1223348
1223348
المنوعات

قارئ يسرد تجربته ..أحمد الحجري في حوار حول القراءة: ولجت إلى هذا العالم الجميل من كوة «اللصوصية» البريئة!

15 يناير 2018
15 يناير 2018

حاوره: ماجـد النـدابي -

هذا حوار عن القراءة فقط، عن تحولاتها وطقوسها ومدى علاقتها الحميمة بالقارئ .. كيف يعيش معها وتعيش معه ..

نعرف أول كتاب قرأه القارئ، وطريقته في القراءة، والكتب التي أثرت فيه.

اليوم نفتش في ذكريات القاص أحمد الحجري عن القارئ الذي بدأ رحلته المشوقة بقراءة «روايات الرجل المستحيل» .. ودموعه التي سفحها على أوراق الكتب.. وكيف أن سحر الكثبان الرملية لـ«بدية» يمنعه من القراءة في الهواء الطلق .. وإعجابه بـ«رسالة في التسامح» لفولتير .. وغيرها من الذكريات الملهمة ..

* هل تذكر أول كتاب قرأته كاملا من الجلدة الى الجلدة؟ وماذا كان شعورك بعدها؟ وما أثره عليك؟

نعم أتذكر تلك اللحظة الغابرة في الزمان، فقد بدأت علاقتي بالكتاب بحادثة طريفة، ولك أن تتخيل أنني ولجت فيها إلى هذا العالم الجميل من كوة اللصوصية، حيث كنت مع عائلتي في طريقنا إلى العاصمة مسقط في مراجعة صحية في عيادة الديوان (المجمع الصحي لديوان البلاط السلطاني حاليا). كنت حينها صغيرا ألعب مع أخي الذي يصغرني في دهاليز العيادة وممراتها حين جاء أخي الأكبر وطلب منا أن نختلس بعض روايات الجيب البوليسية المركونة في صندوق كبير في إحدى غرف الموظفين. رفضت في البداية رفضا قاطعا لكن أخي الأكبر أصر على ذلك (وقد كان شغوفا بالقراءة) على اعتبار أننا أولاد صغار ولا لوم علينا، ولن يشعر أحد بشيء إذا ما قمنا بهذه المهمة غير المستحيلة، دخلت الغرفة التي دلنا عليها ووجدت كرتونا يفيض بعشرات من روايات رجل المستحيل فإذا بي أنتزع روايتين منها وأخبئهما تحت ملابسي -وهكذا فعل أخي الأصغر أيضا-وأنا أكاد أموت من الرعب إذا كشفنا أو دخل علينا أحد الموظفين.

في البيت ندمت ندما شديدا على اقترافي هذا الجرم الذي أقدمت عليه مجبورا، وحين أنهى أخي قراءة الروايات، أخذت من عنده تلك الروايتين اللتين انتشلتهما. كانتا ككل القصص البوليسية مثيرة وشائقة لكن إحداهما كانت تدور حول مخلوق فظيع يمتلك أذرعا أخطبوطية خضراء،؛ ولذا حين أنهيت قراءة تلك الرواية أصابني رعب شديد فلم أخرج من البيت عدة أيام خشية أن يخرج إلي ذلك الوحش المخيف من أحد التلال الرملية التي تحيط بقريتي ويعصرني بأذرعه عقابا على فعلتي الشنيعة.

* لماذا كنت تقرأ؟ وماذا دفعك الى ذلك؟

أنا ابن المكتبة وصديقها الدائم، وقد رسمت خمس مكتبات معالم حياتي القرائية. في البداية كان الدافع وراء القراءة الفضول لاكتشاف الكتب التي تمتلئ بها خزانة أبي وما تحتويه من معارف. كانت مكتبة أبي الصغيرة تضمُ كتبا دينية وأخرى تاريخية بعضها كان يجلبها من الدمام والأخرى من زياراته السنوية إلى مكة المكرمة، بعدها كان لأخي بدر -الذي كان قارئًا نهما- الفضل في التعرف على كتب الأدب والقصص في التراث العربي مثل كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي وكتاب ألف ليلة وليلة وكتب العشاق والسير الشعبية.

