أفكار وآراء

النظام السياسي الأمريكي .. وممارسات جديدة تؤثر فيه !!

20 يناير 2018
20 يناير 2018

د. عبدالعاطى محمد -

للنظام السياسي الأمريكي آلياته المستقرة لتحقيق التوازن بين السلطات، ولكن يبدو أن هذا التوازن أصبح مفقودا منذ وصول الرئيس ترامب إلى السلطة، في ضوء المعارك السياسية المتبادلة بينه وبين الكونجرس والقضاء، والقطيعة مع الإعلام. ولم يكن فيما جرى وسيجري لاحقا شيئا مفاجئا، ليس فقط لأن الرئيس ترامب بدا من اللحظة الأولى قيادة سياسية مثيرة للجدل، وإنما لأن ترشحه وفوزه كان إعلانا بتجاوز المؤسسات والتخلي عن الآليات المستقرة لإدارة البيت الأبيض وعلاقاته مع المؤسسات الأخرى.

لقد اعتاد الأمريكيون وغيرهم من شعوب العالم على الإثارة والسخونة في السياسة الأمريكية داخلية كانت أم خارجية. وربما لم تمر انتخابات رئاسية أمريكية واحدة دون جدل وتنافس حاد واهتمام كبير، بل دون تجريح وضغائن أيضا. ولكن قليلة إن لم تكن نادرة الحالات التي شهدت خروجا عن احترام التقاليد الديمقراطية مثلما حدث في سباق الرئاسة الأخيرة. وكثيرا ما كانت المعارك من هذا النوع تنتهي بوصول الرئيس الجديد إلى السلطة، ليبدأ التركيز من الجميع على القضايا الحيوية وكيفية التعاون بين السلطات، ولا يشغل الإعلام نفسه بشخص من في البيت الأبيض ولا بكيفية عمل الإدارة، فقط يتجه اهتمام الإعلام إلى كل ما هو جاد مما يتصل بالسياسات وردود الفعل تجاهها.

ما حدث هذه المرة كان شيئا جديدا تماما على التقاليد الأمريكية، حيث امتدت المعارك طوال العام الأول لإدارة ترامب وليس من الواضح أنها ستتوقف، فما من قرار يريد ترامب اتخاذه إلا ويلقى معارضة أو مصاعب في توفير الأغلبية المطلوبة في الكونجرس، وما من تغريدة يكتبها الرجل أو تصريح يصدر عنه إلا ووجد تهكما من الإعلام المقروء والمرئي (قليلون من يناصرونه)، وبالمقابل لا يتردد ترامب في مفاجئة الجميع بمواقف ورؤى تجمع بين السخرية من الآخرين والتحدي وكأنه يهوى إضافة أعداء جدد له كل يوم. شخصية وطريقة إدارة وقيادة بدت جديدة على الرأي العام الأمريكي إلى حد اعتبارها غريبة عليه من جانب البعض على الأقل.

من الطبيعي أن تدفع هذه الظاهرة داخل الوسط الأمريكي صحفيا بارزا أو مذيعا أو محللا سياسيا لاقتفاء أثر رئيس مثل ترامب بحثا عن إجابة شغلت قطاعا واسعا من الرأي العام لسؤال حول الطريقة التي يدار بها البيت الأبيض تحت قيادة شخصية من هذا النوع لا تتردد في إثارة المشاكل مع من حوله قبل أن تكون مع البعيدين عنه. هكذا كانت رغبة الصحفي مايكل وولف بجريدة نيويورك تايمز الشهيرة من وراء كتابه الذي استعار عنوانه من كلمات لترامب نفسه استخدمها للتعبير عن موقفه من رئيس كوريا الشمالية، فكان كتاب «نار وغضب في البيت الأبيض» الذي أصبح أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة خلال ساعات!

الكتاب عنوان يعبر بصدق عن المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة داخليا في ظل الانقسام على خلفية الانتخابات العامة 2016، وانقطاع صور التعاون بين السلطات، والعداء الصريح بين ترامب والإعلام. فما امتلأت به صفحات الكتاب من تعبيرات لا يتعين إعادة تكرارها على القارئ احتراما للأخلاقيات والمبادئ هي قليل من كثير مما شهدته الانتخابات الأخيرة، وقد تابع العالم على الهواء وصلات القدح والذم المتبادلة بين المتنافسين، على غير المعتاد في الحقيقة بالنسبة لتقاليد السياسة الداخلية الأمريكية. وبالمقابل رد ترامب وفريقه بكلمات أشد قسوة ضد مؤلف الكتاب وقالوا إن ما ورد فيه كذب وزيف. وهي الأجواء نفسها التي كانت سائدة خلال الانتخابات الرئاسية، والجديد أنها باتت أشد قسوة تجسيدا للانقسام الحاصل منذ عام مضى.

