المنوعات

المشـي والكـتـابـة في رحـلــة الأشــواط البعيـدة

20 يناير 2018
20 يناير 2018

الخطوات التي تحاور الممشى تزرع الحكايات وتجني الكلمات -

استطلاع: بشاير السليمية -

هل ثمة علاقة بين المشــــــي والكتابة؟! وهل المشي في الشوارع مطلب مهم لتوقّد الأفكار والأسئلة، كما تفعل القهوة عند بعض الكتّاب؟ هل يمكن أن يكون الماشون من حولهم، شخصيات لقصص وروايات؟! لأبياتٍ وقصائد؟!

يقول جبرا إبراهيم جبرا في كتابه «شارع الأميرات»: «في يوم مضى كنت أتساءل، كلما فرغت من تهيئة كتاب جديد: كم فنجانا من القهوة شربت على هذا الكتاب؟ وكم غليونا دخنت، وكم أسطوانة وشريطا من الموسيقى سمعت؟ وفي السنوات الأخيرة أدركت أن عليّ أن أتساءل: وكم كيلومترا في كم طلعة وطلعة مشيت في شارع الأميرات لأكتب ما كتبت؟»

هنا نحاول أن نستطلع آراء بعض الكتاب العمانيين والعرب، حول علاقتهم بالمشي وعلاقة المشي بتحريك دوافع الكتابة. سنقرأ أفكارهم وندور معهم في فلك ذكرياتهم ونصوصهم، التي ترددت مع خطى الممشى.

«في الممشى كانت الأفكار تأتي صافية وطازجة، نعم. ليس المشي رياضة للجسد فقط، بل إن الإنسان عندما يتخلص من الثقالات التي تجذبه إلى الأسفل، يجد في داخله القدرة على الرؤية بوضوح تام. هل أحتاج إلى شيء آخر في الممشى؟ نعم. أحتاج إلى دفتر صغير وقلم، وقلب قادر على اقتناص فراشات الضوء التي تفر عن شمالي، وعن يميني. أنا مدين للمماشي بالكثير، وفي كل مرة أفارق الممشى، وأنا أشعر بأنني إنسان مختلف عن الذي جاءه قبل ساعة أو ساعتين أو أكثر.»

عوض اللويهي/‏‏ عن برنامج بوح

• الشارع كمتطلب شعري

في البدء يحدثنا الشاعر العراقي قاسم سعودي عن علاقته بالمشي والمدينة والناس والزحام: «أنا أمشي لمسافات طويلة ومعي تمشي المدينة كلها، طقس هائل من الانعتاق والتنبؤات السحرية الحالمة، التي سرعان ما تصطدم بمركبة تحمل على ظهرها جنازة شهيد، أو فتاة تعبر بسرعة إلى صديقها في شوارع بغداد، أو رجل يشعر بأنه ضائع في زحام الكوكب قرب طفل يحمل حقيبته المدرسية ويفكر لماذا تبدو الشوارع جميلة بهذا الشكل. كل هؤلاء هم كائنات الشاعر وأبطال قصائده وعيونه التي تحرس وظيفة الشعر الجمالية في الدفاع عن إنسانية الإنسان، كل هؤلاء هم نحن بصيغ مختلفة تتوزع على الكوكب، ونفكر بأن لا يكون قاسيا مثل كل مرة. التطواف في الشارع ينقذنا من القسوة، ينقذنا من المتاهة ومن الألم، الكتابة فعل حياة وكذلك هي الشوارع الخلفية والأزقة وأطراف الحدائق والزحام كلها متطلبات نصوص الشاعر الذي يرى بثلاث عيون وربما أكثر.»

