أفكار وآراء

الأوروبيون على مفترق طرق ..!!

19 يناير 2018
19 يناير 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ضمن التطورات الجيوسياسية التي يشهدها عالمنا في الفترات الأخيرة ذلك المتصل بالعلاقات بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وهو تطور يدفع الأحداث في طريقه دفعاً، لا سيما الأحداث السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.

فعلى الرغم من سبعة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من العلاقات الأمريكية- الأوروبية الوثيقة، إلا أن رؤية الرئيس «دونالد ترامب» لشكل تلك العلاقة الآن، لم تعد تتجاوز رؤية «رجل أعمال» يريد تحقيق أعلى منافع اقتصادية لبلاده، دون أدنى اهتمام بالنظر إلى الأبعاد السياسية الأخرى، ممثلة في حلف الناتو، ذاك الذي عاش طويلاً من أجل مواجهة العدو الأول المتمثل في حلف وارسو السابق، ولكن أين هذا الحلف اليوم؟ وعليه ما هي فائدة الناتو؟ أسئلة كثيرة وعريضة باتت تشغل الأوروبيين اليوم، ورغم الاضطرابات التي تلف الاتحاد الأوروبي، ومحاولة بريطانيا الخروج، إلا ان هناك من لا يزال يتحدث عن حلم كبير اسمه «الولايات المتحدة الأوروبية»، فهل تضحى بدايات 2018 بدايات الطريق في تحقيق هذا الحلم؟

في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم كان زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني «مارتن شولتز» يتحدث عن فكرة إنشاء الولايات المتحدة الأوروبية، وربما كانت في خلفية الرجل السياسية فكرة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الغوص أعمق في تاريخ أوروبا يقودنا إلى محاولة عودة الإمبراطورية الرومانية مرة جديدة، وهو حلم داعب نابليون بونابرت بالقدر نفسه الذي داعب مخيلة القيصر الألماني «فيلهلم الثاني»، وقال البعض إن أصل الفكرة يعود إلى الجماعات الماسونية الفاعلة وكذا النافذة على صعيد دول أوروبا ـ ويحفل التاريخ بمحاولات عديدة لتنفيذ الحلم بالقوة، كما فعلت فرنسا قديماً، وألمانيا في زمن النازي.

يذهب الزعيم الألماني الحزبي «شولتز» إلى أن طرحه هذا لابد له من أن يسود أوروبا بأكملها بحلول عام 2025، وعنده كذلك أنه من الضروري وضع اتفاق مناسب بهدف الحصول على الموافقة من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فيما سيتعين على جميع البلدان التي لا توافق، الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويؤكد على أن هذا الطرح قد يصلح في تخويف «القوميين اليمينيين» الذين باتوا يعززون مناصبهم في الاتحاد الأوروبي اليوم.

على أن السؤال الجوهري: «هل الأوربيون على استعداد بالفعل لتقبل مثل هذه الفكرة أم أن هناك بدائل أخرى لها؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن من الدول الأوروبية مرشح للقيادة في هذه الفترة الزمنية المثيرة؟

الشاهد أن أصحاب هذا الطرح يقولون: إن «الولايات المتحدة الأوروبية» ستكون ممثلاً لمصالح كل المواطنين الأوروبيين، غير أن الواقع يقودنا إلى حالة من حالات الرفض الشعبوي للفكرة، فالألمان على سبيل المثال، وفي الأعوام الثلاثة الماضية رسخ لديهم فكر بأن حقهم في التصويت قد أهدر، وأن السلطات الحاكمة قد باتت تقرر قضايا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم بطريقة غير مسؤولة، ودللوا على صدقية حديثهم بدخول الملايين من اللاجئين إلى ألمانيا.

من الناحية الاجتماعية، تبدو أوروبا وبخلاف الولايات المتحدة الأمريكية غير متجانسة، ومن الناحية الاقتصادية لا تبدو تراتبيتها متساوقة، فهي على حالها هذا تبدو متآلفة من مزيج من البلدان المختلفة من حيث التطور، والعقلية، والقوة الاقتصادية، وبعض دول الاتحاد بحالته الحالية متحرر تماماً مثل ألمانيا، وبعضها أكثر تحفظاً مثل بولندا، وبسبب هذا بدأ تراجع توحيد اليورو كعملة، فالعديد من الدول تريد تقرير مصيرها بنفسها.

