أفكار وآراء

أن تعتذر.. أن تمتلك شجاعة الموقف

07 يناير 2018
07 يناير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

إنه حق «أن تعتذر.. أن تمتلك شجاعة الموقف» فهذه من الحالات المستعصية على النفس المجبولة دائما على الكبرياء، وعلى الانتصار للذات، وعلى القناعة بأحقية المطلب، لأن من يعتذر معناه أنه يضحي، وأنه يخسر في بعض الحالات، وإن كانت خسارة من ورائها ربح كبير، حيث يثمن المجتمع هذه المواقف، ويعدها انتصارًا حقيقيًا على الذات الواهبة نفسها لنفسها فقط، وليس للجميع.

نعيش -كبشر- حالات من الضعف تسقطنا في مطبات ارتكاب الحماقات؛ وهي الأفعال التي لا نرتضيها بأي شكل من الأشكال؛ سواء في حالاتنا العاقلة، أو في حالات الجنون التي تنتابنا عندما نفتقد توازن المحافظة على تصرفاتنا الغبية في بعض الأحيان، وتخرج بنا من شخصياتنا الكلية المنظور إليها بالكثير من التقدير والاحترام في لحظات كثيرة؛ إلى تقييم يعود بنا إلى بدايات التكٌون الأولى، وهو التكون الذي يبحث عن خبرات، وعن تجارب مقرونة بالخطأ والصواب، وعن حالات من البحث والتقصي، للوصول إلى مستوى معين من الحكمة والتعقل، والقدرة الكبيرة على التفريق بين الخطأ والصواب، وإن كانت هذه المرحلة ليست موقوفة على مرحلة زمنية من عمر الإنسان، وإنما تظل حالة تراكمية تستمر مع الإنسان منذ البدايات الأولى من العمر؛ إلى آخر يوم يعيش في هذه الحياة، ولذلك ترافقنا حالات الاعتذار في كل فترات نمو حياتنا الممتدة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نكون بعيدين عن هذه الثيمة «الاعتذار» في مناخات حياتنا اليومية، لليقين الموجود عند كل منا أن أفعال الإنسان وسلوكياته اليومية لا يمكن أن تكون سليمة دائما، ولا يمكن أن تنقى عن المساس بالآخرين، ولا يمكن أن تجنبنا الإساءة إلى الآخر، بقصد؛ في بعض الأحيان؛ وبغير قصد في أحايين كثيرة، وما بين الخطأ والصواب في السلوك وتشابك العلاقات القائمة بين الناس يستمر الاعتذار ويجب أن يستمر كذلك حتى يكون الجميع على كلمة سواء من الود والوفاق، ولنا في قول الشاعر مصطفى عكرمة من سوريا شيئا من الحكمة عندما يقول:

«عذرًا إليك وأي عذر ينفع: ما دام ركب الموت فينا يسرع» ويقول الشاعر أحمد مطر وهو يخاطب القدس: «يا قدس معذرة ومثلي ليس يعتذر: ما لي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا».

