الملف السياسي

العاصفة تتصاعد: من الليكود إلى الكنيست

15 يناير 2018
15 يناير 2018

د. صلاح أبونار -

قبيل إعلان ترامب لقرارة تلقت إسرائيل خطابا أمريكيا رسميا، يرجوها توخي الاعتدال في ردود فعلها أعقاب إعلان القرار. وكان جوهر الرجاء عمليا لا يتعدى أمرين : أن تتحكم في التعبير عن نشوتها لحصولها على غنيمتها السياسية الكبرى، وأن تمارس قدرا من ضبط النفس في المواجهات القادمة في الأراضي المحتلة.

وما إن اتجهت فورة رفض القرار الأولي للتراجع والخمود، حتى شرع الجانبان الأمريكي والإسرائيلي في رصد الدلالات السياسية للموقف، وتحديد خطواتهما القادمة. وكانت الدلالات واضحة تماما:جاء رد الفعل القوي والمتسق في السياق الدولي المؤسسي، وبالتحديد داخل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية ومنظمة التعاون الإسلامي . ولكن مشكلة هذا الموقف المعروفة مسبقا انه كان يتحدث بلغة الحق دون امتلاك القدرة على فرضه، وكان أقصى ما تستطيعه تلك المؤسسات الدولية هو الإصرار على تحصين هذا الحق بالشرعية الدولية.

ولكن في العالم العربي جاء رد الفعل خافتا متناثرا محجما عن تصعيد . فالقوى السياسية القاعدية العربية بعد سنوات الصراعات والأزمات التي أعقبت 2011 ، لم يحل بها الإرهاق السياسي فقط، بل باتت أيضا مسكونة بخوف عميق من دعاوى الحشد والتعبئة، ومنقسمة على نفسها انقساما عميقا، ومنغمسة تماما في همومها الذاتية متباعدة عن الهموم العربية العامة. والكثير من الدول العربية، خاصة تلك التي ادعت لعقود مهمة قيادة الصراع العربي الإسرائيلي، أضحت تعاني وضعا شديد الـتأزم. في قطاع منها انهارت سلطات مركزية، وتفسخت جيوش قومية، وتفككت أقاليم، وانطلقت موجات هجرة واسعة. وقطاع آخر منها تورط في صراعات وأدوار إقليمية، بعضها مفتعل ووهمي والآخر يفوق قدراته، لكنها في كل الأحوال باهظة التكلفة سياسيا. وفي هذا السياق اهتزت تحالفاته القديمة والمستقرة، ومعها أنماط إدارته لسياساته الإقليمية، وفي اهتزازها انفسح المجال أمام مغامرات ورهانات خاسرة. ثم دخلت في مواجهة مع الاستحقاقات المؤجلة لتجدد النخب، مع صعود نخب جديدة أطلقت برامج تغيير متسرعة وصدامية تنذر بكوارث.

ولم يكن الداخل الفلسطيني في حالة أفضل. قيادات تاريخية تداعت صلاحياتها، ومؤسسات سياسية تبقرطت وفقدت القدرة على التعبئة ، ومجال سياسي عام مستقطب بين التيارين القومي والإسلام السياسي . وجماهير فلسطينية مرهقة، دفعت تكلفه باهظة لحركة تحرر وطني مجيدة على مدى نصف قرن من 1967، وراهنت على استراتيجية التفاوض من اجل حل الدولتين على مدى ربع قرن من مسيرة أوسلو من 1991، لكنها باءت بخيبة الأمل .لم تهجر حلمها لكنها أضحت شديدة التوجس من كافة الصيغ القديمة، ولم تنجز بعد صيغها الجديدة القادرة على خلق الإجماع.

ولم تكن تلك عناصر اكتشاف جديد . بل كانت حاضرة بصيغة ما في خلفية صنع القرار الأمريكي، ولم تفعل تداعيات ما بعد القرار سوى إعادة تأكيدها.

وتأسيسا على هذا التأكيد الجديد لمفردات القراءة القديمة، انطلقت مرحلة جديدة من الهجوم على القدس، تصاعدت عبر عدة خطوات أهمها ثلاث.

