المنوعات

نـمـل وســـط الأفـيال

22 يناير 2018
22 يناير 2018

سوجاثا جيدلا -

ترجمة: أحمد شافعي -

لم تكن حكاياتي، وحكاياتي أهلي، حكايات في الهند. كانت مجرد حياة.

عندما رحلت وأصبح لي أصدقاء جدد في بلد جديد، حينها فقط، إذا بالأمور التي وقعت لأهلي، والأمور التي فعلناها، تتحول إلى حكايات. حكايات تستحق أن تحكى، حكايات جديرة بأن تدون.

ولدت في جنوب الهند، في بلدة تدعى خازيبت بولاية آندهرا براديش.

ولدت لأسرة من الطبقة المتوسطة الدنيا. كان أبواي محاضرين في الجامعة.

ولدت منبوذة.

حينما يسألني الناس في الولايات المتحدة عن معنى أن يكون المرء منبوذا، أفسر لهم بأن هذه الطبقة أشبه بالعنصرية ضد الأمريكيين الأفارقة هنا. فيسألون «لكن كيف لأي شخص أن يعرف طبقتك؟» فهم يعلمون أن الطبقة ليست مرئية شأن لون البشرة.

أشرح الأمر على هذا النحو. في قرى الهند وبلداتها يعرف الجميع الجميع. لكل طبقة دورها الخاص ومكانها الذي تعيش فيه. فالبراهما (الذين يؤدون المهام الكهنوتية)، والخزافون، والحدادون، والنجارون، والغسَالون، إلى آخر ذلك ـ لكل منهم مكان حياته المنفصل في القرية. أما المنبوذون فدورهم الخاص وواجبهم الموروث أن يعملوا في حقول الآخرين أو أن يؤدوا من الأعمال ما يعتبره المجتمع الهندوسي وسخا، فغير مسموح لهم بالحياة في القرية على الإطلاق. عليهم أن يعيشوا خارج نطاق أرض القرية. غير مسموح لهم بدخول المعابد. غير مسموح لهم بالاقتراب من مصادر مياه الشرب التي تستعملها بقية الطبقات. غير مسموح لهم بتناول الطعام جلوسا بجانب طبقة هندوسية أو باستعمال نفس الآنية والأدوات. وثمة آلاف من مثل هذه المحاذير والإهانات تتباين من مكان إلى مكان. فلكم في كل يوم أن تطالعوا في صحيفة هندية خبرا عن منبوذ تعرض للضرب أو القتل لارتدائه نعلا أو ركوبه دراجة.

في بلدتك أو قريتك يعرف الجميع طبقتك، فلا مهرب لك منها. لكن كيف يعرف الناس طبقتك حينما تذهب إلى مكان آخر، إلى مكان لا يعرفك فيه أحد؟ هناك سوف يسألونك «من أي طبقة أنت؟» ولا يمكنك أن تفلت من هذا السؤال. ولا يمكنك أن تمتنع عن الإجابة. فبقوة التقاليد، لكل امرئ الحق في أن يعرف.

لو أنك متعلم مثلي، لو أنك لا تبدو مثل منبوذ نمطي، فلديك خيار. يمكنك أن تقول الحقيقة فتنبذ، وتتعرض للسخرية، والتنكيل ـ لدرجة سوقك إلى الانتحار مثلما يحدث بانتظام داخل الجامعات.

أو تكذب. وإن لم يصدقوك، سيسعون إلى معرفة طبقتك الحقيقية بطريقة أو بأخرى. قد يطرحون عليك أسئلة معينة: «هل امتطى أخوك حصانا في زفافه؟ هل ارتدت زوجته ساريا أحمر أم أبيض؟ بأي طريقة تلبس الساري؟ هل تأكل اللحم البقري؟ من إله أهلك؟». بل إنهم قد يستطلعون رأي شخص من منطقتك.

إن استطعت إقناعهم بكذبتك، فلن يكون بوسعك قطعا أن تحكي لهم حكاياتك، وحكايات أهلك. لا تستطيع أن تحكي لهم عن حياتك. فمن شأن ذلك أن يكشف عن طبقتك. لأن حياتك هي طبقتك، وطبقتك هي حياتك.

