أعمدة

نوافـذ :جدلية الأسطورة بين الغراب والبومة

12 يناير 2018
12 يناير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تغلفت الذاكرة الشعبية لدى أغلب الشعوب، كما قرأت سريعا، بطائري الغراب والبومة بأنهما مأوى التشاؤم والتطير؛ والخوف والجزع؛ وتناسلت هذه الصورة القاتمة عن هذين الطائرين الجميلين منذ العصور القديمة وحتى اليوم في هذا العصر التنويري المتقدم، وإن كانت هناك محاولات خجولة، كما قرأت أيضا، من قبل بعض المهتمين؛ وذلك من خلال تكوين فرق تهتم بهذين الطائرين؛ من خلال الرعاية والتصنيف؛ أو بأحدهما بغية حلحلة هذه القناعة التشاؤمية عنهما، أو أحدهما، وأن المسألة ليست سوى توهم، لا يمكن قياس نتائجها على الواقع، ففي النهاية هما طائران كحال الطيور الأخرى لها بيئاتها الخاصة في السكنى، ولها أسلوب حياتها في العيش، ولها دورات زمنها في التكاثر، ولها طرقها وأساليبها في تأمين معيشتها اليومية، ولها نوعيتها الخاصة من الطعام، وفي الصورة عمومها هي تعيش بيننا، وهو مكون أصيل من مكونات البيئات التي نتقاسمها معها؛ حيث نتنفس نفس الهواء، ونشرب نفس الماء، ونأكل نفس الغذاء، وإن اختلفنا في بعض أنواع هذا الغذاء، فذلك لحكمة قدرها الله تعالى «وإن لله في خلقه شؤون». وقد تنافس هذان الطائران في جدلية الأساطير، وضربت حولهما الكثير من الخرافات والتنبؤات، ونسجت على غرار معيشتهما وأماكن وجودهما القصص الخيالية، حتى أصبحت مضرب المثل، وعنوان عريض لكل المظاهر السوداء القاتمة، وازدحمت المخيلة الشعبية بقصص وروايات ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ذلك قائم على شيء واحد فقط لكل منهما: الغراب للونه الأسود القاتم، والبومة لمعيشتها حيث تستوطن الأماكن المظلمة، ومتنفس نشاطها في الليل، ومع ذلك فيكفي الغراب شرفا أن جاء ذكره في القرآن الكريم: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه؛ قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين) – الآية (31) من سورة المائدة -.

كما أن للبومة قدرتها الكبيرة على المحافظة على التوازن البيئي – كما قرأت ثالثا – حيث تقضي على الجرذان والقوارض، دون الحاجة على استخدام المبيدات الحشرية والسموم الكيماوية، وفي ذلك حكمة بالغة من رب العزة والجلال في جعل هذه الكائنات الضعيفة حرزا مصينا لنا نحن البشر لحمايتنا من مسببات الأمراض وغيرها من الآفات التي لا نعلم حقيقتها؛ حيث تكون هذه الكائنات من الطيور والزواحف خط الدفاع الأول لهذه الحماية الحديدية، ان تجوز التسمية.

السؤال هنا قبل الولوج الى المقاربة الموضوعية لذات السياق: لماذا يعمد الإنسان إلى توظيف كل ما يمكن توظيفه للذهاب به إلى صنع الخوف، وإضفاء نوع من الرهاب على الحياة العامة على من حوله؟ لماذا يخاف الإنسان من النور، ويذهب عامدا متعمدا إلى الظلام، والى الأماكن المهجورة، وإلى المغارات، وإلى التشكيلات الصخرية ليصنع منها الأساطير والحكايات، ومنها ينطلق إلى توظيفها لمآربه الخاصة؟ والمقاربة هنا؛ أن الإنسان هو الذي يكيف هذه الأساطير وفق ظروفه التي يعيشها، وينسج عليها خيالاته البعيدة؛ وذلك إمعانا منه للزج بالآخر؛ أخيه الإنسان؛ في متون الضعف، والاستغلال والسيطرة، وإن كان ذلك على حساب أخيه الذي يتقاسم معه حلو الحياة ومرها، ومن هنا تتعزز صورة الأساطير في الحياة العامة للمجتمع، وإن كان الأمر في الأزمان المتأخرة – أزمان التنوير؛ كما يطلق عليها – بدأ أور هذه الأساطير والحكايات تأخذ طريقها بعيدا على اهتمامات الناس، حيث تبدأ الأجيال المتلاحقة في عمر الوعي إلى أخذ طرقها، وأساليب حياتها بعيدا عن هذا الغباء المتعمد، فالطرق أصبحت واضحة، والمسالك متسعة، وهناك ألف محطة للتغيير والبقاء في النور، ومن تزال تشغله الأسطورة والحكايات الخرافية ليتلمس منها عمر بقائه في الظلام زمنا آخر عليه أن يكون أكثر وعيا، فعصور الظلام التي اكتوت منها البشرية آلامها ومآسيها قد ذهبت إلى غير رجعة.