1214080
1214080
إشراقات

د. بوعجيلة : الدول الإسلامية مطالبة بترشيد برامجها الموجهة وإدراك حساسية الفترة التي نمرّ بها

11 يناير 2018
11 يناير 2018

الصراع الفكري قديم ورغم حدته لم ينتج واقعا دمويا كما ينتجه اليوم -

الإنسان غير الممتلئ معرفة يحلّل ويحرّم ويفسّق ويبدّع وهو على أريكته!!

حاوره : سالم بن حمدان الحسيني -

الصراع الفكري قديما رغم حدته لم ينتج واقعا دمويا كما ينتجه اليوم لأنه كان في مستوى الفكر فقط.. وما حدث عبر التاريخ من مجازر نفخت فيها السياسة، ولم يكن مرجعها عقائدي بحت، وعلى الشباب أن يبتعدوا عن منزع التمجيد المطلق، والسخط المطلق، وأن يرشّدوا واقعهم وأن لا يخلطوا بين السياسة والدين وبين المقدس وغير المقدس.. ذلك ما أكده د. فتحي بوعجيلة أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة بالجمهورية التونسية أثناء لقائنا معه في العاصمة تونس.

وأوضح قائلا: نرى اليوم الإنسان غير الممتلئ معرفة يحلل ويحرم ويفسق ويبدع بكل سهولة، وهو على أريكته، ويصدر الدعوات بكل جهل وبكل أمية دينية على أن كل الذين من حولهم كفار يجب قتلهم فيتلقفها بعض الشباب بنزعة جهادية على أنها طريقا إلى الجنة.. وأن الدول والهيئات إذا كانت غير واعية بهذا فلا نستغرب من شباب لا يقيم للنفس البشرية وزنا ويلهث وراء الحضارة الزائفة ويتجرد من مبادئه الدينية وثقافته الأصيلة.

ولتصحيح المسار يراهن بوعجيلة على خيارات الدول في الفصل في الأمور، مبينا أنه ينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن، فعلى الدول أن ترشّد برامجها الموجهة إلى الشباب، وعلى أصحاب القرار أن يدركوا حساسية هذه الفترة وصعوبة المرحلة التي نمر بها فلابد أن تكون نخبهم ومخططاتهم وبرامجهم مراهنة على تأطير شامل وكامل ومتبصّر للشباب بدءا بالطفولة الأولى، لأن الطفل يتعامل اليوم مع الهاتف الذكي والإنترنت ويتلقى بضاعة متنوعة من الداخل والخارج فلابد أن تتعاون الهيئات الدولية والإقليمية والمحلية على أن لا يدخل لشبابنا ولأطفالنا إلا ما يمكن يؤثر التأثير الإيجابي في حياتهم.. نقرأ المزيد في الجزء الثاني والأخير من هذا اللقاء مع الدكتور فتحي في الحوار التالي:

 

يسترسل الدكتور فتحي حديثه قائلا: اذكر أنني نشرت مقالا إبّان الثورة التونسية سنة 2011 حينما ظهرت هذه النزعات المتطرفة الجاهلة التي تقول بفقه بلا مذاهب وتقول ببدعية المذاهب العقدية، وقد حصلت لدينا - للأسف - في جوامعنا كثير من الخلافات وكثير من الصراعات، فكتبت مقالا عنونته بـ«الثالوث غير المقدّس» وقد أخذت العبارة من الأخوة المسيحيين الذين يؤمنون بالثالوث المقدس، وقصدت بهذا أن اليوم نرى هؤلاء الشباب المتدينين غير المؤطرين يقدّسون ثلاثة أشياء وهي: الجهل والحماسة الهوجاء والعنف.. مشيرا إلى أن هذا الثالوث نتج من الفراغ ونتج ربما من الحيطة المبالغ فيها، فحينما أوصّف ما قبل الثورة كانت هناك سياسة احتياطية مبالغ فيها كانت تحتاط ربما خوفا من النتائج وما تراه في العالم وربما هناك إملاءات خارجية.. يعني هناك حسابات كثيرة، المهم كان هناك نوع من الضغط المسلط على الحياة الدينية، ولما رفع هذا الكابوس شيئا ما فجأة نرى هذا الاندفاع، فعلى سبيل المثال قبل الثورة لا تتصور كم كان عندنا من نشاط ديني قرآني في جمعيات قرآنية خلال الفترة من 2005 إلى 2010 وهذه شهادة للتاريخ لكن من المفارقات انه بعد الثورة تراجع ذلكم النشاط الديني وذلك بسبب انه ربما كان يراها البعض من الممنوعات فرغب فيها، وكما هو معروف كل ممنوع مرغوب، لكن بعد الثورة أقفرت حلقات الدرس في الجوامع وهي كانت من المطالب التي تقدم إلى السلطات قبل الثورة ولكن في المقابل وقع انفجار واندفاع في شيء سلبي مضر وهو هذا الخلط حتى في فهم فقه العبادات وفي فهم فقه المعاملات إلى درجة أن البعض يظنها من الثوابت الدينية فرضها الساسة قبل الثورة، ولذلك أنا أرى أن العاصم من الكثير من التطرف والجنوح والعنف هو التثقيف والتأطير والتكوين، وربما إحكام الربط بين الدين والحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي كذلك فحينما نتقن إحكام الربط بين كل هذه المقومات سنهيئ أجيالا من الشباب الذين يكونون متشبعين بخير ما في تراثنا ويكونون كذلك واعين بلحظتهم التاريخية وواعين بما يطلب منهم وواعين بما تنتظره منهم بلادهم.