سواء عرفوا الحقيقة أم لم يعرفوها، تبقى حياتك كمنبوذ شيئا لا يمكنك الكلام عنه مطلقا.

ذلك كان حالي في بنجاب، وفي دلهي، وفي بومباي، وفي بانجلور، وفي مدراس، وفي وارانجال، وفي كانبور، وفي كلكوتا.

في السادسة والعشرين جئت إلى أمريكا حيث لا يعرف الناس إلا لون البشرة، وليس الطبقة التي ولدت فيها. البعض هنا يحبون الهنود والبعض يكرهونهم، ولكن مشاعرهم لا تتأثر بالطبقة. حدث مرة في حانة بأطلنطا أن قلت لرجل إنني غير قابلة لللمس «أي منبوذة»، فقال «أوه، بل أنت قابلة لذلك تماما».

لم أدرك إلا وأنا أتكلم مع بعض الأصدقاء الذين قابلتهم هنا أن حكاياتي، وحكايات أهلي، ليست مدعاة للإحساس بالعار.

*

كان عمر ساتيامورثي الذي عرف أيضا بـ إس إم أو بساتيام ـ أحد كبار مؤسسي جماعة عسكرية ماوية في أوائل السبعينيات أعلنتها الحكومة حديثا أكبر خطر على أمن الهند. لكن قصة صحوته السياسية بدأت قبل ذلك بكثير، حين كانت الهند لا تزال تحت الحكم الكولنيالي البريطاني.

في أغسطس من عام 1942 دعا غاندي البريطانيين إلى «مغادرة الهند». كان غاندي الزعيم الأساسي للحراك القومي منذ أكثر من عقدين. ولم يحدث مطلقا، خلال ذلك الوقت كله، أن تبنى مثل تلك النبرة الوطنية الحاسمة.

بدا آنذاك أن شيئا ما يوشك أخيرا أن ينجم عن كل الكلام الذي ظل ساتيام ـ وكان في الحادية عشرة آنذاك ـ يسمعه، فتبنى القضية الوطنية. كان البريطانيون منذ ما يربو على القرنين يحكمون البلد ويسرقون ثرواته الهائلة. وكان من شأن التحرر من ذلك الحكم أن يغير كل شيء بصورة طبيعية، بما في ذلك وضع عائلتي. كان قد سمع أن السادة البيض يقيمون في بيوت ويأكلون خبزا يقطعونه إلى شرائح بالسكاكين ويمسحون أفواههم بمناشف بيضاء. ومن المؤكد أن الهنود سوف يعيشون هذه الحياة بعد رحيل أولئك السادة.

دعا غاندي إلى «ثورة مفتوحة» لدعم مطلبه. وكان الشعب الهندي في انتظار ذلك النداء. فلم يكترثوا بتعليمات غاندي الداعية إلى البعد عن العنف في النضال. فكان المتظاهرون إذ أطلق البريطانيون الرصاص عليهم يقاتلونهم أيضا. هاجم النشطاء الشبان مراكز الشرطة، وقطعوا خطوط التلغراف، وأحرقوا مكاتب البريد، وهاجموا القطارات المحملة بالبضائع.

كان ساتيام يتوق إلى المشاركة في هذه الأعمال الثورية. فبحث في كل مكان عن أولئك الأبطال الجسورين. ومن أسف أن جميع الأنصار المشاهير كانوا قد اعتقلوا في غضون أربع وعشرين ساعة من نداء غاندي.

استنكر غاندي أعمال التخريب، وكان هو نفسه في السجن. كان يعول على التهديد بالمقاومة الشعبية في إضعاف قبضة البريطانيين على السلطة وإقناعهم بتسليمها للنخب المحلية. لكن آخر ما كان يريده هو أن تتسلح الحشود وتستولي على السلطة بأيديها.

