1214835
1214835
المنوعات

المدينة العربية والتحوّل الديمقراطي

06 يناير 2018
06 يناير 2018

إسلام حجازي -

الحقّ في الفراغ العامّ «Right to Public Space»، بالمفهوم البسيط والمُباشر، هو حقّ المُواطنين في الوصول إلى المساحات العامّة من المباني، والشوارع، والمَيادين، والحدائق وغيرها، بشكلٍ مفتوح وآمن ونظيف، باعتبار أنّ هذه المساحات تشكِّل مجالاً للمداولات، والتبادل الثقافيّ، والتماسك الاجتماعيّ بين الناس، بغضّ النّظر عن العمر أو الجنس أو العرق أو الدخل أو الطبقة أو الدّين أو الانتماء السياسيّ.

تُعَدّ مُمارَسة المواطن لحقّه في الفراغ العامّ أحد أكثر الحقوق والعناصر الحضارية التي تتجلّى فيها العلاقات الاجتماعية المركّبة بين الإنسان، والمكان، والزمان، وعادةً ما يتمّ النظر إلى الفراغات العامّة باعتبارها تمثّل النوافذ الأمامية التي تعكس تفاعلات هويّة البناء الاجتماعي لأيّ مدينة وخصائصه. وقد ارتبط ظهور هذا الحقّ منذ نشأته في سياقات الدول الغربية المتقدّمة، بطرحه كمجالٍ حيويّ وضروريّ لترسيخ المُمارسة والثقافة الديمقراطية في داخل المدن، فمن المنطقي أن تكون المدن أكثر ديمقراطية، وأن يشعر مواطنوها بدرجة أعلى من درجات الانتماء مع توافر فراغات ومساحات عامّة متحرّرة من سلطة الدولة، يكونون شركاء في ملكيّتها، وتخطيطها، واستغلالها، بصورة تضمن تحقيق احتياجاتهم الاجتماعية، وتخدم مصالح مجتمعاتهم العامّة.

الصراع على الفراغات العامّة

وبخلاف ذلك، نشهد سعي السلطة السياسية في عدد من دول العالَم الثالث إلى فرض هَيمنتها على الفراغات العامّة وإدارتها من منظورٍ أمنيّ بحت، لا يأخذ في الاعتبار رغبات المواطنين ومصالحهم؛ ويمكن القول إنّ هذه السلطة تحاول تأميم الفراغات العامّة بشكل كلّي لصالح مؤسّسات الدولة وأجهزتها، ورموزها السياسية في كثير من الأحيان، أو حتّى خصخصتها وتركها في قبضة مجموعة من رجال الأعمال من أصحاب السياسات النيوليبرالية، الذين يتسابقون لإعادة تشكيل الفراغات العامّة لخدمة مصالحهم الرأسمالية المتوحّشة. ولعلّ من شأن ذلك أن يؤثّر ليس على حقوق المواطنين الأصيلة في الوصول إلى هذه الفراغات العامّة واستخدامها فحسب، وإنّما سوف يؤدّي إلى عرقلة كلّ جهود المجتمع المدني ومبادراته من أجل التحوّل الديمقراطي السلمي، بسبب تنامي ظاهرة اللّامساواة المكانية، وزيادة الإحساس بالاغتراب والعزلة وعدم الانتماء بين الجماهير.

وانطلاقاً من هذه المقدّمات، يبدو أنّ عدداً كبيراً من المُدن العربية قد تأسَّس في ظلّ غياب فلسفة عمرانية واضحة ومتكاملة للتعامل مع الفراغات العامّة، باعتبارها واحدة من أهمّ مداخل التنمية الحضرية المُستخدَمة لتطوير جودة حياة المواطنين على المستويات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية كافّة؛ حيث تعاني أغلب مُدننا العربية اليوم من نقصٍ حادّ في الفراغات والمساحات العامّة المتنوّعة من الأساس، أو تتواجد هذه الفراغات والمساحات العامّة بنسبة صغيرة جدّاً لا تتجاوز أكثر من 2% من إجمالي مساحة بعض المُدن العربية الأخرى، مع تعطيلها عن القيام بوظائفها المجتمعية والتشاركية الرئيسية الخاصّة بتحقيق التواصل بين الأفراد، واستبدالها بالمنطق العمراني الحداثي، الذي يتعامل مع الفراغات والمساحات العامّة باعتبارها مجرّد أمكنة لترويج السلع والخدمات للجماهير. تلك الجماهير التي تحوّلت، بالتبعيّة، إلى مجرّد أرقام استهلاكية في معادلات التزاوج النشطة بين السلطة، ورأس المال. فأصبحت المدينة العربية وفراغاتها العامّة عبارة عن مجرّد مكان صديق لحركة السيارات وليس الإنسان، يخدم القادمين إليه من السيّاح الأجانب، ويسعى إلى تحقيق المزيد من المكاسب النفعيّة البحتة لأصحاب رأس المال في الداخل والخارج، أكثر من كونها- أي المدينة العربية وفراغاتها العامّة- مكاناً للتفاعل والتماسك الاجتماعي، يعبّر عن ذكريات قاطنيه من السكّان الأصليّين واحتياجاتهم.