مغالطات تاريخية

وأشار إلى أن هناك من المغالطات التاريخية الكثير وللأسف بعض الشباب يرجعون إلى هذه المغالطات لأن الذين فتنوهم بنظرية السلف هم كذلك قدّسوا هذه المغالطات وأبقوا عليها لغرض واضح فهم ثمنوها ونشروها وأعادوا طبعها وإيصالها إلى الشباب بأرخص الأثمان.. مشيرا إلى أن أولئك الشباب الذي نراهم اليوم عنيفين دمويين هم من يسيرون على هذا المنهج فلابد من أن نقرأ تاريخنا قراءة جديدة ونحن اليوم لسنا قادرين على خوض سجالات خاضها من كان قبلنا ربما لظروف معينة.. مؤكدا أن الصراع الفكري الحاصل قديما رغم حدته في الحقيقة لم ينتج واقعا دمويا كما ينتجه اليوم لأن ذلك الصراع كان فقط في مستوى الفكر لكن إذا وجدت مجازر في التاريخ مرجعها عقائدي أو فقهي فاعلم أن السياسة قد نفخت فيها، وللأسف الشباب يتلقى اليوم تلك الصراعات من أفواه الشيوخ فيظن أن المسألة دينية، ولذلك فان المسؤولية ملقاة على عاتق أكثر من طرف أهمها: التربية في البيت وفي المدرسة وفي وسائل الإعلام وفي الشارع وما يكتب وما ينشر وكذلك الخطاب الديني في المنابر وفي الإذاعات والتلفزة وما ينشر في الصحف كل لابد أن يقوم بدوره، مبينا أن المسلمين اليوم عليهم أن يبتعدوا عن منزعين أراهما لا يفيدان كثيرا: منزع التمجيد المطلق، والسخط المطلق، لأن هناك خلطا بين المقدس وغير المقدس، حيث أن المقدس عندنا نحن المسلمين الخالق سبحانه والنبيين والقرآن الكريم وما عدا ذلك هم بشر آدميون يصيبون ويخطئون من حقنا أن نقرأ أعمالهم قراءة نقدية علمية حتى نفهم الأسباب والمسببات لأن من شأنه ذلك أن يعيننا على أن نرشّد واقعنا فلا نخلط بين السياسي والديني وبين الحلال والحرام وبين الدنيوي والديني وهذا ما نراه مناسبا.

الاختلاف قوة

وقال أبو عجيلة: أنا عاكف هذه الأيام على إتمام عمل رأيته يلبي شيئا مما في داخلي وقد عنونته بـ«العناوين في اختلافات الفقهاء والمفتين» من عصر الصحابة إلى وقتنا الحاضر قلت فيه: أن هذا الاختلاف غير المدرك حتى وان عرفنا بعضه فانه أوسع مما نتصور، هذا الاختلاف أنا أراه قوة وشرف هذه الأمة، ولذلك الباحث والمفكر المغربي عابر الجابري - رحمه الله – قال: إذا كنا نعتبر أن حضارة الإغريق هي حضارة فلسفة وكنا نرى اليوم أن حضارة الأوروبيين هي حضارة التقنية، فان حضارة المسلمين هي حضارة فقه، مبينا أن تلك الاختلافات الجزئية والكلية هي سر بقاء هذه الأمة ولعل من أهم ما يميزها تنوع مدارسها - نعم هناك مدارس ربما تطرفت وبالغت وزادت ونقصت ولكنها كانت وجها من وجوه الثقافة وكانت صفحة من صفحات تاريخنا - والعاقل والمثقف الواعي والفطن هو الذي يكون على علم بتلك التفاصيل حتى يعرف عمق ثقافته ثم لا يتعجل، ولذلك أنا دائما اذكر قولا لإمام فقيه تونسي مالكي ربما هو الذي أسس المذهب المالكي في تونس هو الإمام سحنون في القيروان حيث يقول: «أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما، يعرف بابا واحدا في العلم يظن أن العلم كله في ذلك الباب»، والإنسان غير الممتلئ معرفة تراه يحلل ويحرم ويدخل هذا إلى الجنة ويدخل هذا إلى النار ويفسق هذا ويبدع ذاك بكل سهولة، وهو على أريكته، وهذا ما نعانيه اليوم، حيث نعاني أناسا هكذا متكئين مرتاحين وينفخون نفخة واحدة في تراثنا انه لا يلزمنا ولسنا منه وليس منا، وفي المقابل هناك شباب بكل جهل وبكل أمية دينية يوهم نفسه بنزعة جهادية على أنها طريق إلى الجنة وأن كل الذين حوله كفار، ويجب قتلهم إلى غير ذلك من الأفكار، وهذا مما نعانيه اليوم.