• موراكامي نموذجا

الكاتبة ليلى البلوشية اختارت الحديث عما يثيرها في نمط حياة الروائي الياباني موراكامي الذي يخصص للجري ساعة في كل يوم: «منذ أعوام وأنا أتتبّع بشغف سيرة حياة الكاتب الياباني « هاروكي موراكامي» ليس لأنه الكاتب الأعلى مبيعاً في العالم، ولا لأنه يحظى بشعبية واسعة ويترقب القراء كتبه في طوابير طويلة أمام المكتبات في لحظة صدورها، لكن الغاية لهذا الاهتمام هو أسلوب حياته. هذا الكاتب الذي عزم في صدفة ما أن يكون كاتباً بعد أن حقق استقراره المادي عبر افتتاح حانة دارها بنفسه قبل ولوج عالم الكتابة، وحين تفرغ للكتابة كليًّا صارت زوجته هي من تدير حاناته. موراكامي اختار نمط حياة مختلفة تماما عن غيره من الكتاب الذي اعتدنا على أنماطهم الكتابية التي لا تخلو من السهر وإدمان المشروبات وتناول وجبات غير صحية والتدخين، نمط حياة فوضوية يعيشها معظم الكتّاب في العالم ورسموا صورة نمطية معتادة لمسمى « كاتب!»

وتضيف: «لكن موراكامي اختار نمطاً مخالفاً لنفسه، اختار أن يكون كاتباً وكائناً صحيًّا في آن. لقد أدرك أن الجلوس للكتابة لساعات يعني هدر الصحة الشخصية، يعني مزيداً من الترهل في الجلد، وتراكمات من الشحوم في الكرش وتعب في العضلات؛ لذا اختار أن يخصص ساعة يوميًّا لممارسة رياضته المفضلة « الجري» في وقت مبكر حيث جميع الناس نيام، في الساعة الرابعة فجراً تحديداً ينطلق نحو ما يغذّيه جسديا وفكرياً، وفي السادسة يجلس منتعشاً ليكتب ما سبق واستدعاه عقله أثناء الجري؛ لقد اعترف أكثر من مرة أنه مدين للجري بالأفكار الخلاّقة في كتبه .لا أنكر أن نمط حياة الروائي الياباني «هاروكي موراكامي» يثيرني شخصيًّا، وصرت مثله أعتني بصحتي وطعامي وأخصص ساعة أو ساعتين يوميًّا لرياضتي المفضلة « المشي»، أترك حينها خيالي طليقاً وبخفة أمضي في ممشاي اليومي مستغرقة في اصطياد أحلامي المنفلتة.»

• المشي على إيقاع الحياة

وإلى شقين مختلفين سار بنا الكاتب السعودي محمد المزيني، هما المشي على إيقاع الحياة الحقيقية، والمشي على اللوح الممغنط حيث قال: «كانت فرصة سانحة وجدتها، لأن أكتب نصوصي على إيقاع المشي بواسطة هذا الساحر الصغير (الموبايل)، وهناك في الطريق الذي يعج بالأقدام بالأعين بالأنفاس بالأصوات ألتئم على مادتي النصية، أو مادتي الإبداعية سواءً كانت فكرة مقالة أم نصا أدبيا من رواية أو قصة. بل إن هذه الحياة التي لم تعد ساكنة في طبيعتها، الحياة التي خرجت إلى الطريق العام وأنا أمتد بخطواتي إلى عمق المسافات التي تقودني إلى رحابة الضجيج، إلى الأصوات إلى الأنفاس إلى الأعين، وربما استلهمت منها شيئا يعيد فكرة الكتابة وصياغتها بما يتواءم مع الحياة. إذاً أصبحت الكتابة على إيقاع الأقدام هي الكتابة على إيقاع الحياة الحقيقية، التي لم تعد حبيسة الغرف المظلمة التي تقتص منها إضاءة محنية على أوراق باردة جافة هي الوسيلة الوحيدة لصياغة الإبداع، لم تعد رشفات القهوة وحدها الذخيرة الوحيدة المحرضة لخروج نص إبداعي لم يعد ذلك الغليون لم تعد تلك السيجارة لم يعد ذلك البحر. من جرب فكرة الكتابة على إيقاع الأقدام، ومن جرب أن يتلاعب بأصابعه بين الأحرف الصغيرة على الموبايل سيجد أنه يغوص في عالمه الحقيقي.

وواصل قوله: « كنت لا أدري كم المسافات التي أقطعها بالميل أو الميلين أو الثلاثة، حتى الألم الذي يرافقني قبلها ويرافق أقدامي أو يتشبث بأوصالي من المشي يتلاشى مع كل هذا الضجيج الذي أبتلعه في نصوصي التي أكتبها على قارعة الطريق، وهذا سر تكوينٍ حقيقي لمعنى الإبداع الذي نمتحنه من على قارعة الطريق. كان نجيب محفوظ في ذلك الوقت قبل أن يعرف ما يسمى بالكمبيوتر أو باللوائح الممغنطة، يجلس على الطريق من داخل قهوة الفيشاوي ويكتب ممسكا بأوراقه يكتب الحياة الماثلة بين عينيه، وهو الذي أخرج لنا وملأ مكتباتنا العربية والعالمية بروائع أعماله الروائية والقصصية.»

