أفكار وآراء

الشخصنة.. حالة إسقاط مع سبق الإصرار !!

21 يناير 2018
21 يناير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تتجسد حالة الـ«شخصنة» أكثر على مسارح النقد، وهذه مثلبة يقع فيها كثير من النقاد في مختلف مجالات الحياة، حيث يقفزون من نقد العمل الفني -على سبيل المثال- الى نقد الشخص، ويكيلون عليه من المساوئ، ومن الإساءة الى شخصه، ومن السباب والشتائم؛ في بعض الأحيان؛ ما يندى له الجبين، ويتركون ما يجب نقده من عمل خارج الدائرة.

تتجاوز الـ«شخصنة» حدود العلاقة السوية التي تقوم بين مختلف الأطراف، ولذلك ينظر إليها بشيء من الريبة، وعدم الثقة، وتخضع لتقييمات المتلقي من كلا الطرفين وفق رؤية كل واحد على حدة، ووفق مسوغات قد لا تذهب الى حقائق الأمور بشكل صحيح، لأن كل طرف ينطلق من رؤية خاصة جدا، وينتصر لرؤيته الى حد بعيد، ولذلك هناك من يرى أن الـ«شخصنة» حالة تمرد لا تتفق والنظم التي ينادي بها المجتمع في سياقات التعامل القائمة بين أفراده، ويرى الـ«شخصنة» خروجا صارخا عن هذه السياقات في محطاتها المختلفة، ولذلك من يسقط رؤى الآخرين، أو حتى رؤيته هو على حالته الخاصة، وينقل هذه الرؤى من الحالة العامة، يوصف بضعف الشخصية أو قلة المعرفة، أو ضآلة الخبرة، وهي صفات لا تشفع له إطلاقا لأن يتكور على ذاته، ويلبسها لباس الفخار، ويعلي قدرها الى الحد الذي يسقطها في نظر الآخرين ليحل هو في المقابل ضيفا دائما في مستنقع الـ«شخصنة».

يظل تجاوز الـ«شخصنة» قائما كلما أنجز الفرد تقدما معينا، حيث يتضح من الواقع المعاش أن عددا غير قليل من الذين ينجزون مكسبا شخصيا؛ سواء مكسبا وجاهيا، أو مكسبا إداريا، أو مكسبا ماديا، يرتفع به من حالة الضنك، الى حالة الرخاء المادي، يتكرس عنده غالبا، مفهوم الـ«شخصنة» أكثر من غيره، لأنه ربما حقق الغايات الكبيرة في الحالة التي يكون عليها، وأنه لا غايات بعدها، وبالتالي يملي عليه تفكيره الضيق لأن يكون هو «الخصم والحكم» وبالتالي أي فرد وصل الى هذه القناعات في التعامل مع الآخرين، انطلاقا من مكاسبه الشخصية، يقينا سيجد نفسه أنه في موقع من يملك كلمة الفصل، وأن الآخرين من حوله يجب أن يمتثلوا أمامه أقزاما !!، أو أن المشوار لا يزال أمامهم طويلا حتى يصلوا الى ما وصل إليه، ولذلك هناك من يرى أن من يقع في مستنقع الـ«شخصنة» تتسع عنده مساحة التأويل. وبالتالي لا تنطبق عليه أو معه قاعدة (1 1=2) وإنما تخضع النتيجة وفق الرؤية الشخصية، خاصة إذا لقي مباركة البعض من أفراد المجتمع المحيط به، لأن القاعدة أن جل أفراد المجتمع لا يحبذون هذه الـ«شخصنة» ويمقتونها، بل ويعدونها خلقا معيبا، ومتى كان أحد أفراد المجتمع واقع في مطبها، تكون السهام موجهة إليه بصورة دائما، ويتحاشاه الناس، وينظرون إليه بشيء من عدم الارتياح.

واتساقا مع هذه الفهم أعلاه يظل هناك شعور نام تنمو من خلاله الذاتية لدى «المتشخصن» الى حقيقة صناعة البطل أو المارد في بعض المواقف، ومتى تمت صناعة هذا البطل في حضن المجتمع، كانت المصيبة أكبر، ولذلك قال أحدهم: «ليس هناك ما هو أخطر على الأوطان والشعوب من تولية سفهاء الأحلام شؤون الناس»، فإذا صار السفيه له الكلمة «في الدماء والأموال والأعراض، فانتظر الهلاك المحتوم للبريء والمتهم معا» وهذه من أسوأ الموروثات التي تورثها الشعوب التقليدية لأفرادها، حيث تعلي سهم الفرد على حساب الجماعة، أكثر منه لدى الشعوب الواعية، التي تسعى لتعزيز الجماعة، مع الاحتفاظ بحقوق الفرد، وتلك مفارقة كبيرة ومغالطة في فهم الآخر في المسافة الفاصلة بين الفهمين، ومنها يأتي فهم إنكار الجهود العامة، وتحويرها على الشخصية المحورية فقط، وهذا واقع لا يقبله منطق، مهما كانت مبررات هذا المنطق، ولذلك يقع أكثر ما يقع في هذه الإشكالية هم الصحافيون والإعلاميون على وجه الخصوص، وخاصة عندما يودون إجراء تحقيقات أو حوارات صحفية، فإنهم يصطدمون برئيس المؤسسة، فكل قول يجب أن يصدر منه، وكل رأي يجب أن يكون رأيه، ومن هنا يأتي أيضا ردات الفعل القوية عند نقد عمل المؤسسة، حيث يرى رئيسها، أن النقد موجه إليه هو فقط، وليس لطاقم العمل المكون من مئات العاملين، بل من آلاف العاملين في بعض المؤسسات الكبيرة. ومنطقيا لا يمكن أن يحيط هذا المسؤول بكل هذا العدد الكبير من العاملين، فيعرف مدى قيام كل موظف بحق الوظيفة خير قيام، أو العكس.

