إقليميا ودوليا كذلك . ونظرة سريعة الى الرقعة البحرية من حولنا نستطيع أن نرى الكثير من التحركات ، الواضحة والمستترة ، المعلنة وغير المعلنة ، فيما سماه البعض « تنافس أو صراع » الموانئ بالقرب من هذه المنطقة الحيوية ومن حولها . ولسنا في حاجة الى الإشارة الى كثير منها ، لأن استراتيجية الصين « عالم واحد – طريق واحد » التي تستثمر فيها مئات المليارات من الدولارات ، على نفقتها هي، لإحياء وإعادة تنشيط سلسلة الموانئ على امتداد طريق الحرير ، من شرق آسيا الى أوروبا ، عبر الطريقين الشمالي والجنوبي ، هو من أبرز النماذج في هذا المجال .

وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة الى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

*أولا : انه اذا كانت سلطنة عمان تتمتع ، منذ الأزل بموقع استراتيجي بالغ الأهمية ، فان الإدراك العماني الحديث لأهمية هذا الموقع ، ولضرورة استثماره الاستثمار الأمثل ، لصالح حاضر ومستقبل الأجيال العمانية ،هو بالتأكيد ، ليس وليد اليوم ، وليس من نتاج البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي ( تنفيذ )، لأنه في الواقع اسبق من ذلك بكثير ، فالعمانيون من الأجداد عرفوا ذلك جيدا ، في أزمنتهم ، وذهبوا بالفعل الى أقصى موانئ يمكنهم الوصول إليها ، حاملين الخير والسلام ، وبانين لعلاقات قوية مع مختلف الشعوب الأخرى ، وتعزيز المصالح المتبادلة معهم ، ومحترمين عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم أيضا ، ومن ثم فانه لم يكن غريبا ، وان كان مدهشا وبالغ المعنى، أن يكون الأسطول البحري العماني احد ثلاثة أساطيل لها القوة والسيطرة في المحيط الهندي في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، في عهد السيد سعيد بن سلطان ( 1806 – 1856 ) ، الى جانب الأسطولين البريطاني والفرنسي . وفي حين استمرت العلاقات الطيبة لعمان مع الدول والشعوب الأخرى حتى الآن ، دون مطامع بالتأكيد ، فان عمان في ظل حكم حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - أبقاه الله - تدرك وتختزن كل خبراتها التاريخية السابقة ، وتعمل بهدوء وثقة وبإرادة قوية أيضا ، على الاستفادة منها ، ومن ثم فان الأمر ليس اكتشافا ، ولكنه استثمار لواقع تاريخي وحضاري ممتد عبر الزمن . صحيح أن هناك من تحدث أحيانا عن منافسات ، ومخططات ، واستراتيجيات للقفز ، أو للتطويق ، أو لغير ذلك من الألاعيب المعروفة ، ووصل الأمر بالبعض الى الحديث عن حرب الموانئ في جنوب آسيا ، ولكن هذا الأمر لا يعني عمان في الواقع لسبب بسيط ، هي انها وكعادتها دوما ، لا تتنافس مع احد ، ولا تتصارع مع مشروع ، لأنها صاحبة الأفكار الخلاقة في هذا المجال ، ولأنها ، في مسيرتها الحديثة ، تعلم جيدا إمكاناتها وقدراتها الوطنية ، الظاهرة والكامنة ، ولأنها أيضا تريد الخير لها ولكل الأشقاء والأصدقاء على أساس من الاحترام المتبادل واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين ، وبالتأكيد رفض التدخل في شؤونها ، أو المساس بترابها ، ولذا فإنها واثقة تماما من مسارها ، وتعرف جيدا أهدافها ، ولديها تصورها وخريطة الطريق التي تسير برامجها التنموية على أساسها ، في كل مرحلة من مراحل تنميتها الوطنية .

