أفكار وآراء

لماذا كان 2017 أفضل عام في تاريخ الإنسانية؟

10 يناير 2018
10 يناير 2018

نيكولاس كريستوف -

نيويورك تايمز - ترجمة أحمد شافعي -

نعرف جميعا أن العالم في طريقه إلى الجحيم. في ضوء تزايد مخاطرة الدخول في حرب نووية مع كوريا الشمالية، والشلل الذي أصيب به الكونجرس، والحروب في اليمن وسوريا، والأعمال الوحشية في ميانمار، والرئيس الذي يغضب كثيرا ، قد تظنون أن 2017 كان أسوأ عام على الإطلاق.

ولكنكم تخطئون في ظنكم. ففي واقع الأمر ربما كان 2017 أفضل عام في تاريخ الإنسانية الطويل. فقد شهد هذا العالم من الجياع والأميين والفقراء عددا أصغر مما شهده العالم في أي وقت مضى عليه من تاريخه. كما تراجعت أيضا نسبة الأطفال الذين ماتوا أصغر من ذي قبل، ونسبة من شوههم الجذام، أو أصابهم العمى بسبب الأمراض المختلفة.

إننا بحاجة إلى زاوية للنظر ونحن نشاهد السيرك القائم في واشنطن واضعين أيدينا على أفواهنا من فرط الرعب. نحن الصحفيين دأبنا التركيز على الأخبار السيئة ـ فنحن الذين يعنينا تحطم الطائرات لا إقلاعها الناجح ـ ولكن خلفية مؤلفة من التقدم العالمي قد تكون أهم تطور في حياتنا.

يتناقص كل يوم عدد من يعيشون في العالم كله في فقر مدقع (بدخل يقل عن دولارين في اليوم) بنحو 270 ألف شخص وفقا لحسابات ماكس روزر أستاذ الاقتصاد في جامعة أكسفورد الذي يدير موقعا على الإنترنت اسمه (Our World in Data). كل يوم يحصل 325 ألف شخص في العالم على توصيلات الكهرباء. و300 ألف شخص إضافي يحصلون على توصيلات المياه النظيفة.

غالبا ما يفترض القراء أنني بسبب تغطيتي للحروب والفقر وانتهاكات حقوق الإنسان، لا بد ان أكون سوداويا. في حين أنني شخص يميل إلى البهجة بسبب ما شهدته من تغيرات كبرى.

ففي زمن حديث لا يتجاوز ستينات القرن العشرين، كان أغلبية البشر أميين يعيشون في فقر مدقع. الآن أقل من 15% هم الأميون، وأقل من 10% هم الذين يعيشون الفقر المدقع. وفي غضون 15 سنة ستكون الأمية والفقر المدقع ماضيا تقريبا. فها هما بعد آلاف الأجيال يختفيان أمام أعيننا.

منذ عام 1990 وحده، نجا من الموت أكثر من 100 مليون طفل بفضل التطعيمات وأدوية الإسهال والتشجيع على الرضاعة الطبيعية وخطوات أخرى شديدة البساطة.

يقوم ستيفن بينكر أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد باستكشاف هذه المكتسبات في كتاب رائع يصدر خلال أيام بعنوان «التنوير الآن Enlightenment Now» ويرصد فيه التقدم في نطاق عريض من المجالات من الصحة إلى الحروب، ومن البيئة إلى السعادة، ومن حقوق الإنسان إلى نوعية الحياة. يكتب في كتابه أن «المثقفين يكرهون التقدم» مشيرا إلى العزوف عن الاعتراف بالمكتسبات، وأنا أعرف أنه من غير المريح إبراز التقدم في وقت الأخطار العالمية. ولكن هذا التشاؤم يؤدي إلى نتائج عكسية إذ إنه ببساطة يزيد من قوة قوى التخلف.

