الملف السياسي

المعركة ليست قانونية فقط .. والاعتراف الأممي مهم

15 يناير 2018
15 يناير 2018

محمد حسن داود -

,, ما تتعرض له القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عموما في الأيام الجارية يعد في حقيقة الأمر حلقة من حلقات المخطط الصهيو - أمريكي لابتلاع فلسطين التاريخية وتجويف القضية من مضامينها الجوهرية بحيث تتحول في نهاية المطاف إلى مجرد مشكلة إنسانية ,,

ما أبعد الليلة عن البارحة !! نهايات عام 2016 وبدايات عام 2017 كانت مبشرة للغاية بنقلة نوعية إيجابية للقضية الفلسطينية كمحصلة لجملة من التطورات المهمة على الساحة الدولية كرفع العلم الفلسطيني في ساحة الأمم المتحدة بنيويورك جنبا إلى جنب مع أعلام الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بحضور أمينها العام آنذاك «بان كي مون»، وما أعقب ذلك من قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر بموافقة أمريكية ضمنية نادرة بتجريم الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة واعتبار جميع المستوطنات القائمة غير شرعية، ثم جاء مؤتمر باريس بمشاركات إقليمية ودولية رفيعة المستوى لينتصر في نهاية المطاف للحقوق الفلسطينية المشروعة وعلى رأسها الحق في دولة فلسطينية مستقلة ضمن إطار «حل الدولتين»، ومن المفترض أن تكون هذه السلسلة من التطورات السياسية الإيجابية - جنبا إلى جنب مع قرارات اليونيسكو المتتالية الرافضة لكل مظاهر تهويد القدس والنيل من تراثها الإسلامي - العربي - ظهيرا دوليا قويا لنصرة الحقوق الفلسطينية و الانتقال بها إلى حيز التنفيذ والإنجاز الفعلي على أرض الواقع.

إلا أن نهايات عام 2017 وبدايات عام 2018 جاءت مختلفة كل الاختلاف من خلال تطورات في منتهى الخطورة على حاضر ومستقبل الأرض والشعب الفلسطينيين نتيجة الجموح الأمريكي - الإسرائيلي في التعامل مع الواقع القائم والخروج كلية على قواعد اللعبة ، والقرارات السابقة ، المحددة لطبيعة التعامل مع الأزمة القائمة وتسويتها من خلال «حل الدولتين» وترك القضايا الشائكة لمفاوضات الحل النهائي وهو ما ألتزمت به إدارات أمريكية سابقة ، بل وكان بعضها صاحب هذه الأسس التي تحولت إلى مرجعيات للتفاوض، وكذلك تفاوضت على أساسها حكومات إسرائيلية سابقة وحاضرة، إلا أن إدارة الرئيس ترامب وحكومة نتانياهو والكنيست الإسرائيلي نسفت تماما كل هذه الأسس ، من خلال قرارات «اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل» و قانون «القدس الموحدة» وكذلك قانون ضم المستوطنات لإسرائيل ، و قانون «عقوبة الإعدام» لمنفذي العمليات الفدائية التي أدت إلى مقتل مستوطنين وجنود إسرائيليين ، وفي خضم تلك التطورات تجددت الحملة الإسرائيلية على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» بهدف حلها ، ثم تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. ولا شك في أن مجمل هذه التطورات السلبية التي وقعت في فترة وجيزة من عمر الزمان تعود بالقضية الفلسطينية عقودا كثيرة للوراء.

ويحالف الصواب قيادات فتح إذ اعتبرت تصويت اللجنة المركزية لحزب الليكود الإسرائيلي بالموافقة على قانون بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة وغور الأردن طعنة لعملية السلام ، قضت بشكل كامل على اتفاق أوسلو، فضلا عن اعتبار القرار الأسوأ منذ بداية العام الجديد ، حيث يعد ترجمة وفضحا للنوايا الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ، كما أنه استكمال للأزمة التي بدأتها السلطات الإسرائيلية خلال الشهرين الأخيرين من عام 2017، وفي سياق هذه التطورات بات على القيادة الفلسطينية أن تتعامل دولياً كما لو أنه لا يوجد اتفاق أوسلو أو أي اتفاق سلام بين الفلسطينيين و الإسرائيليين ، لأن هذه الاتفاقات وحتى النوايا الطيبة التي كانت موجودة قد انتهت تقريبا بشكل تام ، بعدما اتضحت التوجهات الإسرائيلية بشأن الأراضي الفلسطينية ،فهم لا يريدون دولة فلسطينية من الأساس.