ومن يعود الى مؤتمر الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني 2020 ( عمان 2020 ) ، الذي عقد في مسقط في 3 – 6 – 1995، والذي وضع أسس وخطوط أول خطة تنمية اقتصادية طويلة المدى، امتدت على مدى ربع قرن، والتي بدأت في عام 1996، مع بداية خطة التنمية الخمسية الخامسة ( 1996 – 2000 ) والتي تنتهي في عام 2020 ، أي في نهاية خطة التنمية الخمسية التاسعة ( 2016 – 2020 ) فانه سيجد أن من اهم ركائزها العمل على تنويع مصادر الدخل والاستفادة من الموقع الاستراتيجي للسلطنة وتطوير الموانئ العمانية والسياحة ودعم الصادرات وزيادة ارتباط الاقتصاد العماني بالاقتصاد العالمي ، وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع القطاع الخاص، وبالفعل انطلقت منذ ذلك الوقت عملية تطوير للموانئ العمانية ، بدأت بتطوير كل من ميناء السلطان قابوس ، وميناء ريسوت – صلالة بعد ذلك – وميناء خصب في مسندم ، ووضع مخطط انشاء ميناء صحار ، وذلك مع بداية النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.

ونظرا لأن تطوير الموانئ ، سواء في السلطنة أو في غيرها من الدول ، لا يتم في فراغ، ولكنه يتطلب حدا أدنى من النشاط التجاري والاقتصادي ، القادر على تغذية وتشغيل تلك الموانئ ، والاستفادة المناسبة منها ، فان السنوات وخطط التنمية السابقة، في إطار الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني ( 2020 ) هيأت في الواقع لتحقيق ذلك الآن ، ومن ثم فانه مع تطوير ميناء السلطان قابوس ، وانشاء وتوسعة ميناء الحاويات في صلالة ، وانشاء وتوسعة ميناء صحار ، وتطوير ميناء خصب في مسندم ، وتطوير امكانات ميناء صور وميناء شناص وميناء دبا في شبه جزيرة مسندم أيضا ، جاءت المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم لتستكمل هذه المنظومة المتطورة للموانئ العمانية .

*ثانيا: انه من الطبيعي ، وبعد سنوات مسيرة النهضة العمانية الحديثة ، وما تم ، ويتم إنجازه من خطوات وبرامج تنموية في مختلف قطاعات الاقتصاد العماني ، وما تحقق من نقلة نوعية في الاقتصاد العماني ، وما بنته السلطنة من علاقات طيبة ومتسعة بامتداد العالم من حولنا ، أن يأتي وقت الاهتمام بتطوير الموانئ العمانية بشكل أكبر، وأكثر تكاملا ، ووفق رؤية محددة الملامح ، ليس فقط استنادا الى نجاحات جرت خلال السنوات الماضية ، في موانئ السلطان قابوس ، وصحار ، وصلالة ، وصور وخصب ، وهي نجاحات مرتكزة على أسس موضوعية ، وليس على آمال او تصورات ، ولكن استنادا أيضا الى استراتيجية تحويل عمان الى مركز لوجستي إقليمي متطور ، عبر تطوير المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم ، لتدخل بدورها ضمن هذه المنظومة ، ووفق احدث المعايير والتجهيزات التكنولوجية والرقمية الحديثة للموانئ ، تحقيقا لهذا الهدف الوطني ، الذي بات يشكل أحد المسارات الواعدة نحو مستقبل افضل للسلطنة وللشعب العماني . وفي ظل التفاعل النشط للاقتصاد العماني مع الاقتصاد العالمي ، وزيادة قدرة الاقتصاد العماني ، وتغير سماته ، التي كانت له قبل عقود ، فإن قطاع الموانئ العمانية يعد قطاعا حيويا ومحركا للاقتصاد الوطني ، ولاستراتيجية التنويع الاقتصادي ، بالتعاون والتكامل مع القطاعات الأخرى، وهو ما يتم التركيز عليه الآن ، سواء خلال السنوات المتبقية من خطة التنمية الخمسية التاسعة ، حتى عام 2020 ، أو خلال استراتيجية التنمية المستدامة القادمة (عمان 2040 ) التي يتم الإعداد لها حاليا . ولعل ما يبعث على الثقة والارتياح انه تتوفر لعمان الآن ، الى جانب الخبرات التاريخية ، خبرات حديثة ومتطورة ، ومن شباب دارس وواعد واثبت كفاءة في اكثر من موقع واكثر من ميناء عماني خلال السنوات الأخيرة ، هذا فضلا عن التنسيق والتعاون مع موانئ دولية معروفة بمكانتها وكفاءتها العالمية ، ومنها ميناء نوتردام الهولندي على سبيل المثال. وقد جاء مؤتمر عمان الدولي الأول للموانئ قبل أيام ليلقي مزيدا من الضوء على ما يمكن القيام به ، وما يمكن أن تصل اليه استراتيجية تطوير الموانئ العمانية ، والتي تميل الى التخصص ، تخصص الموانئ ، بمعنى تركيز كل ميناء على نشاط رئيسي معين من الأنشطة المعروفة ، بحيث تكون له ميزة نسبية فيها من ناحية ، وتكامل أنشطتها – الموانئ العمانية - مع بعضها البعض من ناحية ثانية .

