أفكار وآراء

الشر .. عندما يستوطن الحالة الإنسانية !!

14 يناير 2018
14 يناير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يتهم السلوك الشاذ عند بعض البشر، على أنه السبب في إشعال كل هذه الحرائق المدمرة للحياة البشرية، وأن هذا السلوك ليس موقوفًا على فترة دون أخرى، أو بقعة جغرافية دون أخرى، وإنما أينما تهيأت له الظروف للنمو والاستمرار؛ عندها يصبح حاضرًا في توظيف كل طاقاته المادية والمعنوية لتكريس الضرر على من حوله.

يأتي مفهومي «الخير» و«الشر» الرمز والدلالة، كأحد المفاهيم المهمة في حياتنا اليوم، وقد ارتبط كل مفهوم بمساحة اشتغال مختلفة عن الآخر، ففي الوقت الذي يؤدي فيه الخير ذلك السخاء الإنساني الجميل؛ حيث يتسامى فيه الإنسان على ذاته؛ ويضحي بأعز ما عنده للآخر، بطيب خاطر، عندها تلبس الحياة ثوبا بهيجا من الرضا والأمان والاستقرار، وفي الوقت ذاته يأتي الشر تلك الصورة المعفرة لجبين الإنسانية، والملبسة الحياة ثوبا قاتما يحولها إلى غابة من الوحوش الضارية يأكل القوي الضعيف، حيث تسلب الحقوق، وتراق الدماء، وتنتهك الأعراض، ويكون البطش والجبروت هو المتسيد على المشهد الإنساني، ولذلك عندما تبدأ حياتنا؛ كبشر؛ بالصراخ، فإننا؛ بلا شك؛ نستنكر إطلالتنا المبكرة للحياة قبل وعينا الحقيقي بأن ما ينتظرنا لن تكون مجابهته إلا بهذا الصراخ على أقل تقدير، وتنتهي حياتنا بصراخ الآخرين علينا، وبين الصراخين ثمة مساحة كبيرة من المآسي؛ يتلقى من خلالها الإنسان صلف أخيه، وقسوة عدوه، ويتماهى إلى درجة ألا وجود لكائن بشري له الحق في الحياة، كأي مخلوق فيها، هذه المساحة التي تتمايز فيها الأفعال، وتتنوع فيها الممارسات، يظل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يوجه هذه الممارسات والأفعال إما إلى ما يوفر له سبل الراحة والاطمئنان حيث يستوطن الخير؛ وإما إلى ما يوقعه في سبل الضنك والمشقة؛ حيث يستفحل الشر، فحياتنا موقوفة ما بين هذين الأمرين: الخير والشر، وإن كان كلاهما يظل بقاؤهما نسبيا، حيث لا توجد صورًا مطلقة في حياة أي إنسان، إلا أن الإنسان في تقييمه يستثقل الشر، ويرى في مروره عليه حملا ثقيلا، وكما قال أبو العلاء المعري: «حسن في ساعة الموت: آلاف سرور في ساعة الميلاد» إن عد الموت «شر» والميلاد «خير» ويرى الإنسان فترة مكوث الشر، لثقله، زمنا أطول، فيطلق أحكامًا مطلقةً على أن الحياة موبوءة بالشر والأشرار، وهذا ليس صحيحا مطلقا مع قسوة الشر؛ لأن حياة الإنسان متوازنة في خيرها وشرها «يوم لك؛ ويوم عليك» كما هي المقولة، فلا شر مطلق، ولا خير مطلق، وإنما هناك مراوحة قائمة بينهما، حتى لا تكون على صورة واحدة فيصاب الإنسان بالملل والضيق والكآبة.

ومن منطلق هذا الفهم تتداخل ممارساتنا كبشر في خضم صور الخير والشر، وقد تجبرنا الكثير من الأحداث على الدخول في متون الخير والشر، فننقاد إلى كلاهما في لحظات هذا الاستجلاب، إن تصح التسمية، حيث نتماهى في صور الخير إلى درجة أننا ننسى أنفسنا أننا بشر تتجاذبنا عواطف كثيرة ننحاز من خلالها إلى استحقاقاتنا الذاتية، ومن هنا تأتي المبادرات الخيرة التي يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان -المتمثل ذلك في مجموعة التضحيات- وفي مواقف أخرى نتماهى بالطريقة نفسها في صور الشر، إلى درجة أننا ننسى أنفسنا أننا بشر، وأن أفعالنا هذه لا تتناسب وبشريتنا التي فيها الرحمة والخير، وأن نملك عقلا يعطينا فرصة التفكير عن الوقوع في مستنقع الغريزة الذي يستحوذ على تصرفات الكائنات الأخرى التي يعلي سقف طموحها أو ينخفض بناء على مستوى الغريزة عندها في تلك اللحظة، وهذه المواقف هي التي ننتصر فيها للذات، أو للدفاع المستميت عن حياتنا، خاصة عندما نقع تحت ظلم الآخر؛ هنا نستحضر الفهم غير السوي «الغاية تبرر الوسيلة».