لاحقا وفي فترة المراهقة كان للأستاذين سلطان بن عبيد الحجري وراشد بن محمد الحجري الفضل في تأسيس مكتبة الحوية (كانت عبارة عن غرفة إسمنتية صغيرة استعملت سابقا مدرسة لتحفيظ القرآن للفتيان والفتيات)، وقد ضمت المكتبة لأول مرة كتبا خارج نطاق الكتب الدينية والتراثية المعروفة، وزودت بكتب وروايات حديثة في مجالات متعددة من معرض مسقط الدولي للكتاب، كانت هذه المكتبة ملجئي الوحيد للقراءة ومتنفسا حيويا لتصفح الكتب والمجلات الدورية، وفي الطريق اليومي من البيت إلى المكتبة كانت هنالك مكتبة الشيخ علي بن سالم الحباسي الحجري الشامخة، وهي تضم بين جنباتها أكثر من مائة وأربعين مخطوطة لتكون من أكبر المكتبات العمانية من ناحية وفرة المخطوطات التي تحتويها، وأتذكر أنني حين دخلتها لأول مرة اندهشت من الأعداد الكثيرة من الكتب التي تمتلئ بها الأرفف والجدران، وقد كان الشيخ علي -رحمه الله- ومكتبته من الملهمين لي في قراءة الكتب في كل وقت خاصة وأنا أقرأ في مكتبة الحوية.

بعدها أصبحت عضوا في اللجنة الثقافية لمكتبة بدية العامة وانفتحت أمامي كنوز مكتبتها لأنهل من معينها، وأصبحت القراءة وسيلتي المثلى لسد الجوع الثقافي والشغف المعرفي، ثم جاءت المكتبة الرئيسة بالجامعة لأكتشف من خلالها ذاتي ولتجيب عن كثير من الأسئلة المحيرة التي تشغلني، ومعها أصبحت القراءة عادة يومية، ومنفذا للتواصل مع الأفكار، وصحبةً للكتاب والأدباء والمفكرين.

* ما طريقتك في القراءة؟ وأين تفضل مطالعة الكتب؟

لا توجد طريقة واحدة لدي للقراءة، أحيانا قليلة أقرأ وأنا جالس على كرسي لكنني معظم الأحيان أفضل القراءة مستلقيا أو قاعدا، كل ما يهمني أثناء القراءة هو الهدوء التام وليس أكثر من ذلك، لا يمكن أن أقرأ في وسط يصدر منه صخب أو إزعاج، كما أنني أفضل الأماكن المغلقة على الأماكن المفتوحة، في قريتي الحوية حاولت أن أقرأ في الهواء الطلق فوق التلال الرملية أو تحت ظل سمرة أو غافة لكنني لم أتمكن من ذلك؛ لأن صفاء الطبيعة وسحر المنظر يشتتان تركيزي فأظل أتأمل وأفكر في جمال المشهد بدل التركيز على القراءة.

* هل تضع ملخصات أو ملاحظات على ما تقرأ؟

في العادة لا خاصة في اللحظة التي أقرأ فيها الكتاب، فإنها تشغلي عن مواصلة القراءة وتفقدني التركيز على الفكرة أو الحدث، وتقطع حبل الأفكار المترابطة في ذهني، ولكنني أقوم بذلك أحيانا في حالتين الأولى: حين يدهشني كتاب ما، أو تستفزني أفكاره، أو تثيرني طريقة معالجته للموضوع فيحفزني على التعليق عليه، وهنا ألجأ إلى الهاتف لكتابة الملاحظة أو التعليق وربما نشرتها لاحقا على الفيسبوك كما فعلت ذلك عند قراءة رواية «البومة العمياء» لصادق هدايت أو رواية «سندريلات مسقط» لهدى حمد، والحالة الثانية إذا كان ذلك الأمر بهدف عرض الكتاب في لقائنا شبه الأسبوعي في مكتبة بدية العامة مع أصدقاء القراءة وعشاق الكتب، فقد وضعت ملخصات لأجل عرض كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب» لأمين معلوف، وكتاب «البحث عن يسوع» لكمال الصليبي مثلا.

* هل تخط بقلمك على السطور؟ وما تفسيرك لهذه العملية؟

لا أفضل ذلك، إنها عملية مرهقة وشاقة بالنسبة لقارئ كسول مثلي، كما أنها تحرمك من انسياب القراءة وتدفق أفكار الكاتب (في بعض الحالات أتوقف عن القراءة قليلا لأسجل فكرة أو أقتبس عبارة أو أقتنص حكمة. فعلت ذلك كثيرا في رواية «الأشياء تتداعى» لتشينوا اتشيبي لأنها مليئة بالحكم والأمثال والأغاني الشعبية الأفريقية) لكنني في معظم الأحيان أمارس هذه العملية عندما أكون بصدد كتابة مقال أو بحث علمي. في أثناء دراستي للماجستير بكلية الآداب بالجامعة، كنت أمسك القلم وأخط السطور المهمة وألون بعض الفقرات خاصة في الكتب التأسيسية التي تخدم بحثي، ولذا ستجد في مكتبتي نوعين من الكتب: الكتب المترهلة المليئة بالخطوط والألوان، وهي التي قرأتها واستفدت منها في كتابة بحوثي ومشاريعي الدراسية، والكتب الأخرى -وهي الأكثر عددا-الناصعة والجديدة التي تبدو كأن يدا بشرية لم تمسها قط.

