الملف السياسي

نعم .. القدس ليست للبيع

15 يناير 2018
15 يناير 2018

عماد عريان -

إن حل الدولتين بات في الغالب حديثا من الماضي في ضوء القرارات الأمريكية والقوانين الإسرائيلية الأخيرة ، وكذلك الخطوات المتوقعة من الطرفين في المستقبل ومن شأنها أن تفرض واقعا في منتهى الخطورة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل هذه التطورات ستجعل لحل الدولتين، حتى في حالة التفاوض بشأنه وبحث آليات تنفيذه، حلا أجوف لأنه سيبنى على أسس واهية ،

لم يكد الحبر الذي كتبت به تحليلات ومقالات الملف السياسي المنشور في صحيفة «عمان» يوم الثلاثاء قبل الماضي يجف حتى تأكدت صحة الكثير مما جاء فيها على أرض الواقع، فلم يكن المقصود إشاعة اليأس من وجهة النظر التي هيمنت على «الملف» وذهبت إلى عدم انتظار الشيء الكثير من ردود الفعل الدولية الغاضبة تجاه القرارات الأمريكية بشأن القدس، وعدم اعتبار تلك المواقف العالمية عنصرا فاعلا بما فيه الكفاية لنصرة الحقوق الفلسطينية وإثناء إدارة الرئيس دونالد ترامب عن مواقفها الصادمة، ولكن من الواضح أن المدخلات الواقعية السليمة لدى الزملاء الكتاب والمحللين قد رصدت بالفعل مخرجات سليمة في ضوء عوامل تاريخية تحيط بالصراع العربي الإسرائيلي، وأخرى جارية على الساحة العالمية تؤكد أن لا رادع للدولة الصهيونية ما دامت واشنطن هي الظهير السياسي القوي لها.

ومن الواضح الآن أن الرئيس الأمريكي لم يغير قواعد اللعبة الحاكمة للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية فحسب ولكنه أعادها كذلك عقودا طويلة للخلف إن لم يكن قد نسفها من الأساس، ولم تتوقف مفاجآت ترامب المخيبة للآمال عند حد قراره نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، وكم كان غريبا تلك التغريدة التي أطلقها على حسابه في « تويتر» والتي تعكش شكلا صارخا من أشكال الاستخفاف السياسي، مشيدا فيها بكل « فخر» بقراره الذي أزاح القدس من قضايا الحل النهائي ، متهما في الوقت ذاته الفلسطينيين بعدم إبداء رغبة واضحة في التفاوض(!) ليستكمل بذلك منظومة عقاب الفلسطينيين ، غامضة الأسباب والدوافع ، والتي بدأت بإغلاق مكاتب المنظمة في الولايات المتحدة ، واتهاماته النارية للفلسطينيين بتلقي ملايين الدولارات من واشنطن ، على سبيل المساعدة ، مشيرا بوضوح وبعقلية المقاول أو رجل الأعمال المهيمنة على توجهاته السياسية ، إلى أن على الفلسطينيين أن يترجموا هذه الملايين إلى سياسات عملية، ترضى عنها الولايات المتحدة ، وإسرائيل بالقطع ، بغض النظر عن تعارضها مع الثوابت الفلسطينية المدعومة دوليا، ليس هذا فحسب ولكن جاءت إشاراته واضحة بأن «القدس مقابل المساعدات»!!

كل هذه التطورات السلبية جاءت في وقت تعاني فيه إسرائيل والإدارة الأمريكية من حالة عزلة غير مسبوقة على الصعيد الدولي نتيجة خروجها على قواعد اللعبة كما سبقت الإشارة ، ونسفها حل الدولتين وقضايا الحل النهائي على وجه التقريب، ومن المفترض أن مثل هذه الضغوط السياسية والدبلوماسية المكثفة من جانب العالم ومؤسساته الدولية والإقليمية ، كان ينبغي أن تؤتي ثمارا مختلفة في الاتجاه المعاكس، ولكن ذلك لم يتحقق، وأغلب الظن أنه لن يتحقق نتيجة العناد الأمريكي المظلل بغطرسة القوة الحارسة للصلف الإسرائيلي ، والذي لم يتردد أصحابه في اتخاذ خطوات أكثر عدوانية وأشدد تطرقا بعيدا عن أي طموحات أو خطوات نحو السلام، وما كان لها أن تتم لولا الإسناد الأمريكي المباشر وقرارات ترامب بشأن القدس والتصعيد غير المبرر ضد الفلسطينيين ، ولعل في مقدمة تلك الخطوات المدمرة لعملية السلام برمتها قانون «القدس الموحدة» الذي يكرس «يهودية» القدس حيث يقضي بعزل أحياء فلسطينية عن المدينة المحتلة ، والنص على إن أي مقترح لانسحاب من القدس يتطلب موافقة 80 عضوا بالكنيست، وهو ضرب من الخيال، كما ينص قانون أساس «القدس الموحدة » على أن أي مفاوضات حول انسحاب الاحتلال من القدس منوط بمصادقة غالبية تصل إلى ثلثي أعضاء الكنيست.