وأضاف: «الغواية الأولى القديمة التي كانت تقول إن النصوص لا تكتب إلا في حالة سكون وفي حالة هدوء أصبحت من أدبيات أو أوهام الماضي، لأن الحياة التي تعج بالتقلبات السريعة لا يليق بها إلا نصوص حقيقة متأملة، وواعية ومدركة لما يحدث. لا أستطيع أن أجتر العالم في زاوية من غرفتي المعتمة وأكتبها على إضاءة محنية، وعلى أوراق باردة هنا تبدو الحياة المتشظية داخل هذا اللوح الممغنط هي المادة الأولية لنصوصي أنا على الأقل. كتبت المادة الأولى لبعض رواياتي على هذا الجهاز الصغير (الموبايل)، وبعد مراحل تبدأ عملية الورشة الاحترافية التي تصوغ النص بشكله النهائي. إذن ليس أجمل من الكتابة على إيقاع خطوات الأقدام الممغنطة التي تتوتر بها أصابعنا على الأحرف الصغيرة على جهاز الموبايل.»

• المشي صانع الشخوص

وبطريقة حالمة وصفت الكاتبة هدى حمد علاقتها بالمشي الذي اتسم بالعزلة تارة وبالدخول في عوالم الناس تارة أخرى: «بالقرب من شاطئ القرم، أو في حديقة العامرات الطولية، حيث يتسنى المشي في عزلة نادرة – جرّاء مشاغل حياتية هائلة تتخطفنا من حين لآخر – فإنّه يمكن لأحدنا آنذاك وحسب، أن يدّعي أنّه في عُزلة، رغم أنّها عزلة مُتوهمة غالبا، فالناس من حولي تُمارس ذهابها وإيابها المتواصل، كما تُواصل أنفاسها إصدار ذلك الصوت، والذي قد لا ينتبه له غيري، والغريب أنّي في اللحظة التي أتماهى فيها مع نفسي، أجدني وبشكل مُتناقض أدخل في أدق تفاصيل الناس.. إيماءاتهم المتواصلة، همسهم أو طريقتهم في المشي والكلام، فهنالك من هو وحيد أو شارد البال وهنالك من هو جاد أكثر مما ينبغي. إنّ مجرد التفكير في حيواتهم آنذاك، يبعثُ بشكلٍ لا واعٍ شخصيات مُخدّرة في رأسي، حارّة وساخنة من فرن اللاوعي، ما تلبثُ أن تجد حيزها في الفراغ المُتاح لها. فمهما بالغتُ في الحيطة والحذر لتأجيل التفكير بها، إلا أنّها تخرجُ كتيارٍ كهربائي خفي لتسري في أوصال حكايات نائمة. فما أن تبدأ رِجلاي الخطو خارج بيتي أو داخل سيارتي، حتى يبدأ التورط بجملة صغيرة أعلمُ جيدا أنّها ستطنُ في رأسي طويلا، ثم ستتبعها جملة أخرى، ثم جملة من الأصوات العابثة، وكأنّي أرتديتُ للتو قبعة أليس في بلاد العجائب، أو تحولتُ في لحظة ما إلى سيدة صغيرة كالسيدة «ملعقة»، وبدأتُ انظر للعالم من حولي وهو يتفاقم في تضخمه. ومن الأكيد سيلزمني الكثير من الجهد لإيقاف سيلان أفكاري المتدفقة من شلال خفي في الروح.»

وختمت بقولها: « في تلك المسافة بيني وبين البيت، أشد خيط الحكاية، أو أنعشُ شخصيةً أتعجبُ حول امكانية اختمارها الطويل بين ملفات الذاكرة. يا إلهي.. كم من الأشياء تحدثُ في المشي البطيء والذاهب للتأمل.»