* ثالثا : انه في الوقت الذي يسير فيه العمل على قدم وساق ، في استكمال البنية الأساسية والمشروعات المختلفة في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم ، وفق ما هو مخطط لها ، وضخ الاستثمارات المحلية والخليجية والدولية – العمانية والكويتية والقطرية والصينية وغيرها من الاستثمارات القائمة والمحتملة – فإن حكومة حضرة صاحب الجلالة تسعى جاهدة من أجل تأمين محاور نقل رئيسية ، ليس فقط في إطار الاستراتيجية الصينية « عالم واحد طريق واحد » ولكن عبر علاقاتها القوية مع دول وسط آسيا والعمل على ربطها بالموانئ العمانية عبر إيران ، مع زيادة قدرة ومحاور الربط بين الموانئ العمانية وموانئ الدول الشقيقة والصديقة في المنطقة ، سواء من خلال تطوير شبكة الطرق البرية العمانية ، والذي يتم وفق مواصفات عالمية في هذا المجال ، أو من خلال شبكة السكك الحديدية داخل السلطنة ومع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ، وهو ما يتكامل أيضا مع تطوير النقل الجوي في السلطنة ، عبر مطار مسقط الدولي الجديد ، ومطار صلالة والمطارات الأخرى التي يتم العمل لإنشائها في عدد من المحافظات ، وقد دخل بعضها الخدمة بالفعل ، وهو ما يدعم هدف تحويل السلطنة الى مركز لوجيستي متطور وقادر على خدمة الاقتصاد والتجارة في السلطنة وعلى مستوى المنطقة لسنوات طويلة قادمة .

وبالتوازي مع العناية بتطوير الموانئ العمانية ، وفق افضل المعايير العالمية ، فانه يتم العمل على تطوير قطاع الطاقة المتجددة ، ليس فقط لخفض الاعتماد على النفط ، وهو أمر حيوي ، ولكن أيضا لمواكبة تطور عالمي يفرض نفسه بقوة وينتشر بسرعة على امتداد العالم من حولنا ، سواء بالنسبة لاستخدامات الطاقة الشمسية ، أو طاقة الرياح لتوليد الكهرباء ، وقد خطت السلطنة بعض الخطوات في هذا المجال ، وتقوم شركة تنمية نفط عمان وجامعة السلطان قابوس بجهود ملموسة ، تتطور باستمرار ، وتضمن مواكبة السلطنة لهذا المجال بشكل يمكنها من الاستفادة من مقومات موجودة فيها بالفعل ، وهو ما أكدت جدواه الدراسات التي تمت في هذا المجال . وعلى ذلك تسير السلطنة بقوة ووعي عميق وإرادة صلبة لبناء مستقبل أفضل لأبنائها وبالاستثمار الأفضل لمواردها وللتطورات التقنية المناسبة لها ، والتي تحرص على مواكبتها باستمرار .