حينما دعا غاندي إلى إيقاف حركة ارحلوا عن الهند، فقد ساتيام احترامه له. كان ساتيام يحلم أن يسهم بنفسه في الحركة ضد الإمبراطورية. كان يشعر في بعض الأحيان أن جسمه بات مسكونا بشبح بهجت سينج الشهيد الثوري المعادي للإمبريالية الذي قتله البريطانيون. صار ساتيام يكتب شعار «ارحلوا عن الهند» داخل البنايات المهجورة، ويسير في تحد على خطوط السكك الحديدية، وكان ذلك محظورا تحسبا لأعمال التخريب.

برغم تخلصه من أوهامه المتعلقة بغاندي، لم ينجذب ساتيام إلى خصومه الكبار، أي الشيوعيين، لعدم انضمامهم إلى حركة ارحلوا عن الهند. وكان ساتيام قد سأل جاره الشيوعي عن سر عزوفهم فشرح له:

«علينا أن نناصر البريطانيين في الحرب. فهم أحلاف الاتحاد السوفييتي».

«ولكن لماذا نبالي بالاتحاد السوفييتي أصلا؟»

«لأنه بلد كل فقراء العالم».

لم يقتنع ساتايام. كان أهله فقراء، وكذلك كل جيرانه. وبسبب الفقر ماتت أمه، وعانى أبوه. كان الجميع يقولون إن السادة البيض ينهبون ثروة الهند وهم سبب فقر البلد كله.

دعم ساتيام المؤتمر، وهو الحزب السياسي الذي تحالف مع غاندي في جبهة القضية الوطنية؛ لمعارضته للبريطانيين. لكن بطله لم يكن غاندي، بل كان سوبهاس تشاندري بوس الذي كان لديه فصيل عسكري في حزب المؤتمر. خلافا لغاندي كان بوس مقتنعا أنه ما من سبيل إلى إقناع البريطانيين بالرحيل طوعا عن الهند، وأن السبيل الوحيد إلى ذلك لن يكون إلا بإرغامهم عليه. وتحقيقا لتلك الغاية، طلب مساعدة منافسي بريطانيا الإمبرياليين: أي النازيين الألمان واليابانيين. أقام جيشا في سنغافورة ـ هو الجيش الوطني الهندي ـ لتحرير شبه القارة. ولكنه سيموت لاحقا في حادث تحطم طائرة قبل أن يحقق خططه. وبرغم موته، بقي معبودا لجموع الهنود المتحفزين.

اشترى ساتيام من السوق صورة رخيصة وشعبية لسوبهاس تشاندري بوس. وفي ليلة تسلل هو وكاري إلى فصل ساتيام في المدرسة وعلقا الصورة على السبورة. فكان ذلك عمل ساتيام التحريضي.

في الصباح التالي طلب المعلم أن يعرف من المسؤول. فلزم ساتيام الصمت. قال المعلم «مهما يكن من فعل ذلك، أنا أحييه. وأنا فخور بأنني معلمه». حتى في ذلك الوقت، كان بعض المعلمين في المدارس الحكومية شجعان لدرجة التعبير عن ميولهم الوطنية.

لكن قمع حركة ارحلوا عن الهند كان يعني بالضرورة أن يبقى نشطاء حزب المؤتمر مختفين. فبحث ساتيام طويلا عن أي منهم. ولما قابلهم في نهاية المطاف كان ذلك بمحض الصدفة.

لما كانت طبقة الحلاقين لا يمكن أن تلمس شعر المنبوذين، كان ساتيام يذهب إلى «حلاق المسيح»: وهو مسيحي يتعلم الحلاقة على يد البعثات التبشيرية ليكون في خدمة إخوانه من المنبوذين. ولكن حلاقي المسيح لم يكونوا محترفين. كانوا يمارسون الحلاقة في أوقات فراغهم، ويعملون بالمجان وبدون أدوات مناسبة. وكان ساتيام قد ضجر من فرط سخرية زملائه منه لسوء قصات شعره.