انطلقت الأولى من داخل الليكود الحزب الرئيسي داخل الائتلاف اليميني الحاكم. في آخر أيام 2017، اتخذت لجنته المركزية قرارا بالإجماع يحث أعضاء الحزب وقادته في السلطة والكنيست، على إلحاق أجزاء من الضفة الغربية بإسرائيل.تحدث القرار عن «أجزاء» وليس عن «كل» الضفة الغربية. ولكن ماذا تعني كلمه أجزاء هنا؟ يشير المعنى السياسي المباشر لكلمه « أجزاء» إلى مناطق الاستيطان الراهنة، أي مساحات محددة من الأرض . ولكن بما أن القرار طالب السلطة الإسرائيلية بإطلاق حرية الحركة الاستيطانية، وبما أن المشروع الاستيطاني يمتلك شرعية التوسع المطرد من واقع فكرة الحق التاريخي في الضفة الغربية، سيفقد التحديد السياسي المباشر معناه العملي.

ولكن بما أن القرار لا ينطوي علي أي إلزام للسلطة التنفيذية ما هي خطورته؟ تكمن الخطورة في معنى كلمة «إلحاق». يعني الإلحاق فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإعلان إسرائيلي صريح وعملي برفض وضعها القانوني الراهن بوصفها « أرضا محتلة» وفقا للقانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة، والذي لم تجرؤ إسرائيل حتى الآن رغم كل دعاوى الحق التاريخي على تحديه. هنا سنواجه مفارقة. فالسيادة لا تعني فقط إخراج سيطرتها من نطاق الاحتلال إلى نطاق الشرعية، بل تعني أيضا إلحاق المستوطنات بالنظام القانوني الإسرائيلي. وهذا الإلحاق القانوني مستحيل عمليا، لأنه يجب أن يطبق على نطاق جغرافي محدد، ويجب أن يجري وفقا للنظام القانوني الإسرائيلي. والمشكلة أن النطاق الجغرافي للمستوطنات يحتوي تداخلا بشريا عميقا بين المستوطنين والفلسطينيين، وان لا النظام القانوني الإسرائيلي ولا مؤسساته يسمحان بازدواجية المعاملة القانونية. وهذا يترتب عليه نتيجة واضحة هي أن السيادة أن توقفت عند حدود السيطرة، لن تكون سوى أداة للتحدي المتصاعد والسافر لكل الأطر الدولية القانونية والسياسية الحاكمة لوضع الأراضي المحتلة، في اتجاه التهجير الإكراهي للفلسطينيين و مصادرة أراضيهم. وإن قررت الخروج من حدود السيطرة والانتقال إلى الدمج القانوني، فسوف تنتهي لنفس النتيجة: عمليات طرد جماعي للفلسطينيين من النطاق الجغرافي للمستوطنات، هروبا من التزامات توحيد أطر المعاملة القانونية للمقيمين في نفس النطاق.

في اليوم التالي على إعلان قرار الليكود ، كان الكنيست في ذروة جولته الأخيرة من تعديله لقانون القدس، التي انتهي منها في فجر الثاني من يناير. صدر القانون عام 1980 بعنوان « القدس عاصمة إسرائيل» ، ويعتبر احد قوانين إسرائيل الأساسية الأحد عشر، المشكلة ما يماثل الدستور الإسرائيلي. وكان الكنيست عام 2000 قد ادخل تعديلا عليه، أضاف اليه مادته السادسة: « لا يمكن التنازل الدائم أو المؤقت عن أي سلطة منصوص عليها في قانون دولة إسرائيل أوبلدية القدس، لأي كيان اجنبي سياسي أو حكومي». ثم جاء تعديل 2018 ليشترط أغلبية 80 عضوا لإقرار أي تعديل في الحدود الراهنة للقدس، بينما كانت الصيغة السابقة تشترط فقط 60 صوتا لتغيير الحدود. علما أن نص 1980 لم يعين الحدود، ثم حددها تعديل 2000 بالحدود التي أسفرت عنها حرب 1967. ومقابل اعتراض 52 عضوا وافق عليه 64 عضوا من إجمالي 120عضوا هم كل أعضاء الكنيست .