• المشي في الأمكنة المختلفة

أما الشاعر محمود حمد الذي يعيش في قرية جبلية بسفوح ووديان وشعاب بولاية سمائل، وصف المشي قائلا: «لا أعرف ما المعنى الذي يوليه المشي للكتابة، وإن كنت سأنصف المعنى من جهتي فهي لا تغادر تلك المشية الطويلة التي أنبتت في داخلي ذكريات أكثر اتساعا من المكان المادي إلى ما هو أكثر عمقا في حياتي، أستطيع أن أقول أن ديواني « بعض الماء يحفظ آخر أغنية»، و «من أغاني الصيَاد» هما نتاج الكثير من زمن المشي الذي عشته قبل أن تثقلني قسوة القدر عنه لاحقا، فما أسسه المشي بين جبال أودية قريتي وشعابها، وعلى قممها وسفوحها من تضمين لجمال الحياة وتشكلاتها عميق في بناء تجربة احتاجت إلى الكثير منه للوصول إلى الإحساس بمعنى المشي المكمل للذات التائهة بهذا الجمال في ذاتها اصطداما بالوجود، اصطداما ضروريّا لولادة فنية الكتابة.

ويضيف: «معنى أصيل يزرعه المشي في الأمكنة المختلفة مدنا وقرى وفجاجا، يحمل كل شارع في دواخلنا اصطداما بقسوة الجمال في صخب الاسمنت، ويحمل كل واد من أودية القرية اصطداما بقسوة الرغبة في فهم الماء والشمس، وليس هناك ما هو أكثر وفاء لهذه الذات من حرف ينصت لانكشافها الخفي، حين تفيض ألما جميلا يشكل تجربة يطل من خلالها عاشقوها إلى عوالم المشي في جوانب المسافات.»

• المدن، وأيها تعطينا حق المشي على شوارعها؟!

يضعنا الشاعر عبدالله العريمي بين نوعين من المدن، فكما نمشي في مدينة ما، قد لا تسمح لنا أخرى بذلك: «يقول نيتشه: كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي. صحيح أن مستوى الجزئيات في الدماغ التي تحفز الروابط العصبية بين الخلايا وانتقال الرسائل يرتفع أثناء المشي، هذا على المستوى العلمي، أما على المستوى الشعري فلا أتصور إمكانية الكتابة في المدن التي لا تُعطينا حق المشي على شوارعها وبين حواريها وعبر أزقتها، لأنها تجردنا من شهوة الكتابة، فلا تعطينا حق التعرف على التفاصيل الصغيرة التي تفوح بها زوايا المكان وأركانه، ولا تعطينا حق تأثيث الذاكرة بمشاهد حية في الوقت الذي نكون فيه ملتصقين بطين الأرض متفاعلين معه، وكل نص أدبي يكتب خارج دائرة الالتصاق الكلي بالمكان هو نص سياحي لا أكثر؛ لأنه نص اكتفى بالخيالي، أما تنظيم الرؤية والرؤيا في الكتابة والأفكار يبدأ بالواقعي الممكن الذي يقود إلى الخيالي المستحيل.»

ثم تساءل: «هل للحركة الدموية فعلها المنعكس على الكتابة إذن؟! ربما هو ذاك، بَيدَ الذي أعرفه هو أن اكتشاف محيط الحركة اللغوية، ومساراتها يبدأ حين يبدأ النشاط الجسدي بتنظيم إيقاعه وتتسع فضاءات التخييل والتذكر حين تتسق دقات القلب مع خطواتنا، فتبدأ حينها الكلمات بالتساقط كأوراق الورد من سماء الواقع كي تشكل صورتها النهائية على سطح الورقة البيضاء، هكذ أفهم المشّاء/‏‏الكلمات، وهكذا يبدأ القلب بضخ الدم بشكل أسرع أثناء المشي، وتبدأ الصور بضخ الموسيقى والمعاني بشكل أسرع، وكل مكان لا يمنحني القدرة على المشي فيه يقف على حياء إزاء الكتابة والشعر، أي انه مكان خارج الحياة.»

مع آخر نقطة في هذه السطور، تركتهم يكملون شوطهم، وعدت إلى مكتبي بحصيلة مشيهم الذي أشعل فيّ رغبة للمشي من جديد، كما أجزم أنه أشعلها فيكم أنتم أيضا.