بعيدا عن طبيعة الكتاب التهكمية والمسيئة بالطبع لترامب وإدارته، وعن حقيقة الروايات التي نقلها المؤلف عن نحو مائة موظف التقاهم بشكل أو بآخر من موظفي البيت الأبيض، استطاع الكتاب أن يحظى بالانتشار السريع والضخم لعاملين رئيسيين, الأول هو شخصية ترامب نفسه وعائلته والمقربين منه ممن استعان بهم وهم جميعا وتحديدا ترامب والعائلة يندرجون تحت تعبير المشاهير من الأغنياء. وسمة كهذه كفيلة بإثارة فضول الأمريكيين المولعين أساسا بالمشاهير وتتبع حياتهم ولنقل أسرارهم. والكتاب يثير شهية الأمريكيين من هذه الزاوية تحديدا. فالمؤكد أنهم تابعوا جيدا سيرة حياة ترامب وكل أسرته، وكلهم يمثلون الحلم الأمريكي في أحسن صوره، حيث الجمع بين كل عوامل التميز والتفوق البشريين أو على الأقل معظمها. هكذا حلم الأمريكيون منذ القدم ولا يزالون على أمل تحقيق هذا الحلم. ولن يهتموا كثيرا بأخلاقيات العمل أو المنهجية التي اتبعها المؤلف حتى لو كانت تمثل نوعا مما يمكن تسميته بالتلصص على حياة الرجل وعائلته ومما يكون نوعا من تصفية الحسابات من جانب من خسروا مواقعهم سريعا مع تشكيل إدارة ترامب الذي استغرق وقتا طويلا قياسا بحالات من سبقوه إلى البيت الأبيض. لنا أن نتذكر كيف اهتم الأمريكيون بحياة الرئيس بيل كلينتون الشخصية والمشكلات الأخلاقية التي لحقت به في رئاسته لبلاده، وكذلك بالمسبة لهيلاري أيضا، وفي الماضي البعيد حالة جون كيندي. الأمريكيون مولعون بالمشاهير إلى حد الجنون، وتعد حالة ترامب صيدا ثمينا لمن يحسن استثمارها سياسيا وإعلاميا وتجاريا، وهذا ما حدث فعلا. وأما العامل الثاني فهو يتعلق بالانقلاب على مؤسسات السلطة في واشنطن دي. سي الذي دعا إليه ترامب وفريق دعايته خلال الانتخابات، وعندما تحقق له الفوز نفذ فعلا نفس التصور تقريبا، وهو عدم احترام مؤسسات السلطة بدعوى أنها مصدر للفشل ولا تعمل لصالح الناس، وإنما لصالح أفرادها. صحيح أنه لم يلغى هذه المؤسسات، فهذا ما لم يكن ممكنا تصوره من جانبه، ولكنه لم يعمل بقواعدها. واحتاج لوقت طويل لاختيار كبار وزرائه ومساعديه، وقام بتغيير بعضهم سريعا، واتجه إلى إقامة علاقة مباشرة بينه وبين أنصاره من الشعب الأمريكي، مستخدما تغريداته كل صباح (أصبحت جزءا من جدول أعماله اليومي كما قال مؤلف الكتاب). الشخص الرئيس الذي اعتمد عليه مؤلف الكتاب للولوج إلى داخل البيت الأبيض والتحدث مع المصادر هو «ستيف بانون « الذي عمل مستشارا لترامب واختلف معه واستقال أو أقيل. خطوة كهذه لم تكن تتم وفقا للتقاليد السابقة في عمل مؤسسة بهذه الأهمية كالبيت الأبيض. ولم يكن معهودا في التقاليد الأمريكية من قبل أن تنخرط أسرة الرئيس في إدارة عمل البيت الأبيض ولكنه حدث. وقد اتهم «بانون» في الكتاب «دونالد جونيور» إبن الرئيس بالخيانة لأنه التقى محامي روسي (التدخل الروسي في الانتخابات) . صحيح أنه اعتذر له وانتهى الأمر، ولكن الكلام مؤشر على غياب التقاليد في إدارة البيت الأبيض. وتطرق الكتاب لاتهامات أخرى تتعلق بجاريد كوشنير صهر ترامب. ومسألة الاعتماد على التغريدات هي في حد ذاتها جديدة بالنسبة لتقاليد العمل، أي تعبير عن التوجه الأساس المتعلق بتجاوز المؤسسات، والاستناد إلى الشعبوية لضمان التأييد والاستمرار في السلطة.

ومع كل التأكيد على أهمية ما ورد في الكتاب عن تأثير العوامل الشخصية المتعلقة بترامب وعائلته على توجيه وإدارة السياسة الأمريكية، إلا أن ما تعلق بطريقة الإدارة أو بالأحرى بمدى احترام ترامب للمؤسسات والالتزام بقواعدها هو الأكثر أهمية بالنسبة للمعنيين بالعلاقات مع الولايات المتحدة، والخطورة هنا تكمن في أن البيت الأبيض لا يحظى بمساندة قوية كانت أم ضعيفة من جانب المؤسسات سواء كانت سكرتاريات الحكومة (الوزارات)، أو جناحي الكونجرس، أو القضاء، أو الإعلام. هذا الانقسام وتلك القطيعة تسمح بالخروج من جانب الجميع عن التقاليد المتعارف عليها، فلا يصبح غريبا أن يظهر في الساحة الأمريكية أكثر من «نار وغضب»، فذلك هو حال المرحلة وعنوانها. ولا شك أنها سمة تشكل مشكلة لكل المتعاملين مع إدارة وقيادة مثل ترامب، حيث تزول الحواجز والحدود بين ما يعد سرا وما لا يعد كذلك، وبين الدوافع الحقيقية وراء القرارات المهمة وغير ذلك مما يذاع على الملأ، كما تصبح الضمانات شيئا مهما للغاية درءا للمفاجآت، وما أكثرها طالما الوضع العام على هذا النحو.

لقد شد الكتاب اهتمام الأمريكيين لأنهم مولعون بتتبع موضوع الكتاب (الحياة الشخصية لكبار المشاهير والأغنياء)، وبالمقابل اهتم ترامب وفريقه بأن يردوا بقوة حفاظا على الشعبية التي بدأت تتراجع، ولكن في النهاية خرجت أحشاء المطبخ السياسي الأمريكي إلى المجال العام. هكذا جاء الكتاب ليس فقط مجرد محاولة اغتيال سياسي لشخص ترامب فقط، وإنما للنظام السياسي الأمريكي أيضا.