المنوعات

مات الكندي والمعزون يحتشدون في سرادق الفراهيدي والأخفش وسيبويه

18 يناير 2018
18 يناير 2018

حمـود بن سـالم السـيابي -

مع كل فقد تتزاحم الأسئلة حول عنوان سرادق العزاء، إلا إمام العربية تبكيه كل الخيام من فارس إلى الأندلس، وتنتحب له كل النخيل من خراسان إلى إشبيلية.

ومع أفول كل نجم يتساءل الناس عن أبنائه إلا شيخ كندة وسيد الفصاحة العربية فإن الناس تتزاحم عند بيت الخليل بن أحمد في البصرة للمواساة، وتجهش بالبكاء مع سيبويه في شيراز، وتتسابق إلى هَجَرْ بالبحرين لكفكفة دموع الأخفش، وتؤدي واجب العزاء في الكوفة عند الإمام الكسائي.

وفي كل مصاب يكون أقارب المتوفى هم الذين ينزلونه في قبره إلا شيخ كندة يتسابق للهبوط معه في قبره أبو زكريا الفراء وابن جني ومجد الدين الفيروزأبادي.

وفي كل عزاء يلوذ الحضور بالصبر وتذكر مآثر الموتى إلا عزاء شيخ كندة فإنه يفتح أقواس الاشتباكات اللغوية بين الكوفة والبصرة، ويتجادل المعزون في مفردات معجم العين للفراهيدي ولسان العرب لابن منظور والألفية لابن مالك وملحة الصنهاجي وأجرومية الحريري البصري.

لقد نشأ العلامة الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي في نزوى ولم يكتحل بمرآها، ولكن طهر المكان تسلل إلى قلبه فرآى نزوى في نونية أبي مسلم بأنها «عرصات كلها قدس، وللحق فيهن أزهار وأفنان».

وتيمم الشيخ الكندي شطر طيبة الطيبة فعاش في عرصاتها سنين كطالب علم، ووقف طويلا أمام شباك الزيارة في حرم سيد البشر، ومع ذلك لم يرزق برؤية الكساء الأخضر الذي يلف القبر الشريف في حجرة الرضية عائشة، ولكنه رآه في تنفسه أريج المكان في الروضة الطاهرة والمنبر والمحراب.

وطاف بأحد وقباء وبقيع الغرقد فعاش الملامح وهو يشم الأديم ويتوضأ بسلسبيل وادي العقيق.

وكان على وشك أن يغامر بشراء بيت في الحاضرة الأموية دمشق ليعيد لمجمع اللغة العربية الوهج، ولبردى الصفاء، ولسيد حطين لابة الحرب، وليجاور محمد كرد علي وخليل مردم بك، إلا إنه استشعر بفراسة المؤمن أن القابضين على تلابيب الشام لا يتورعون عن هدم مآذن جوامع بني أمية ليموت بلال مرتين، ومن ردم بردى لتعطيش الياسمين، ومن نسف حمص حتى لا يسل سيد مخزوم سيفه، فاكتفى شيخ كندة بنخلة في غوطة نزوى تشرب من دارس وضوت والغنتق.

وإذا كانت قريش قد اعتادت أن ترسل أبناءها لمضارب بني سعد ليتنفسوا الهواء واللغة، فإن العلامة إبراهيم الكندي كان الامتداد لسلفه العلامة سعود الكندي حارس الضاد في دولة الرضي الخليلي، فكان مثله المؤتمن على فصاحة أهل عمان في عهد سيدها العظيم قابوس بن سعيد.

وكما كان الشيخ سعود الكندي مدرسة في عصره، كان العلامة إبراهيم الكندي ينقل عبر أثير إذاعة عمان كل أصيل مضارب قريش، ويحقق التوأمة بين بادية العرب ونزوى.

وكانت الأذن العمانية تحتشد للتنصت لصفاء جريان الأفلاج فتعشق الضاد والقريض.

واعتلى العلامة الكندي منبر الجمعة في المهلب بمدينة الإعلام فكانت خطبه دروسا في إحياء علوم الدين وبعثا للعربية وإبحارا في الخلال التي سنها الشعر.

وبرحيل العلامة الكندي فإن نزوى تضيف ضجيعا جديدا في مقبرة الأئمة، وتراكم رصيدها من الكبار الكبار الكبار.

ولعله سيرى نزوى لأول مرة بعد أن أغمض عينيه، فنزوى تحتاج للحواس الخمس مجتمعة ليتمكن الرائي من تحديد لون الشهباء وقمة رضوى وغدور نخيل كلبوه والوادي الأبيض، وشواهد قبور بقيع الغرقد النزوي.

مسقط في ١٨ يناير ٢٠١٨م