ماهو وجه الضرورة في هذا التعديل؟ هناك هدف واضح ونجده حاضرا في مناقشات الكنيست، مضمونه تحصين الغنيمة التي منحها لهم ترامب وسعوا إليها طويلا، من خلال إغلاق الطريق أمام أي تحالف حاكم جديد يأتي للسلطة، حاملا معه من جديد حل الدولتين ومعه حتما القدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين، بوضع نصاب تصويتي يستحيل تحقيقه في ظل الانقسامات الحزبية المتأصلة في إسرائيل ، بدليل عجز التحالف الحاكم عن حشد اكثر من 62 صوتا تأييدا لقراره. غير أن هناك هدفا آخر ربما كان أكثر أهمية، سنجد مؤشراته داخل سياق عملية صنع القرار. يندرج القرار في إطار مسعى إسرائيلي طويل المدى لتهويد القدس، في سياقه تسعى إسرائيل لعزل 300000 فلسطيني يسكنون مجاورات لصيقة بالمدينة، بدمجها في كيان اداري بلدي مستقل عن بلدية القدس.وإذا حدث ذلك ستقفز نسبة اليهود من 70%من سكان القدس إلى 95% ، ولن يتبقى فيها من العرب سوي 150000 تقريبا، يسكنون قلب المدينة العتيقة. وها هي المصادر الصحفية الإسرائيلية تخبرنا بأمرين. الأول: في تصويت جري في 28 نوفمبر 2017 أقرت لجنة الكنيست المختصة مشروع قانون 2 يناير، محتويا نصا على هذا العزل البلدي . وتضيف صحيفة «النيويورك تايمز» الأمريكية ان تلك الفقرة كانت ستعتمد ضمن القانون، لكنها رفعت قبيل التصويت النهائي لأسباب سياسية. والثاني: تقود د.آنات بيركو، المقدم المتقاعد والأكاديمية المتخصصة في الإرهاب وعضو كنيست عن الليكود المعين بقرار نتانياهو، فريق عمل لوضع خطة مفصلة وزمنية لهذا الفصل. عبر اتفاق وتنسيق مع نتانياهو، وفي 24 سبتمبر الماضي اجتمعوا معه لمناقشة ما توصلوا اليه. والأمر المؤكد أن قرارا من هذا النمط، لن يقف عند حدود إعادة التنظيم الإداري للسكان، بل سيتعدى ذلك إلى أمرين . الأول تقييد حرية الفلسطينيين في الدخول للقدس، لأن المخطط سينتهي بنقل مناطقهم إلى مجال سيطرة السلطة الوطنية . والثاني عمليات مصادرة واسعة للأراضي و إزاحة للفلسطينيين العرب، في سياق دعاوى إعادة التنظيم البلدي.

خلال مناقشات الكنيست توالت انتقادات المعترضين. وقف موسى زار يتحدث بمرارة:«هناك وطن واحد في العالم يعترف بإلحاق القدس الشرقية لنا هو إسرائيل. فلنفترض انه ستأتي لحظة من الزمان سيجد فيها رئيس الوزراء نفسه متجها للاستجابة لمقترحات السلام والعودة لحدود 1967، والموافقة على ترتيب ما بشأن القدس، عندئذ ستقولون أن الأغلبية ترفض رغم أن الأمة تؤيد ذلك؟ هل تريدون تقييد ايدي الأجيال القادمة ومنع أي فرصة للسلام؟ أن الخوف يجتاحنا لأنكم تعرفون أنكم مخطئون، ويوما ما سيتغير هذا الوضع».

ولكن بينما كان موسى زار ومعه 52 عضوا يعلنون رفضهم الصارم، شرعت واشنطن تهدد الفلسطينيين بقطع معونتها عن وكالة غوث اللاجئين، أن لم يعودوا صاغرين إلى مائدة المفاوضات. افتتح ترامب التهديد:« ندفع للفلسطينيين سنويا مئات الملايين من الدولارات، لكنهم لا يريدون حتي المجيء للتفاوض حول معاهدة سلام طويلة وملزمة مع إسرائيل» . وكالعهد بها نقدت السفيرة هايلي لتكمل السطور:« إنهم لا يريدون القدوم للتفاوض ، لكنهم يسألوننا المعونة، ولن نمنحها لهم حتى نتأكد من عودتهم للتفاوض». وبعدها بأيام أعلنت الأمم المتحدة امتناع واشنطن عن دفع 150 مليونا من مخصصات الوكالة.. فماذا يعني ذلك ؟ !.