إنّ المتابع لتطوّر الفراغات العامّة المجسَّدة في مُدننا العربية وعلاقاتها بعمليّة التحوّل الديمقراطي خلال السنوات القليلة الماضية، يجد أنّها -كانت وما زالت- تعبِّر عن مساحات اجتماعية دائمة للصراع بين السلطة السياسية والمواطنين حول ثلاثية: الانفتاح، والملكية، والنفاذية. وعلى ما يبدو أنّ هذه المسألة، قد تعمّقت بشدّة وبلغت ذروتها مع اندلاع شرارة ثورات «الربيع العربي» في عدد ليس بقليل من المُدن العربية، حيث خرجت ملايين الجماهير إلى الشوارع والميادين العامّة في تحدٍّ واضح لسلطة الدولة، وذلك في محاولة من هذه الجماهير لتكوين هويّة جماعية وبلْورة أهدافٍ مُشترَكة، تساعدها على فعل التحرّر، وتمكّنها من استرداد ملكيّتها للفراغات والمساحات العامّة. وعلى الرّغم من نجاح هذه الحشود الجماهيرية في تحقيق مجموعة من المكاسب الجزئية واللّحظية التي تدعم حقوقها في الملكية «Ownership»والنفاذ «Accessibility» إلى عدد كبير من الفراغات العامّة، يمكن القول إنّ أغلب الجماهير العربية الثائرة لم تنجح في بلورة رؤية واضحة لقيمة الفراغات العامّة وأهمّيتها في نضالها المستمرّ من أجل الحرّية، كمنتدى مفتوح مهمّ وضروري لحدوث التفاعل والاختلاط بين ناس من مختلف الطبقات، والأجناس، والأعمار، والأديان، والمذاهب، والثقافات، وكأرضٍ خصبة لتحقيق الاحترام المُتبادَل، والتضامن السياسي، والتسامح، والتماسك الاجتماعي، والحوار المدنيّ.

والحقيقة أنّ هذا القصور الإدراكي، قد أدّى إلى تسهيل مهمّة سلطة الدولة في غلق درجة الانفتاح «Openness» النسبي الذي حدث أثناء الثورات والانتفاضات الشعبية مرّة أخرى، وساعدها على إعادة إنتاج الفراغات العامّة من أجل الهَيمنة وليس التمثيل، بخاصّة في ظلّ وجود رغبات مستمرّة من جانب بعض التحالفات النخبوية والمجتمعية القديمة ذات العلاقات الزبائنية لبقاء الدولة فوق المجتمع، والعودة من جديد إلى نمط الفراغ العامّ المجرّد «Abstract Public Space» الذي يعبِّر عن شكل اجتماعي معيّن للمدينة وفراغاتها العامّة، ويضمن للدولة تحقيق السيطرة المركزية، والقدرة على التدخّل في أشكال الحياة اليومية للمواطِن وتفاصيلها كافّة. فعودة الجماهير إلى نمط السياسة الرمزية، الذي يستبدل الفراغات المادّية التقليدية بمجموعة أخرى من الفراغات الافتراضية مثل: أجهزة التلفاز، والصحف، والإنترنت، كانت هدفاً مؤقّتاً لكثير من حكومات ما بعد ثورات الربيع العربي، لمُحاصَرة الفعل الاحتجاجي المُنتشِر في قلب الشوارع والميادين العامّة، ولإعطاء نفسها فرصة جديدة لوضع مزيد من القيود والقواعد التنظيمية الصارمة لإدارة الفراغات العامّة من خلال التشريعات القانونية، وسياسات التخطيط العمراني، والمراقبة، وفرض السيطرة الأمنية.

حقّ المواطِن في المدينة

إنّ وصول المُواطِن العربي إلى حقّه في المدينة «The Right to The City»، كما طوَّره عالِم الاجتماع والفيلسوف «هنري لوفيفر» في كتابه الشهير «الحقّ في المدينة Le Droit à la ville «(1968)، وأكّد من خلاله على أهمّية مُشارَكة القاطنين في تصميم «الحيّز المديني» وبلْورته كمساحة ذات دَور مباشر في تشكيل كلّ تفاصيل حيواتهم فيها، يجب أن يكون الفلسفة الرئيسية الحاكِمة لأيّ فعل أو حركة اجتماعية تسعى إلى الحُكم الديمقراطي في نطاق مُدننا العربية؛ فالعمل السياسي يحتاج في النهاية إلى أماكن متحرّرة من سلطة الدولة، تُمكِّن الأفراد من الظهور والتفاعل مع بعضهم البعض. فحصول الأفراد على مُواطَنتهم باعتبارهم يمثّلون «العامّة» ذات التأثير على مسار عمليّات الفعل السياسي، لا يُمكن أن يحدث إلّا عندما يكون هؤلاء الأفراد قادرين على الظهور في الأماكن والمساحات العامّة داخل حيّزهم المديني، والتعبير عن أنفسهم وعن آرائهم فيها بحرّية كاملة. بمعنى آخر، يمكن القول إنّ نجاح أو فشل أيّ برنامج للتحوّل الديمقراطي أو مخطّط ثوري مستقبلي في المُدن العربية، سوف يكون مرهوناً إلى حدّ بعيد بتأكيد مضمونه على فكرة خلق الفراغات العامّة الجديدة و/‏‏أو إعادة تحرير المتواجد منها بالفعل تحت سيطرة الدولة، ومن دون الوصول إلى الوعي بأهمّية ذلك، سوف تستمرّ عمليّات إعادة إنتاج الحيّز المديني من أجل الهَيمنة وليس التمثيل، وستظلّ الفراغات العامّة في مُدننا العربية عبارة عن أشباح مجرَّدة، تعكس تفاصيل المُنتج الاجتماعي الذي تفضّله سلطة الدولة وتسعى إليه، والذي يضمن لها تحقيق القوّة المركزية والقدرة على قهر الأفراد في محيط بائس من المُواطَنة المنقوصة وخائبة الأمل.

* مدرّس مُساعد في كلّية الاقتصاد والعلوم السياسيّة بجامعة القاهرة