في هذه المرحلة الممتدة من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت -حيث مغادرة الحياة- هناك الكثير من الممارسات الخاطئة التي نقوم بها، بقصد وبغير قصد، تجاه الآخرين من حولنا حيث نحتاج لأن نسل سيف الاعتذار أبدا، لأن العلاقة مع الآخر، كما هو معروف، علاقة جدلية لا يتوقف الحوار فيها، وفيها ما فيها من مواقف الخطأ والصواب، ومن مواقف الرضا والقنوط، ومن مواقف السرور والحزن، ومن مواقف القبول والرفض، وفي مواقف الصراحة والمراوغة، وفي مواقف الصدق والكذب، فكل هذه التوليفة من المتناقضات ينتج عنها ردات فعل من كلا الطرفين؛ وفيها ما فيها من الانتصار للذات؛ وفيها ما فيها من مفهوم «تأخذه العزة بالإثم» وفيها من المواجهة والاستعداد للانتصار، لأن الهزيمة في مثل هذه المواقف ترتقي إلى مستوى الـ«عيب»، وقد يوسم الطرف المهزوم بالضعف وربما بالجبن، وبالتالي من تتملكه القدرة على الاعتذار فهو حقا يتلبس شجاعة الموقف بكل اقتدار، فردات الفعل هذه ليس يسيرا استيعابها بالقدر الذي يحافظ على ما كان عليه الوضع كما كان سابقا، فهناك «من يكيل بمكيالين» كما يقال في المثل، وتزهر هذه الصورة أكثر وأكثر في المجتمعات التقليدية كمجتمع القرية على وجه الخصوص، حيث القربى والتماس عن قرب، ولأن النفوس محشوة بخطأ الآخر، وتوظيف هذا الخطأ فيما لا يحمد عقباه في بعض الأحيان، إلا إذا تدارك صاحب القلب الشجاع، وصرخ بأعلى صوته: «أنا المخطئ، وأنا أعتذر».

تأتي المكابرة على المواقف، حتى وإن كانت حقيقته خاطئة، انعكاسا لصور نمطية عديدة، تكون قد تكونت عبر تجارب سابقة تختزنها الذاكرة عن فلان الذي أخطأ، وبالتالي عندما تأتي لحظة الاعتذار وتصفية النوايا، للبدء في مرحلة أخرى من التقارب والتواد، تسترسل الذاكرة مجموعة الصور النمطية التي كانت في يوم من الأيام حاضرة، ولها موضع قدم في تعاملات قائمة بين الطرفين، ويشتد هذا الحضور اكثر في علاقات النسب والقربى، ومعنى ذلك كلما تباعدت العلاقات عن مركزية النسب كلما كان للتسامح مساحته الأوسع، على عكس ما يعتقد، وهذه لحالها إشكالية موضوعية في العلاقات القائمة بين الأطراف المختلفة، وفي كل أحوال هذه العلاقات؛ سواء تلك القريبة في علاقات النسب، او تلك القائمة بين الأصدقاء والمعارف، يحمُل العقل أكثر من العاطفة في شأن تصفية النوايا، وإعادة الأطراف إلى ساحة الحوار، فما بين العاطفة والعقل هناك أكثر من فرصة للقاء وللاعتذار، حيث تكون المراوحة بين الرحمة والمنطق، ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما لترجيح كفة الآخر، فمشكلة العلاقات الاجتماعية أنها شديدة الحساسية، فلا هي مع العقل أنجع، ولا هي مع العاطفة أسلم.

وقد ثمن الله عز وجل هذه الصورة في أجل مواقفها خاصة عندما تقع سقطاتها بين ركني الأسرة الواحدة، وقد جاء النص صريحا في سورة النساء - الآية (35) - في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) فوجود هذين الحكمين من كلا الطرفين لتقريب وجهات نظر الخلاف والوصول إلى «كلمة سواء» هو عنوان الرحمة وقمة المنطق، حتى لا تنحاز الأطراف إلى طرف واحد، وحتى يظل هناك حوار، وهناك مجادلة بالتي هي أحسن، وهناك عقلاء، فالشطط مقرون بتصرفات سلوكياتنا في كل مناخات الحياة، ولأن الفردية لا يمكن أن تستوعب الصورة الماثلة بشموليتها، وهنا ذات الفهم المندرج تحت مظلة الوجاهات الاجتماعية، وأثرها في تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، وتخفيف العبء النفسي المحتقن عند كلا الطرفين، حيث شكلت الوجاهات الاجتماعية عبر مراحل التاريخ الاجتماعي الوجه المشرق للم الشمل، وعودة الحياة الاجتماعية بين الأفراد إلى سابق عهدها، فالفردية تظل بصورة دائمة منتصرة لذاتها، وليس يسيرا، بل يصبح في حكم المستحيل، في بعض المواقف أن يكون للفهم الفردي قوته وأثره وقدرته على تجاوز مظان الإخفاقات التي تحدث بين الطرفين، لتصلب المواقف إلى درجة رفع الضغط عند جميع الأطراف، والسبب أن شخصا ما من مجموعة الحاضرين لا يتزحزح عن موقفه، ولا يتيح فرصة توغل الرأي الآخر لحلحلة الموقف في مراحل متقدمة من الحوار، حيث تنتصر الذات هنا إلى اقصى حدودها الممكنة، وهذه من العيوب المعروفة في حالة أن لا يكون هناك أطراف محايدة لحل النزاع.