وأصرَ صديق طبقي في المدرسة على اصطحابه إلى حلاقه الخاص فيراسوامي. فيراسوامي كان وطنيا متحمسا، يؤمن أنه على جميع الهنود الطبقيين والمنبوذين أن يتوحدوا لقتال البريطانيين. وأخيرا قابل ساتيام ناشطا حقيقيا. لم يكتف فيراسوامي بحلاقة شعر ساتيام، بل أعطاه دروسا في السياسة، وظل يوفر له مواد للقراءة. برغم صغر سن ساتيام تكلم معه فيراسوامي بجدية وعرفه على أشخاص يفكرون مثله ممن كانوا يتجمعون في محل فيراسوامي.

بعدما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وصل حزب العمل إلى السلطة في بريطانيا. أدركت الحكومة الجديدة أنها لن تبقى قادرة على الاستمرار في الحكم الكولنيالي المباشر لشبه القارة. كان خير أمل في حماية المصالح البريطانية هناك يكمن في نقل السلطة إلى حزب المؤتمر. تم الإفراج عن السجناء السياسيين الذين اعتقلوا في أثناء حركة ارحلوا عن الهند (ما عدا الشيوعيين) والإعلان عن انتخابات لتشكيل حكومات محلية للمقاطعات. على أن يظل نائب الملك البريطاني في السلطة المركزية في الوقت الراهن.

استعدادا للانتخابات أجرى حزب المؤتمر انتخابات داخلية لاختيار قيادته. انتخب ساتيام ـ وكان في الرابعة عشرة من عمره ـ أمينا للصندوق في مؤتمر شباب جوديفادا. وكان المنبوذ الوحيد الذي يتولى منصبا في لجنة البلدة.

حينما جاء أصدقاؤه من المؤتمر لزيارته في البيت الذي اشترته جدته حديثا في مستعمرة المنبوذين الجديدة في سلاتر بيتا، كانت تطلق عليه بفخر لقب «ما جوالول» أي نهرو الخاص بنا. وكان أخوته يعبدونه، ويتباهون به على أصدقائهم، ويتبنون جميع أفكاره.

في السنة الأخيرة له في المدرسة، قاد ساتيام إضرابا طلابيا. طالب الإضراب بإنهاء «نظام الاحتجاز» الذي كان يشترط على الطلبة المتخرجين أن يجتازوا امتحانا في مدارسهم ليؤهلهم لدخول الامتحان الوطني النهائي بعد شهرين. كان الطلبة وآباؤهم على السواء يرون في هذا الإجراء ظلما وقمعا. وحينما بدأت الحركة المناهضة له في أرجاء الدولة كلها، قاد ساتيام الكفاح ضده في جوديفادا، مضفيا على الإضراب طابعا سياسيا، محيلا إياه إلى مظاهرة ضد الحكم البريطاني.

سرق قميص أبيه العسكري ليلبسه لتمثال الإمبريالية الذي أقامه الطلبة من القش ليضرموا فيه النار في مركز المدينة. واستمر الإضراب شهرا قبل أن تستسلم الحكومة وتلغي نظام الاحتجاز. وكانت تلك علامة على أن البنية الكولونيالية القديمة بدأت تنسحب.

*

في منتصف ليل الخامس عشر من أغسطس سنة 1947، يوم استقلال الهند، أتى أخيرا اليوم الذي ظل ساتيام يحلم به طوال السنوات الخمس. لم يواته النوم في تلك الليلة. وفي الصباح اغتسل بعناية وارتدى أفضل ثيابه. وغادر غرفته مبكرا راغبا في ألا يفوته شيء. احتشد طلبة الكليات من شتى أرجاء المقاطعة، وآلاف عمال البلدية للمشاركة في الاحتفال بحرمه الجامعي. وتضخم الحشد كأنه النهر في موسم الفيضان.

واقفا كتفا إلى كتف، أنشد الطلبة والعمال في صوت واحد:

عالم مختلف

عالم مختلف ينادينا.

وبينما يشاركهم النشيد، فاضت عينا ساتيام بالدموع. كان الحكم البريطاني قد انتهى، ولكن العمل الحقيقي من أجل الاستقلال كان لا يزال كثيرا. فكر «ها هم يرحلون، ولكن علينا أن نبني هذا البلد».