وهناك ما يشبه الإجماع على مستويات مختلفة على أن هدف القانون هو التحضير لاتخاذ خطوات مستقبلية تقضي بإخراج مناطق في شمال القدس المحتلة عن منطقة نفوذ بلدية الاحتلال ، وإنشاء سلطة محلية تضمهما وتابعة للاحتلال ، يحمل فيه السكان الفلسطينيين مكانة الإقامة كباقي الفلسطينيين في القدس . وفي السياق ذاته صوت مركز حزب «الليكود» الذي يتولى زعيمه، بنيامين نتانياهو ، رئاسة الحكومة الإسرائيلية، لصالح مشروع قرار يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على كافة المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة، وذلك خلال مؤتمر للحزب هو الأول من نوعه بعد «خطة فك الارتباط» مع قطاع غزة المحاصر، وطبقا للوائح الحزب فإن قرار اللجنة المركزية لليكود يلزم جميع ممثلي الحزب في الكنيست والحكومة العمل من أجل دفع الاقتراح لتبنيه كقانون ، بينما تدعو اللجنة المركزية لليكود قياداته المنتخبة إلى العمل من أجل السماح بالبناء الحر وإحلال قوانين إسرائيل وسيادتها على مجمل المجال الاستيطاني في الضفة وغزة، وعبر رئيس اللجنة المركزية لليكود خلال المؤتمر حاييم كاتس عن حقيقة هذه الخطوة بتأكيده إن «اعتراف مركز الليكود في الضفة وغزة والقدس جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، يعني تطبيق القوانين الإسرائيلية ولن نحتاج إلى تصريح لبناء مدرسة أو لإنارة المصابيح».

وتعقيبا على ذلك يرى مسؤولون في مركز الليكود أن المؤتمر جاء بدرجة أولى ليظهر أن «الليكود هو أولا وقبل كل شيء حركة أيديولوجية لا تتعامل فقط في التحقيقات والتوصيات (في إشارة إلى ملفات الفساد التي تعصف برئيس الحكومة ورئيس ائتلافه، دافيد بيتان)، وأنه بعد إعلان ترامب وكفاحه من أجل القدس ،حان الوقت لفرض السيادة في مناطق الاستيطان ، ترامب ليس أكثر صهيونية منا، حان الوقت أن تثبت الحكومة أنها ليست أقل شجاعة من ترامب بشأن السيادة الإسرائيلية»، تلك تصريحات على طريقة «شهد شاهد من أهلها» تؤكد أن الرئيس الأمريكي وجه بالفعل صفعة كبيرة لنهج التسوية ، في وقت تتجه فيه إسرائيل نحو فرض «سيادتها» على كامل فلسطين التاريخية حتى ولو كان الثمن خلق نظام فصل عنصري (أبارتايد) بدعم أمريكي ، الأمر الذي أوصل المفاوضات إلى طريق مسدود ، وفتح الباب واسعا أمام إعادة صياغة اجتهادات وخيارات بديلة تعيد تعريف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تم تحريف جوهره، وتبني إستراتيجية وطنية جديدة تتلاءم مع هذا الجوهر ومع المستجدات والحقائق التي خلقتها إسرائيل على الأرض،على حد قول أحد المؤرخين الإسرائيليين.

وذلك صحيح إلى حد كبير لأن حل الدولتين بات في الغالب حديثا من الماضي في ضوء القرارات الأمريكية والقوانين الإسرائيلية الأخيرة ، وكذلك الخطوات المتوقعة من الطرفين في المستقبل ومن شأنها أن تفرض واقعا في منتهى الخطورة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل هذه التطورات ستجعل لحل الدولتين، حتى في حالة التفاوض بشأنه وبحث آليات تنفيذه، حلا أجوف لأنه سيبنى على أسس واهية بعدما التهمت الدولة الصهيونية الجانب الأعظم من الأراضي الفلسطينية ، التي من شأنها أن تؤمن حدا أدنى من مقومات دولة فلسطينية قابلة للحياة و الاستمرار و الاستقرار، وعلى رأسها بالقطع القدس الشرقية التي يعتبرها الكثيرون لب الصراع لمكانتها المقدسة أولا وباعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة ثانيا . ومن ثم فانه إذا كان احتلال فلسطين التاريخية هو ذروة المأساة بالنسبة للدول العربية وبالتأكيد للشعب الفلسطيني فإن المحاولات والمشروعات والسياسات الأمريكية - الإسرائيلية لالتهام القدس والأقصى الشريف ليست إلا حلقة من حلقات هضم فلسطين التاريخية كاملة دون مواربة أو خجل، ليزداد الصراع تعقيدا ودموية في الآن معا، فالتنازل عن الثوابت التاريخية ضرب من الخيال، وإذا كان باب التفاوض من أجل استرداد تلك الحقوق قد فتح لسنوات طويلة لاسترداد تلك الحقوق بالطرق السلمية، فهذا لا يعني تفريطا بقدر ما يمثل سلوكا لنهج مختلف يؤثر السلامة ويحقن الدماء، ولكن أمام الغطرسة الإسرائيلية والصلف والهمجية الإسرائيلية، لن ينظر الفلسطينيون بكل تأكيد لحفنة دولارات من المساعدات الأمريكية مهما كانت قيمتها حتى يقايضوا بها أقصاهم الشريف، وخيرا فعل الفلسطينيون جميعا حين أطلقوها صرخة مدوية في مواجهة تلك الهجمة الشرسة بأن «القدس ليست للبيع».