وبالفعل تعتبر كل هذه القرارات مخالفة لمقررات الشرعية الدولية التي تجيز الحق للشعب المحتل في مقاومة الاحتلال وعدم المس بوضعية القدس باعتبارها واقعة تحت الاحتلال ، ومن ثم عدم جواز القيام بأية أعمال من شأنها تغيير الوضع القائم فيها، فهذه القرارات تعني تجزئة الضفة الغربية وتقسيمها إلى أجزاء تفتح المجال أمام السيادة الإسرائيلية المستقبلية الكاملة على القدس الشرقية والسيطرة على الطرقات والجغرافيا والسكان ، والتشريع الإسرائيلي يزيد استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات حدود وسيادة ووحدة جغرافية وديموغرافية ، بالإضافة إلى شرعنة الاستيطان وبقائه في الضفة الغربية وبالأخص على الحدود الأردنية الفلسطينية ، وكل ذلك يفتت وحدة إقليم الضفة الغربية ويعني بقاء السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية و القدس ،وهذا كله يؤدي إلى عدم إخضاع القدس والكتل الاستيطانية للتفاوض المستقبلي ما بين المنظمة وإسرائيل التي تسابق الزمن باتخاذ القرارات من أجل فرض سياسة الأمر الواقع على المفاوض الفلسطيني . وهذه القرارات كلها تدعم فكرة بقاء السيطرة والسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وفرض القانون الإسرائيلي على أجزاء كبيرة بالضفة الغربية وعلى القدس المحتلة وتوسيع المشروع الاستيطاني ،ما يمنع مستقبلا التنازل عن هذه المستوطنات الكبيرة ، والذي بدوره سيؤدّي إلى إعدام مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، وإحياء مشروع الحكم الذاتي على مناطق في الضفة الغربية وقيام دولة في غزة تتبع لها مناطق الحكم الذاتي الموجودة في الضفة، والتجمعات الاستيطانية في الضفة تتبع لدولة الاحتلال.

وليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن هذه القرارات السلبية المتتالية تلغي أركان الدولة المستقلة والمتمثلة في وحدة الإقليم ووحدة الجغرافيا والبشر والسيادة المطلقة على الإقليم ، وشطب القدس كعاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية ، وهذه القرارات تجرد الدولة الفلسطينية المستقبلية من أركانها الأساسية وسيادتها وتصبح حتى لو قامت دولة بلا سلطة سيادية و هشة ، ما يتطلب من السلطة البحث عن خيارات بديلة للمفاوضات ، وقلب الطاولة لعودة القضية الفلسطينية إلى الاهتمام الدولي والإقليمي ، ومن الخيارات التي يطالب بها بعض المحللين الفلسطينيين ضرورة قطع التنسيق الأمني وإتمام المصالحة وبناء منظمة التحرير على أسس الشراكة الوطنية ، والتمسك بخيار المقاومة لمواجهة المشاريع الإسرائيلية وإفشالها وإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد وعاصمتها مدينة القدس، وإعادة النظر بالمشروع السلمي برمته - سحب الاعتراف بإسرائيل ومغادرة مظلة أوسلو- وتفعيل قضية الأسرى على صعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة وتدويل قضيتهم من خلال التوجه إلى المحكمة الدولية في لاهاي بهدف الحصول على فتوى قانونية حول الوضع القانوني للأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، وإحالة العديد من الملفات إلى محكمة الجنايات الدولية خاصة ملف الاستيطان، والتوجه إلى الأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية أو أن تستلم الأمم المتحدة المسؤولية عن فلسطين المحتلة.

ولا شك في جدية وأهمية كل هذه المقترحات، ولكنها لا تأخذ في الاعتبار الحقائق السياسية الحاكمة للنظام الدولي ولتوازنات القوى الشاملة التي لا تلعب لصالح الفلسطينيين، وكذلك فإن الاعتماد فقط على حقائق الشرعية الدولية والقانون الدولي لن ينصف الفلسطينيين، فالأزمة الراهنة ليست سياسية - قانونية فقط، وليس خافيا أن القوى المؤثرة المطلوب منها إنفاذ الشرعية الدولية والقرارات الأممية - وعلى راسها الولايات المتحدة بالقطع- هي ذاتها القوى التي سحقت القرارات الدولية وضربت بها عرض الحائط وحولتها إلى مجرد «حبر على ورق» ثم فإن التعامل معها بنفس القواعد السابقة سينتهي إلى طريق مسدود مجددا، ومن حيث المبدأ فإن القوى الفلسطينية ومعها أيضا القوى العربية والإسلامية تعاني بالفعل من حالة ارتباك نتيجة هذه التطورات والقواعد السلبية الجديدة وباتت مطالبة بخيارات متعددة شديدة المرارة قد تؤدي إلى نتائج كارثية عند وضعها موضع التنفيذ.. ثم فإن التفاوض والطرق الدبلوماسية والسياسية تظل هي الخيار الأفضل ومواصلة هذا النهج بحلول ووسائل مبتكرة وغير تقليدية أمر مطلوب رغم صعوبته، وليس معنى أن المعركة غير سياسية وغير قانونية أن تتم التضحية بالمواقف الجماعية الدولية والقرارات الأممية المؤيدة للحقوق الفلسطينية، بل ينبغي التمسك بها ودعمها والبناء عليها حفاظا على الثوابت الفلسطينية والعربية ولإبقاء القضية حية في المحافل الدولية بكل أركانها الأساسية، ولتكن البداية الجدية السعي بقوة للحصول على اعتراف أممي صريح بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس كاملة العضوية في المنظمة الدولية، وتظل في النهاية حقيقة يجب التمسك بها والنضال في ظلها وهي أن سياسات الأمر الواقع - خاصة إذا استندت إلى القوة فقط وإذا كانت مناقضة لحقائق التاريخ والجغرافيا - قد تدوم لفترة من الزمن ولكنها أبدا لا تدوم إلى ما لا نهاية.