متى يضمن أحدنا الحقيقة بتجردها التام، في ظل بروز الـ«شخصنة» والتي في مقدمة صفاتها تغريب الحقائق لكي تظهر الوجه المشرق «للمتشخصن» فقط، أما بخلاف ذلك فكل الحقائق غير معلنة، حيث يظل تعويم القضايا وصعوبة تحديدها من أهم صفات هذه الحالة في الوسط الاجتماعي، وكما أؤكد دائما أن لأفراد المجتمع الدور الأكبر في حلحلة مثل هذه الشخصيات في المجتمع، وعدم إعطائها الدور الأكبر للنمو والظهور أكثر مما ينبغي، أو النظر بحذر الى اشتغالات هذه الفئة بين أحضان المجتمع، لأن تداعياتها أيضا لها سلبيات كثيرة على زعزعة الثقة بالنفس فلا تعطي الرغبة في العمل، والمبادرة في الفعل، لأن هناك شخصية مهيمنة تحت مسميات كثيرة ووظائف أكثر، يظل الجميع محاطا بعباءتها الواسعة، وهذا يؤدي الى إحجام البعض عن تأدية الأداء الأفضل في مختلف الاشتغالات المتاحة للفرد في المجتمع، فوق ذلك تنشئ مثل هذه الحالات شخصيات أخرى تلعب دور «خائنة الأعين وما تخفي الصدور» حيث يستطيع من خلالها «المتشخصن» أن يقتات على ما يصله من أنشطة أفراد المجتمع لكي يعزز موقفه وأدواره، ويعلي سقف تمكنه أكثر وأكثر، وكما يقال: «ثابت الخطوة يمشي ملكا» وربما من فرط ما يتوارد عليه من هنا أو هناك، قد يتضرر آخرون يكون لهم رأي مخالف، أو قناعاتهم تختلف عن قناعات الآخرين الملتفين على دائرة «المتشخصن».

تتجسد حالة الـ«شخصنة» أكثر على مسارح النقد، وهذه مثلبة يقع فيها كثير من النقاد في مختلف مجالات الحياة، حيث يقفزون من نقد العمل الفني -على سبيل المثال- الى نقد الشخص، ويكيلون عليه من المساوئ، ومن الإساءة الى شخصه، ومن السباب والشتائم؛ في بعض الأحيان؛ ما يندى له الجبين، ويتركون ما يجب نقده من عمل خارج الدائرة. وهذه من المواقف التي تظهر عجز في الناقد وضعف الحجة لديه، وعدم تمكنه من الأخذ بأدوات النقد الصحيحة، فالنقد الموضوعي يبعد الناقد عن الـ«شخصنة»، ويحيد الرأي الحقيقي الى ما يجب أن يذهب إليه النقد وهو الموضوع، وليس الشخص، بغض النظر إن كان الناقد يتفق مع المنقود أو يختلف معه في المذهب والمعتقد، والأدوات التي أخذ بها لتعزيز موضوعه المطروح للنقاش، وبالتالي فمحاولة إبراز العيوب الشخصية لصاحب العمل، على حساب العيوب الفنية للعمل ذاته، يعد في قمة الـ«شخصنة» وهي الحالة التي يتورع كثير من الموضوعين في نقدهم عن السقوط في براثن الـ«شخصنة» وهم قلة، وحتى المدافعين عن أنفسهم في كثير من المواقف تراهم يقعون في نفس المأزق عندما ينتقلون من الدفاع عن أدواتهم الفنية في العمل صحيحة أو خاطئة الى الدفاع عن شخصهم، وكأنهم أشخاص منزهون عن كل عيب، وبالتالي لا يحق بأي حال من الأحوال للآخرين الاقتراب من أعمالهم، لأنهم فوق النقد، وهذه مواقف معايشة كثيرة، وهناك قصص تحدث باستمرار تحت هذه المظلة التي يتصارع فيها الطرفان كل واحد يدافع عن نفسه كشخص، ولا يدافع عن موضوعه، كموضوع يستحق أن يبقى في دائرة الاهتمام والأهمية، أو لا يستحق، والنتيجة تكون دائما أن لا غالب ولا مغلوب، فكل ينتصر لشخصه، والضحية في كل الأحوال هو المتلقي.

وتأتي الخلاصة هنا الى الوقوف على فهمين، أو قناعتين يمكن الأخذ بهما وهما الأولى: تفضي الـ«شخصنة» عادة الى مراقبة مبالغ فيها تجاه الآخر لتعزيز ثوابت الأول، حتى وإن كانت ثوابت خاطئة في القول والعمل، وهذا من شأنه أن يقزم مختلف الأنشطة التي يقوم بها هذا «الآخر» حيث تختزل كل الجهود تحت مظلة الفرد الواحد، وهذا لا يقبل منطقيا، ولا يحفز نحو تبني الأفكار للمبادرات الخلاقة، كما يقال.

أما الثانية: تنفي الـ«شخصنة» وتنزه الإنسان عن الأخطاء، وأن العمل قائم على مفهوم الخطأ والصواب، حيث يرى «المتشخصن» نفسه أنه الأسمى والأفضل والأعلى، وهذا يخرج الفهم نحو محدودية القدرة البشرية، ويعرض السياق الإنساني الى تجزئة المفاهيم النسبية، ويعرضها الى المفاهيم المطلقة.