في خطبهم، تكلم الساسة والمثقفون والزعماء النقابيون جميعا عن «مواطني هند المستقبل». من كان أولئك؟ كانوا هو. الشباب من أمثاله.

استمرت الاحتفالات طيلة اليوم. وبينما كان يشاهد الرقصات والمسرحيات والمسابقات، أدرك ساتيام أنه لا يعرف بين هذه الحشود جميعا من يمكن أن يتكلم معه. كانوا جميعا يلبسون أفضل ثيابهم، وكم كان الفارق كبيرا بين أفضل ثيابه وأفضل ثيابهم. كانت البنات مرتديات الساري الأنيق بينما ارتدى الأولاد القمصان والسراويل الغربية. بينما كان يبدو هو بجوارهم، بقميصه اللالاتشي (التقليدي) الأبيض، في غير مكانه.

على مدار أسابيع كان قد عمل بجانب غيره من الطلبة، ليل نهار، للمساعدة في التجهيز لتلك الاحتفالات. ولكن التضامن الذي كان يشعر به لم يعد له وجود. فما كاد العدو المشترك ينهزم، حتى تقدمت إلى الصدارة الاختلافات بينه وبين غيره من الطلبة. لاحظ ببساطة أنه لم يكن مدرجا ضمن أي من العروض.

استمرت الاحتفالات حتى المساء. تضمن البرنامج مسابقة في الأزياء، فارتدت فتاة زي لمبادي ـ وهي المرأة المنتمية إلى قبيلة فقيرة في أندهارا ممن يرتدين ثيابا مميزة الألوان والتطريز ـ وهذه الفتاة هي التي فازت بالجائزة. فتساءل ساتيام في نفسه «هل كانت امرأة لمبادي حقيقية لتفوز بذلك الإعجاب؟» بينما كانت الفتاة الفائزة ـ وهي ابنة أسرة هندوسية ثرية ـ تصعد إلى المسرح وسط تصفيق الحضور لتلقي الجائزة.

وبينما هو ناظر، إذا بولد ممتلئ لم يكن ساتيام قد رآه من قبل، يأتي إليه ويعرفه بنفسه. طرح سؤالا غريبا على ساتايام، سؤالا لم يجد له ساتيام إجابة: «هل تعتقد أن هذا الاستقلال لمثلك ومثلي؟»

*

بعد بضع سنوات، بدأ ساتيام يدرس في كلية آيه سي المرموقة في جونتور. فلما ازدادت الديون على أبيه وتفاقمت حتى أغرقت العائلة في فقر مدقع لم يبق لدى ساتيام ما يدفع به مصاريف الكلية، فبات في ورطة أليمة. لم يكن يعرف أحدا في كلية آيه سي، أو أحدا في مدينة جونتور كلها، يمكن أن يميل عليه طالبا العون. لم يستطع أن يدفع رسوم المطعم عن شهر يوليو. وأمهلوه شهرا، فلما عجز عن دفع رسوم الشهر التالي أضافت الكلية اسمه إلى قائمة الطلبة المخالفين التي تعلق في مدخل المطعم ليراها العالم كله. وتفاديا لمقابلة زملائه بدأ يذهب إلى المطعم قبل إغلاقه مباشرة، بعد أن يكون الجميع قد غادروه، وحتى حينئذ كان مدير المطعم يستقبله كلما دخل بنظرة من يقول له «لا تدفع الرسوم وتجرؤ على المجيء لتناول الطعام؟» فصار ساتيام يتجنب الوجبات كلما أمكنه ذلك.

لم يكن الفقر جديدا عليه. فقد عاش حياته كلها فقيرا. في «سلاتر بيتا» كان الفارق بين أسرته وبقية الأسر في مجتمع المنبوذين صغيرا. كانوا جميعهم من النمل. لم يكن ثمة فارق كبير في أن يكون أحدهم أكبر قليلا من البقية. أما في كلية آيه سي، فكان ساتيام نملة وسط الأفيال.