على الأساس المتقدم... يمكننا الجزم بأن القطار الأوروبي يواجه عقبات كثيرة في انطلاقه، سيما أن هناك مخاوف عديدة لدى الأوروبيين من الصحوة الألمانية، ذلك أن كثيرين يحسبونها صحوة تصحبها انطلاقة نحو الهيمنة مرة جديدة على مقدرات الأوروبيين، وتعيد التذكير بأوروبا في النصف الأول من القرن المنصرم، وهو أمر غير مقبول أو معقول بعد مسيرة التحرر من قبضة القوى الأوروبية التقليدية المهيمنة تاريخياً.

في هذا السياق وبعد الانسحاب البريطاني- «البريكست»- من الاتحاد الأوروبي، نكاد نلمح سباقا أوروبيا بين ألمانيا وفرنسا، وبين أنجيلا ميركل وإيمانويل ماكرون، على قيادة أوروبا، وبات السؤال من يستطيع أن يدير الدفة الأوروبية بمهارة أكبر في عالم غير واضح المعالم، ولا يقدر أحد أن يتنبأ باتجاهات الرياح فيه؟

بالنسبة لانجيلا ميركل، نحن نتحدث عن امرأة عميقة الخبرة، استطاعت أن تجعل من ألمانيا ولا شك حجر الزاوية في أوربا بشكلها الحالي، غير أن العقبات السياسية الأخيرة التي تواجهها، وبخاصة صعود التيار اليميني في بلادها، متمثلاً في حزب «البديل من أجل ألمانيا» والذي حاز في الانتخابات الأخيرة على 92 مقعدا من مقاعد البرلمان الألماني «البوندستاج»، اختصم كثيراً من أصولها السياسية التاريخية، ومن نفوذها الشخصي.

هنا يبقى السؤال الذي طرحته شبكة «دويتشه فيلله» الألمانية مهم في إطار البحث عن مستقبل أوروبا، والسؤال هل يتولى ماكرون قيادة أوربا بدلاً من ميركل؟

يبدو أن تحركات وتصرفات ماكرون السياسية في الفترة الأخيرة قد دعت الألمان للخوف من فرنسا وماكرون شخصياً على مكانة ألمانيا وسط الاتحاد الأوروبي المضطرب.

يظهر الآن الشاب ماكرون بحسب «دويتشه فيلله» كنجم جديد في الأفق السياسي إذ يتمتع بكاربزما المنتصر اللامع في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ضد مرشحة اليمين المتطرف «مارين لوبان».

ماكرون أيضاً نجح في أداء تحفة فنية تمثلت في إصلاح سوق العمل ضد مقاومة قوية، وتدعمه بيانات نمو جيدة، وبيانات استطلاعات الرأي المتدنية التي بدأت ترتفع مجدداً، وفى عيد ميلاده الأربعين الذي وافق الأول من ديسمبر الماضي قالت غالبية من الفرنسيين «أنه رئيس جيد».

هل أعاد ماكرون فرنسا إلى الخارطة الدولية وبعد أداء ضعيف للغاية من سلفه «فرانسوا هولاند»؟

يبدو أن ماكرون أعاد العالم إلى فرنسا، قبل أن يقدر له تصدير النموذج الفرنسي للعالم، وخير دليل على موضوعية هذا الحديث هو أن الرجل جعل بلاده ومن جديد محل زيارة من رؤساء العالم، فعلى قمة برج إيفل كان يحتفي بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عشاء تاريخي من خلاله يمكن لرئيس قادم من بلاد لا تاريخ سياسي لها أن يرى نابليون ماراً من تحت قوس النصر، وغير بعيد عنه مقبرة عظماء فرنسا في «البانتيون»، أو يلاحظ منائر «النوتردام» أو قباب «الساكركير»، ولاحقاً كان يستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فيرساى، وكأن أعين لويس الثالث عشر ترقبه من جديد.

نجاحات ماكرون لم تتوقف فقد أجاد الرئيس الأربعيني، في تنظيم مؤتمر المناخ الدولي في باريس، عطفا على مبادرات عديدة بشأن أفريقيا، ومنها ما يتصل بمحاربة الإرهاب بنوع خاص، وبات جلياً أنه يؤدي مجدداً بقوة الدور التقليدي للدبلوماسية الفرنسية التي تلتزم على مستوى العالم، وتنطلق من مبدأ أن كل القضايا في العالم تهم فرنسا التي يجب عليها المشاركة فيها كذلك، والتعبير هنا لـ «شتيفان زايدندوروف» نائب مدير المعهد الألماني الفرنسي في لودفيجسبورج.