* ما أهم الكتب التي أثرت فيك خلال مسيرتك القرائية؟

يبدو لي أن مكمن عظمة الكتاب وفوائد القراءة في تأثيرها على القارئ وقدرتها على ضبط وجهة بوصلته في الحياة، بعض الكتب يبقى تأثيرها إلى مدى زمني بعيد وبعضها يهزك من الداخل ويفضح سلوكك وانفعالاتك، وبعضها الآخر يقلب تفكيرك ويغير معتقداتك وقناعاتك، والكتاب الذي يقوم بهذا التأثير هو بلا شك كتاب عظيم ويستحق القراءة مهما كان مجاله ومهما كان كاتبه. دعني أستحضر هنا بعض الكتب التي قامت بهذه الأدوار دون الأخذ في الاعتبار ترتيب قراءتها زمنيا: «رسالة الحيوانات» لإخوان الصفاء وقد خرجت بعد هذه القصة الفلسفية إنسانا آخر في النظر إلى الحيوان وطريقة معاملته، وقد كانت هذه الرسالة محفزا لي لتحليل خطابها السردي سيميائيا في مرحلة الماجستير، وهنالك كتاب «رسالة في التسامح» لفولتير الذي نبه فيه لمخاطر الحروب الدينية وضرورة التعايش السلمي بين كافة المذاهب الدينية، ودائما ما أتذكر شخصية جان فالجان في رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو؛ لأنها شخصية هزتني من الدخل وجعلتني أعيد التفكير مرارا في طريقة التعامل مع الآخرين. أما كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو فهو كتاب تأسيسي مهم في فهم طبيعية الأنظمة السياسية. وتبقى شخصية زوربا في رواية «زوربا اليوناني» لنيكوس كازانتزاكيس من الشخصيات الملهمة في مسيرة الحياة.

* هل منهجيتك في القراءة تغيرت مع تغير مسيرتك الحياتية؟

بالتأكيد، فالعشوائية في القراءة والارتجال في انتقاء الكتب التي رافقت سني الأولى بدأت تخفت تدريجيا (أحيانا تجبرك ظروف العمل على القراءة في موضوعات بعينها أو في كتب محددة تسهم رفع مستوى الوعي والقدرة على تدريب الآخرين عليها، أستحضر هنا كتب التربية وطرائق التدريس)، لاحقا أصبحت شديد الحساسية تجاه الكتب التي تستهويني والكتاب الذين أقرأ لهم. في هذا العالم المتضخم بالكتب، والمصاب بسعار النشر تصبح انتقائيا بالضرورة، وهذا يعني ضرورة الإخلاص للقراءة في مجال بعينه (هذا الأمر لا يعني بالضرورة أيضا عدم التعرف على كتاب آخرين وارتياد آفاق معرفية أخرى)، ولكنك تصبح في فترة من الزمن قادرا على التمييز بين الكتاب الجيد والكتاب السيئ، وهنا تصبح فكرة وضع تصور منهجي أو خطة قرائية لفترة زمنية محددة أمرا حتميا.

* ما المجالات القرائية التي تستهويك هذه الفترة؟ وكيف يتم تحديد هذه المجالات؟

ما يزال الأدب شغلي الشاغل، أقرأ الشعر والقصة والرواية والمسرحية، ولكنني أميل هذه الأيام إلى كتب أدب الأطفال، وأشعر أنها مرآة صافية تنعكس فيها كل هواجسنا وانفعالاتنا ومشاعرنا الطيبة منها والشريرة، إنها من نوع الأدب الذي يستطيع تعرية دواخل النفس الإنسانية دون مواربة، وتتجلى فيها طبيعة البشر كما هي دون رتوش أو نفاق، وهنا أستحضر بعض الكتاب الذي أبدعوا في هذا المجال مثل: لويس كارول ورولد دال وجوستيان غاردر وزكريا تامر، كما أنفق جزءا من وقتي في القراءة في كتب اضطراب طيف التوحد (وهنا أستحضر الكتاب المهم لراون كوفمان «اختراق التوحد» صاحب استراتيجية son-rise). ولا بد لي من القراءة بين الفينة والأخرى في كتب الأديان والمذاهب لأنها نافذة لفهم الآخر المختلف ومفتاح للتسامح مع الذات ومع الآخرين.