لم يكن من طالب غيره في وضعه ذلك. كان يعاني الجوع، وكان أشد عليه من الجوع ما يعانيه من وحدة وإحساس بالعار.

أمسى ساتيام وحيدا تماما في مدينة غريبة بلا أحد يمكن أن يسأله العون. لقد أخطأ أهله حينما بعثوه إلى كلية آيه سي. أوقعهم الطمع في الخطأ. طلبوا أكثر مما ينبغي.

شعر ساتيام بالعار من رؤية زملائه لاسمه معلقا في مدخل المطعم. لم تكن لديه نقود لشراء الكتب أو للتسجيل في المعمل أو لرسوم الفصل الدراسي أو لرسوم الامتحانات. لم يكن يملك ما يعينه على ارتداء مثلما يرتديه الطلبة، أي القميص والسروال. كان مشبك حزامه مكسورا فاستعاض عنه بدبوس لم يكن يكف عن الوقوع، فتوقف عن حضور المحاضرات.

ولم يجد ما يفعله خيرا من قراءة الجرائد في مكتبة الكلية، وعند الانتهاء من الجرائد كان يهيم في أكوام الكتب.

كانت مكتبة الكلية تقع فوق قاعة المحاضرات، وكانت فيها مجموعة ضخمة من أدب لغة التيلوجو Telugu. لم يكن ساتيام مهتما بأدب التيلوجو، فما سبق أن اطلع عليه منه في كتب المدرسة الثانوية أشعره بالملل. فشعر التيلوجو ينقسم إلى نوعين: البوراناس (وهي قصائد ميثولوجية في مديح الآلهة) والبراباندهاس (وهي قصائد في مدح الحكام). وكلها كانت مكتوبة بلغة فصيحة وبلاغة مستعارة من السنسكريتية. فكان كل ذلك الشعر يبدو للناطقين بالتيلوجو مفتقرا إلى الذكاء.

وبينما ساتيام يهيم في مكتبة كلية آيه سي اكتشف نوعا جديدا من الشعر لا يتخذ الآلهة أو الحكام موضوعا له. كان شعرا عن الناس العاديين والحياة المعاصرة. كان الشعر الذي عثر عليه ساتيام متخففا من الأوزان المعقدة الصارمة التي اتسمت بها القوالب القديمة. واللغة نفسها كانت عامية التيلوجو الحديثة، اليسيرة على الفهم، والجميلة أيضا. قرأ ساتيام أنطولوجيا «رواد العصر الجديد» لمودو كريشنودو. كانت أول أنطولوجيا تقع عليها عيناه من شعر التيلوجو الحديث.

أغلب القصائد كانت قصائد حب. وفيما يقرأ، شعر ساتيام بأحاسيس جديدة تتحرك بداخله.

مضى يقرأ كل قصيدة حديثة في المكتبة. قصائد لجوشوا، وديفولابالي، وناندوري، ودوفوري، وثريبورانيني، وكاروناسري وجوراجادا. وأولئك كانوا رواد الأدب الجديد مثلما كان يطلق على الحركة الأدبية التي وقع عليها. بينما كانت المحاضرات في الطابق السفلي تلقى والطلبة يدرسون، كان ساتيام يقرأ. قرأ في اليمين واليسار. تعلم أن يختبئ في المكتبة حين تغلق أبوابها ليلا فكان ينام فيها في بعض الأحيان.

كان أبو حركة الأدب الجديد هو جوراجادا. وأشهر قصائده قصيدة كتبها سنة 1910 بعنوان «أحبوا بلدكم». في هذه القصيدة بيتان كان لهما أثر عظيم على الوعي السياسي للناطقين بالتيلوجو:

الوطن ليس التراب.

الوطن هو الناس.

بيتان بسيطا، وفي غاية القوة. كأن جوراجادا أوضح فيهما معنى الوطن لكثير ممن كان الوطن بالنسبة لهم فكرة حديثة مجردة. بيتان ظلا يتبعان ساتيام أينما ولَى.

نشر هذا الجزء من كتاب «Ants Among

Elephants: An Untouchable Family and the Making of Modern India »

في بوسطن رفيو