ففي الحالة الأولى «الخير» على سبيل المثال: أن نرى ممن نتقاسم معهم حلو الحياة ومرها يقومون بأفعال قمة في التضحية ونكران الذات، ويتملكنا العجب العجاب، وقد تحاصرنا الأسئلة عن السر الكامن وراء هذه التضحيات التي لا تقدر بثمن، كمن يتبرع بأحد أعضائه المهمة لشخص؛ قد لا يمت له بصلة قربى أو صداقة، وإنما ينبري هكذا بدافع إنسان شديد الوضوح، ومن فرط الإعجاب، نردد: أيعقل أن يكون في هذه الحياة مثل هؤلاء الناس؟ ونرى آخرين يقدمون خدمات بلا مقابل لأفراد المجتمع كافة دون تمييز، ودون انتظار مقابل مادي أو معنوي آني، وإنما يتركون تقدير ذلك لله عز وجل فهو المكافئ الأوفى لكل أفعال البشر، وهو المضاعف لهذه المكافأة عاجلا أو آجلا؛ دون أدنى شك، وهم؛ يقينا؛ لا يعولون بأخذ المقابل إلا من خلال هذا المنفذ المضمون، فما عند الله خير وأبقى.

وفي الحالة الثانية «الشر» على سبيل المثال: تأتي الأفعال تحت مسوغات كثيرة مبتدأها ومنتهاها هذه الحروب الممتدة على امتداد أعمار البشر، حيث يندر أن تمر الإنسانية بحالة ليس فيها حرب وكلها حروب عبثية لا قيمة لها ولا مردود يعود إلى البشرية بشيء من المكاسب الإنسانية، سوى الهلاك والدمار، هذه الحرب التي تستنزف عشرات الآلاف من البشر في فترات زمنية قصيرة جدًا، وتأتي المحصلة بعد ذلك بالملايين الذين يدفعون أرواحهم أثمانا لما لا شيء؛ تكال عليهم الضربات الجوية من فوق السموات وهم عزل لا حول لهم ولا قوة، سوى أنهم بشر، لم تستطع البشرية المماثلة في الطرف الآخر أن تستوعب وجودهم، فكان القرار أن يبادوا تحت سمع وبصر البشرية ذاتها بين الطرفين، حيث يقبرون في خنادق ممتدة بلا كرامة إنسانية، وبلا رحمة لمخلوق كان في يوم من الأيام له استحقاقات إنسانية عديدة، وفوق ذلك تأتي التقارير الكاذبة للحقائق والمكتوبة بأحبار باردة تحمل من المغالطات ما تحمل، حيث تأتي مجموعة القيود ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية -وتساعدهم في ذلك غياب الرسالة الإعلامية الصادقة- ليحول كل ذلك دون تقديم تقارير صادقة وموضوعية وشفافة عن هؤلاء البشر الذين غادروا هذه الحياة دون جرم ارتكبوه، سوى امتثالا لهذا الصلف البشري الذي يمارسه الطرف الآخر المستقوي بفعل المادة والهيمنة، تحت مبررات كثيرة معظمها غير صحيح، تسوقها السياسات المارقة في هذا العالم المخيف.

يتهم السلوك الشاذ عند بعض البشر، على أنه السبب في إشعال كل هذه الحرائق المدمرة للحياة البشرية، وأن هذا السلوك ليس موقوفا على فترة دون أخرى، أو بقعة جغرافية دون أخرى، وإنما أينما تهيأت له الظروف للنمو والاستمرار؛ عندها يصبح حاضرا في توظيف كل طاقاته المادية والمعنوية لتكريس الضرر على من حوله، ويشير التقرير الذي نشرته مجلة ناشيونال جيوجرافيك العربية، العدد يناير 2018م إلى: «أن جل الذين لديهم معدلات عالية من «القساوة وانعدام العاطفة» يعانون مشاكل سلوكية متكررة وشديدة؛ كإبداء العدوانية المتطرفة عند المشاحنات، أو تخريب الممتلكات العامة» ويشير المصدر نفسه إلى أن «هؤلاء ليست لديهم أي قدرة على تقدير أي شيء مثل التقمص الوجداني أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير» ولعل هذه الصورة تبدو أكثر وضوحا في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة مستمرة فتكرار العنف يولد ردة فعل عكسية لدى الأنفس، حيث تصبح أكثر عدوانية من تلك التي تعيش في بيئات آمنة؛ حيث تقل فيها نسبة العنف نسبيا، مع اختلاف الأسباب التي تدفع بهؤلاء وبهؤلاء إلى الشروع في ارتكاب العنف، وهو ما يشير إليه النص لذات المصدر: «ما الذي يجعل الناس أخيارًا أو أشرارًا؟ يقول بعض الباحثين إن الطبيعة التي جبلت عليها أدمغتنا قد تؤثر في مقدار تعاطفنا مع الآخرين والإحساس بمعاناتهم».

اختم هنا بمثل قديم تردده الألسنة بين فترة وأخرى؛ ونصه: «الخير في بطن الشر» فلكي تحقق الخير لا بد أن تدخل في معترك الشر، ولعل كلمة «الـشر» ليست مقصودة لذاتها وإنما لرمزيتها، وإن كانت هناك مغالاة في تسميتها، فلتحقيق الخير، وفق هذا المثل، لا بد من الأخذ بالأسباب، وهذه الأسباب تحتاج إلى كثير من الجهد الخلاق، فليس في الحياة ما يتحقق دون مقابل، وهذا المقابل هو الذي يحدد مستوى الجهد، المطلوب، فلكي تؤسس مستقبلًا معيشيًا رفيعًا؛ لا بد أن تسلك الطرق المشروعة المؤدية لتحقيق هذا الهدف النبيل، ويقينا أن ليس هناك طريق سهل ومريح، فالعقبات التي تعترض تحقيق أي هدف كثيرة وصعبة، وعصية في بعض الأحيان.

ولعل استحضار صورة الشر في المثل لإسقاطه على مجموع العقبات التي ترافق مسيرة تحقيق الخير فيما بعد على الساعي لتحقيق أي هدف سام ونبيل.