لقد أتى الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض على صهوة هذه السوداوية. ففكرة «إعادة أمريكا إلى عظمتها» تنم عن حنين إلى فردوس مفقود. لكن أهو حق؟ لو أن هذا الفردوس كان في خمسينات القرن الماضي، فقد كانت الولايات المتحدة تعاني إذ ذاك أيضا من التمييز العنصري، وشلل الأطفال، ومنع الزواج المختلط بين الأعراق المختلفة والمثلية الجنسية وتحديد النسل. كان أغلب العالم يعيش في ظل حكم دكتاتوري، وثلثا الآباء كان يموت لهم طفل قبل بلوغ الخامسة، وكان كذلك عصر اضطراب نووي، وتلوث، وحروب متواترة، وحدود خانقة مفروضة على النساء وأسوأ المجاعات في التاريخ.

ففي أي لحظة من التاريخ تفضلون أن تعيشوا؟

لقد قال الروائي «سكوت فيتزجيرالد» إن اختبار الذكاء رفيع المستوى يتمثل في المقدرة على الاحتفاظ بفكرتين متناقضتين في وقت واحد. وأقترح عليكم هاتين: العالم يحرز تقدما مهما، لكنه يواجه أيضا أخطارا مهلكة. ينبغي أن يعيننا الإيمان بالفكرة الأولى على التصرف لمواجهة الفكرة الثانية.

ما من شك في أن هذا المقال قد يبدو غريبا لكم. لأنكم لا تقرؤون في هذه المساحة المخصصة لكتاب الرأي إلا الشكاوى من هذا الأمر أو ذاك، وها أنا ذا أقول إن الحياة عظيمة. ذلك ببساطة لأننا في أغلب الوقت نركز - مصبين في تركيزنا - على الأمور التي تتدهور، ولكن من المهم أيضا أن يتراجع المرء كل حين. إن الأستاذ « روزر» يلاحظ أنه لم ينشر قط عنوان نصه أن «الثورة الصناعة قائمة» برغم أن موضوع هذا العنوان هو أهم خبر فعليا منذ 250 عاما.

لقد تلقيت زيارة قبل أيام من امرأة أفغانية من قلب أرض طالبان. أرغمت هذه المرأة على الخروج من المدرسة الابتدائية. ولكن بيتها كان فيه إنترنت، فعلمت نفسها اللغة الإنجليزية، ثم الجبر والتفاضل والتكامل، بمعاونة من مواقع أكاديمية مثل خان وكورسيرا وإيديكس. وبدون أن تخرج من بيتها واصلت دراستها فدرست الفيزياء ونظرية الوتر، وجاهدت في فهم كانط وكانت تقرأ نيويورك تايمز على الهامش، وبدأت في مراسلة عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي المرموق لورنس كراوس.

كتبت عن هذه المرأة في عام 2016، وبمساعدة من الأستاذ كراوس وقرائي، هي الآن تدرس في جامعة ولاية أريزونا مع الطلبة الجامعيين. وهي تذكرنا أن الموهبة متاحة للجميع، بينما الفرص ليست كذلك. ومعنى التقدم العالمي هو أن تجد هذه المواهب مجالا للازدهار.

طبعا العالم فوضى مخيفة، وأنا خائف بصفة محددة من مخاطرة الحرب مع كوريا الشمالية. لكنني مؤمن أيضا بضرورة التراجع قليلا ولو مرة كل عام لأرصد دلائل التقدم، تماما كما كتبت في العام الماضي مقالا عما يجعل من 2016 أفضل عام في تاريخ البشرية، ومثلما أرجو أن أفعل بعد عام من اليوم بمقال عن 2018. إن أهم ما يجري الآن ليس تغريدة من ترامب، بل إنقاذ حياة الأطفال والمكتسبات العظيمة في الصحة والتعليم ورفاهية الإنسان.

والآن أعدكم أن أشد شعري يوما بعد يوم على مدار العام الحالي باكيا صارخا في غضب رافضا كل الأخطاء التي تقع من حولنا. إنما اليوم، لا يجب أن نغفل عما يجري من أمور جيدة في العالم.