تشكل اليوم، وخاصة هنا في السلطنة، «لجان التوفيق والمصالحة» التي تنظم تحت مسؤولية وزارة العدل، أحد المناخات المهمة في سبيل التوصل إلى اتفاقات مبرمة بين مختلف الأطراف ، في خلاف ما ، من خلال تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، وهو توجه مؤسسي مأخوذ من قيم المجتمع. وفي حوار أجريته مع معالي الشيخ عبدالملك بن عبدالله الخليلي وزير العدل لمجلة «شرفات المجلس» التي يصدرها مجلس الدولة، سألت معالي الوزير عن الدور الذي تضطلع به لجان التوفيق المصالحة في هذا الشأن، فرد معاليه بالقول: -هنا جزء من الإجابة- : «السلطنة أخذت بهذا النظام؛ لأنه من الممارسات الحميدة الراسخة في نظام الحياة في المجتمع العماني عبر التاريخ، وله جدواه المعهودة في حل الكثير من الخلافات التي تنشب بين الناس.

والسمة التي ميَّزت هذه الممارسة الاجتماعية أن الوزارة أطَّرَتها بإطار قانوني باستصدارها قانون التوفيق والمصالحة. ولهذا فإن مخرجاتها مكفولة بالقانون فسند الصلح الذي يصدر بتراضي الأطراف عن طريق لجان التوفيق والمصالحة يكون واجب التنفيذ وله قوة حكم المحكمة ، بموجب المادة الخامسة عشر من قانون التوفيق والمصالحة ، الذي نصَّ على أن محضر التسوية بعد توقيعه من أطراف النزاع ومن رئيس اللجنة ومن حضر من الأعضاء يعتبر سنداً تنفيذياً يجري تنفيذه بالطريقة التي تنفذ بها الأحكام القضائية النهائية. كما نصت المادة ذاتها على أنه في حالة عدم تنفيذ ما تضمنه الصلح اختياراً يجري تنفيذه جبرًا، وفقًا لأحكام قانون الإجراءات المدنية والتجارية. ومن هذه الناحية استمدت سندات الصلح قوتها. وربما لهذا السبب أطلق البعض على هذا النوع من أنظمة تسوية الخلافات بالقضاء الشعبي خاصة أن كثيرا من الدول أصبحت تأخذ به» انتهى النص.

اختم هنا بالقول: انه حق «أن تعتذر .. أن تمتلك شجاعة الموقف» فهذه من الحالات المستعصية على النفس المجبولة دائما على الكبرياء، وعلى الانتصار للذات، وعلى القناعة بأحقية المطلب، لأن من يعتذر معناه أنه يضحي، وأنه يخسر في بعض الحالات، وإن كانت خسارة من ورائها ربح كبير، حيث يثمن المجتمع هذه المواقف، ويعدها انتصارا حقيقيا على الذات الواهبة نفسها لنفسها فقط، وليس للجميع، والإنسان فهما بلغ به السمو، والاكتفاء عن الآخر، يظل في حاجة إلى هذا الآخر، قرب أو بعد، في أي علاقة مشروعة يقرها المجتمع، فالفردية مهلكة ومتعبة، وكما جاء في النص: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».