* هل ألهمتك بعض السير الذاتية للكتاب والمفكرين في مجال تحفيز وتشجيع القراءة؟

بالطبع، أن تهضم حياة امتدت عشرات السنين في بضعة أيام معنى هذا أن تضيف إلى رصيد حياتك حيوات أخرى، فالسير الذاتية منجم للخبرات والتجارب الحياتية في شتى المجالات، وهي رصيد ثقافي وكنز معرفي، وشاهد على تاريخ وحياة جيل بأكمله، هكذا وجدت نفسي ألتهم السير الذاتية التهاما، وأتعرف على حياة الأدباء والمفكرين الحافلة بالخيبات والعثرات والآمال والطموحات والاستفادة من تجاربهم القرائية والكتب التي أسهمت في تكوينهم، وهنا أضرب أمثلة على تلك السير الذاتية التي منها: «سيرة حياتي» لعبد الرحمن بدوي، و«تربية سلامة موسى»، و «سبعون ... حكاية عمر» لميخائيل نعيمة...، كما تستهويني السير الذاتية للأدباء الفلسطينيين: إحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا وفدوى طوقان ومصطفى البرغوثي وعائشة عودة.

* هل تذكر لنا لحظة أبكاك فيها الكتاب؟

كنت دائما عصي الدمع، أتذكر هنا (وكنت حينها طالبا في المدرسة) أن أحد الأصدقاء أخبرني عن رواية اسمها «دموع على سفوح المجد» لعماد زكي لم يقرأها أحد إلا وسفح دموعه، لقد كان ذلك الأمر هو دافعي الرئيس لقراءة تلك الرواية، كنت أرغب في رؤية دموعي المنسابة لأتأكد بنفسي من قدرة الكتاب على استنزال الدمع. انتظرت بشغف أن تنهمر دموعي في أية لحظة، وأنا أقلب الصفحات لكنني لم أبك قط، وخاب ظني في الكتاب وشككت في مشاعري ردحا من الزمن. لاحقا أصبحت أكثر تأثرا مع كتب بعينها. أتذكر هنا رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهرة بن جلون -ترجمة المبدع بسام حجار-المصنفة ضمن ما يعرف بأدب السجون، ومع جحيم معتقل تازممارت ومآسي المعتقلين لكنني لم أبك إلا حين وصلت إلى الصفحة قبل الأخيرة من الكتاب، إذ لم أتمالك نفسي وانفجرت باكيا، كانت لحظة مأساوية تركزت فيها جميع أهوال وفظاعة التعذيب، انهمرت الدموع بلا توقفت، تركت الرواية جانبا، وأصبحت أنشج وأصيح ملتاعا وتورمت عيناي ولم أستطع إكمال الصفحة الأخيرة المتبقية إلا بعد فترة ليست بالقصيرة، حين عادت السكينة إلي.

* رشح لنا ٥ كتب تنصح القراء في قراءتها؟

هذا أصعب سؤال توجهه إلي، وهو من الأسئلة التي أواجه بها سنويا مع اقتراب معرض مسقط الدولي للكتاب. كيف يمكن أن تُخْتَصَر قائمة الترشيحات في بضعة كتب؟ وما الكتب الخمسة التي تستحق فعلا أن تكون الأفضل لكي أرشحها للقارئ؟ إنها مهمة صعبة لعمري، فتعدد المجالات والتخصصات العلمية، والطفرة المعرفية في شتى ضروب المعرفة الإنسانية، ووفرة قوائم الترشيحات لأفضل الكتب وأكثرها مبيعا، وتنوع الجوائز الأدبية وتعددها يجعل الإجابة عن هذا السؤال عبثا أو ضربا من المستحيل لكن دعني بدلا من ذلك أذكر لك أبرز الكتاب الذين لا يخذلونك قرائيا مهما كان نوع الكتاب الذي تقرأه لهم، ودعني أختزل الإجابة في الكتاب الذين قرأت لهم أكثر من عمل خلال العام المنصرم، وهي تستحق القراءة فعلا: هنالك ستيفان زفايج، وقد قرأت له «لاعب الشطرنج» و«أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة» وعتيق رحيمي الذي قرأت له «أرض ورماد» و«حجر الصبر»، أعشق أيضا توفيق الحكيم وقرأت له العام الماضي «سجن العمر» ومسرحية «شهرزاد»، وإمبرتو إيكو وروايته الساحرة «اسم الوردة»، وأختم بكاتب أدب الأطفال رولد دال وروايتيه «ماتيلدا» و«تشارلي ومصنع الشوكولاته».

* ما آخر الكتب التي قرأتها؟

أنهيت مؤخرا قراءة رواية «الحارس في حقل الشوفان» لجيروم ديفيد سالنجر وهي رواية مهمة من الأدب الأمريكي، وتعد واحدة من أهم الروايات الإنجليزية في التاريخ، وأقرأ حاليا كتاب «لقاءات مع أناس استثنائيين» لأوشو.