هل تابع أحدنا أو جميعنا الرحلة الأخيرة لماكرون إلى الصين؟ يبدو أن رئيس فرنسا كان يستقرئ اتجاهات الأحداث بشكل غير مسبوق ويعلم أن الصين بنوع خاص ماضية في طريق القطبية العالمية المشاركة والمنازعة للانفرادية الأمريكية بدرجة واضحة، ومنطلق تعاطي ماكرون مع الصين، هو المقولة الشهيرة: «لا تحارب الحقائق بل تعامل معها»، والصين اليوم في طريقها مع روسيا لإحداث زلزال كبير في الأسواق المالية يتصل باعتبار الدولار العملة الغربية الوحيدة المهيمنة على مقدرات العالم منذ نظام «بريتون وودز» وحتى الساعة، وفي الأيام القليلة الماضية أصابت الصين الأسواق المالية الأمريكية بحالة كبيرة من الفزع، غداة إعلانها رفضها الاستثمار في المزيد من السندات الحكومية المالية الأمريكية وهذه قصة أخرى.

هل يعني ما تقدم أن الفرنسيين لا يضعون موسكو في عين الاعتبار وهم يعيدون التخطيط والتنظير لأوروبا الجديدة ؟

بداية نؤكد على أن العقوبات الأمريكية على روسيا، لم ترهق الروس فقط، بل أرهقت كذلك الأوروبيين، وجميعهم وفي المقدمة منهم الألمان رفضوا استمرارها باعتبارها تؤدي دوراً سيئاً للغاية وضاراً بشكل كبير على مستقبل الاقتصادات الأوروبية.

إلا أن الإشكالية الحقيقية اليوم بين موسكو وبروكسيل تتمثل في القيادة السياسية الأوروبية القادرة على بلورة رؤية تصالحية جديدة مع الروس، وبأقل درجة من درجات إغضاب الأمريكيين وبخاصة طالما بقي الرئيس ترامب في البيت الأبيض. هنا يرى البعض من ثقات النظر أوروبياً أن انجيلا ميركل في مأزق لأن عليها إدارة حكومة تكنوقراط لا تستطيع القيام بمبادرات جديدة قانونياً، وعليه فإن فارس أوروبا الجديد اليوم دون منازع هو إيمانويل ماكرون، القادر على أن يلعب دور تقريب العلاقات مع موسكو في عام بوتين القادم.

شيء ما يتخلق في الرحم الأوربي اليوم، شيء يبدو كأنه يفاضل بين الناتو من جهة والحلم الأوراسى من ناحية ثانية، بمعنى الوصل الجغرافي والسياسي والإنساني بين أوربا وآسيا، وبين الأوروبيين والآسيويين، ومؤخراً تحدث عقل بوتين النافذ الفيلسوف والسياسي الأشهر «الكسندر روجين» مشيراً إلى ان إمبراطورية أوراسية جديدة لديها فرصة في الظهور، سيما أنها تمتلك جسراً جيوبولتيكيا في الغرب هو أوروبا الوسطى، فأوروبا الوسطى تمثل تشكيلاً جيوبوليتيكياً طبيعياً موحداً من الناحية الاستراتيجية والثقافية، ومن الناحية السياسية إلى حد ما، أما من الناحية العرقية فتدخل في هذا المجال شعوب الإمبراطورية النمساوية السابقة بالإضافة إلى ألمانيا وجزء من الأراضي البولندية والأوكرانية الغربية.

«دوجين» يلفت النظر إلى التقارب الروسي الألماني الظاهر للعيان، وعنده أن القوة المركزية لأوروبا الوسطى هي تقليدياً، ألمانيا التي وحدت تحت سيطرتها هذا الخليط الجيوبولوتيكي. هل هي بدايات الجسر الأوراسي بشراكة ألمانية فرنسية من ناحية تمتد إلى روسيا والصين؟

قد يكون هذا هو الطرح الجديد للولايات الأوربية المتحدة، وهو طرح مقبول في ظل الارتباك العالمي الذي سببته نزعة أمريكا الانعزالية، وإدارتها ظهرها للعالم، ما يعني فعلا وقولا إن الأوروبيين على مفترق طرق ... فانظر ماذا ترى؟