وما إذا كانت تلك هي أزمة فكرية أم سياسية؟ أوضح الدكتور أبو عجيلة قائلا: بالطبع هي أزمة فكرية في فهم الدين، أما الدين - بقطع النظر عن الدين سواء كان سماويا أم وضعيا - فنحن دائما نلوم انفسنا لأننا أحيانا لا نفهم حتى الأديان الوضعية التي هي جملة من القيم وكثير من الناس يغفلون عن هذه القيم، وكثير من قيم الأديان الوضعية صنعت شعوبا وأمما أعطتها من المقومات قوة.

تصحيح المسار

وما إذا كان هناك من سبيل في تصحيح المسار في رأيه قال: نعم هناك سبل لتصحيح المسار، ونراهن في هذا على خيارات الدول، فالدولة لها الوزن الثقيل في هذا ولها الإسهام الفاعل في هذا المجال لأن الدولة هي التي تفصل في الأمور وينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن كما يقال ولذلك الدولة لابد أن ترشّد برامجها الموجهة إلى الشباب، وأصحاب القرار لابد أن يدركوا حساسية هذه الفترة وصعوبة المرحلة التي نمر بها فلابد أن تكون نخبهم ومخططاتهم وبرامجهم مراهنة على تأطير شامل وكامل ومتبصّر للشباب وأقصد بالشباب المراحل الأولى التي تبدأ من الطفولة، فلابد أن تكون تلك النخب على دراية بما يكون له اثر سلبي على أفكار الناشئة ولابد أن يكون هناك توجه رشيد في قراءة كل ما ينشر وكل ما يكتب فالطفل يتعامل اليوم مع الهاتف الذكي والأنترنت ويتلقى بضاعة متنوعة من الداخل والخارج فلابد أن تتعاون الهيئات الدولية والإقليمية والمحلية على أن لا يدخل لشبابنا ولأطفالنا إلا ما يمكن أن يؤثر التأثير الإيجابي في حياتهم وكما يقال: إن معظم النار من مستصغر الشرر، فلا يمكن لي أن أدرس التربية الإسلامية فأرسل فيها كما يقال حمما فكرية وقنابل موقوتة، ولا يمكن أن اترك إماما يلقي خطبة هكذا ولا يكون مسؤولا عن كلامه، ولا يمكن أن أترك معلما يدرس الناشئة فلا أراقبه فيما يقول وفيما يقدم، وكذلك البرامج الإعلامية حتى الوسائل الترفيهية وألعاب الأطفال تشجع ربما على الثقافة القتالية خصوصا في أفلام الكرتون، فهذا الطفل يتشرب ويتشبع بثقافة العنف والقتل والانتقام فإذا كانت الدول والهيئات غير واعية بهذا فسوف ندفع الثمن غاليا وما دمنا نائمين عن إعادة الطرح وإعادة التصور فلا نستغرب من شباب يقذف بنفسه في البحر انتحارا ولا يقيم للنفس البشرية وزنا ويلهث وراء الحضارة الزائفة ويتجرد من مبادئه الدينية وثقافته الأصيلة ومن ثوابت راقية وجميلة.

وأضاف: نحن نعاني اليوم من التهور في سلوك بعض المنتسبين إلى الدين، ومن مظاهر ذلك الجدال الممقوت والمخزي، والمواجهات الحادة، وبث البلبلة والفتنة، وغير ذلك من الممارسات غير الأخلاقية، ومن نتاج ذلك العنفُ اللفظي والجسدي والتكفير والتحريض.. مبينا أن ذلك العنف يصل ذروته حين يُرفَع السلاح وهو الأخطر، ووراء كل ذلك الفتاوى المتشددة والفكر المتصلب ومع كل ذلك ينعدم عند هؤلاء الإيمانُ بالحريات الشخصية والإبداعية المنضبطة وهو لا شك انه مخالف لسماحة ديننا الإسلامي الحنيف ومُنَفّرٌ منه ومُشوهٌ لصورته الناصعة.