المنوعات

عندما بكى عبد الرحمن منيف

20 يناير 2018
20 يناير 2018

عادل محمود -

يرتبط اسم عبد الرحمن منيف بروايتيه: «شرق المتوسط» و«شرق المتوسط مرة أخرى»، وهما نموذجيتان لأدب المرارة الإنسانية، ناتج التجربة الرهيبة للسجون العربية.. شرق المتوسط!

كاد يبكي صديقي «محمد صالح»، وهو يصف لي «السيلول»، ذلك المكان الرهيب تحت الأرض بطابقين، المؤلف من مترين طولاً ومتر ونصف عرضاً، مع حفرة تواليت، وضوء لمبة باهر ليلاً نهاراً.. السيلول هو «سجن السجن»، حيث يضيع الليل والنهار والأيام والشهور والسنون.. حيث يضيع الزمن.

يقول محمد: «بعد حفلة تعذيب رهيبة، الجلد، والتعليق، والصلب، والكهرباء، رموني في هذا المكان «السيلول» بعد الإغماء، وبعد قرار طبيب السجن، المسؤول عن تقرير كمية تحمل الضحية، لاستكمال التعذيب بغية انتزاع الاعترافات بأن جسدي لم يعد يتحمل المزيد.

مهنة هذا الطبيب واحدة من أبشع المهن الاجبارية في العالم.حيث يداس القسم الطبي المشهور، بالحفاظ على شرف المهنة، (قسم أبو قراط) فالطبيب، خوفا من الارتياب بتعاطفه مع الضحية لأسباب إنسانية.. يقرر، أن يتحمل ضميره جرعة من التواطؤ مع الجلاد، لتقرير جرعة اخرى من الألم للضحية.

يتابع محمد، وقد مضى نصف قرن، على هذه المحنة: «عندما استيقظت من الإغماء، كان عاديا الاّ أعرف أين أنا ؟.

ولكن العجيب أنني لم أستطع معرفة مَن أنا؟ وألا اتذكر اسمي، او سبب وجودي في هذا المكان. وبعد قليل بدأت قشور الرطوبة على الجدران تتحرك كأشكال أسطورية باتجاهي، فانكمشت إلى الزاوية وأنا أرتجف.. أنا اللااسم،اللاجسد،اللامكان،اللازمن.

حكى محمد لي هذا المقطع البسيط من تجربة السجن بسبب الحديث عن رواية السجون السورية والعربية، وخاصة روايات عبد الرحمن منيف. ذات يوم استعار صديقي هذا رواية«شرق المتوسط» وكان قد مضى زمن على تجربة السجن، وعلى الصفحة الأخيرة كتب تعليقاً عن الرواية، أثار انتباه صاحب الكتاب، وكان صديقاً لعبد الرحمن منيف،

قرأه لمنيف، فأدهشه دقة الملاحظة، والانتباه إلى عدد من التفاصيل السجونية تفتقر اليها الرواية.

فقرر دعوة محمد من بين آخرين إلى عشاء، وأجلس منيف، صديقي هذا إلى جواره في حفاوة واضحة وحنوّ، وقرر أن يتولى تقديمه للجلساء بهذه الكلمات: «جمعت كل ما طالته يداي من الدراسات، والمقالات، والتعليقات، على رواياتي... وسوف اعترف أن هذه الصفحة، التي كتبها هذا الرجل،على الصفحة الأخيرة من «شرق المتوسط »، والتي أغفلتها أنا...هي الأهم « وفتح عبد الرحمن منيف الكتاب، وقرأها بصوته الحنون المتهدج.

ثم مسح دمعتين،فيما يغالب محمد صالح السرور والبكاء،حيث اختلطت الأسباب:

اختلاط الذاكرة بالواقع، والواقع بالكتابة...والشخص بالشخصية. عبد الرحمن منيف كان يقول: «الكاتب الذي لا يكافئه القارئ كأنه لم يكتب».وكان مضمون إحدى نصائحه «تحدّث كالعامّة، وفكّر كما يفعل الحكماء».