Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

زوجـة الكاتب.. نعمـة تدفع للمجـد أو نقـمة تقـود إلى الفلسـفة!

03 يناير 2018
03 يناير 2018

قرينتا «دستويفسكي» و«نجيب محفوظ» أنموذجان للحب والتضحية -

كتب - الشربيني عاشور -

ذات يوم قال الكاتب الروسي «ليو تولستوي»: «إن معظم كتاب روسيا بحاجة إلى زوجة مثل زوجة دستويفسكي».

كلمة كهذه يمكن أن يراها البعض مجاملة من أديب روسيا الكبير لزوجة كاتب زميل. إلا أن معرفة حياة زوجة دستويفسكي التي خصها تولستوي بمقولته، تؤكد أن الأمر لا يحتمل أي شبهة للمجاملة. إنها حقيقة. حقيقة دعمها دستويفسكي نفسه بقوله لزوجته: «أنتِ المرأة الوحيدة التي تفهمني». كما حكت هي في مذكراتها التي ترجمها أنور محمد إبراهيم، وصدرت عن المركز القومي للترجمة في مصر.

إن هذا الاستثناء من زوج بحجم دستويفسكي لزوجته يعني الكثير، بالنسبة لمكانة هذه الزوجة عند زوجها في الواقع، فالرجل كان متزوجا من قبل، كما كانت له شطحاته الغرامية بنساء أخريات.

لكن كلمة «تولستوي» وإن كانت تحمل امتداحا لزوجة دستويفسكي خاصة، فإنها تشير إلى أهمية الزوجة في حياة الكاتب بصفة عامة. وقد كان تولستوي نفسه على علاقة ملتبسة بزوجته، دائمة الشجار معه، حتى أنه فر منها في أواخر أيامه، منفذا تهديده لها بترك البيت، ليموت وحيدا في محطة قطار!

ويحمل تاريخ الأدب العربي والعالمي سيرًا لزوجات كتاب كبار كان لهن دور عظيم في حياة أزواجهن، فقد نجحن في إدارة حياتهن الزوجية بكفاءة وصبر وتضحية ساهمت في تهيئة النجاح الذي حصده الزوج الكاتب والمكانة الأدبية الرفيعة التي بلغها. ومن هؤلاء «عطية الله إبراهيم» زوجة نجيب محفوظ. و«أنا جريجوريفنا دستويفسكايا» الزوجة الثانية لدستويفسكي التي قصدها تولستوي بمقولته، وهي الشابة التي أحبت دستويفسكي، ووافقت على الزواج منه على الرغم من فارق العمر الكبير بينهما.

كانت «أنا» في العشرين من عمرها عندما تزوجها دوستويفسكي، وهو في الرابعة والأربعين من عمره. أي أن فارق العمر بينهما أربع وعشرون سنة. لكنه الحب الذي يقرب المسافات، ولا يعترف بالمشكلات، ويقفز فوق كل العقبات إذا كان حيا وصادقا وحقيقيا. تعرف دستويفسكي على «أنَّا» عن طريق المصادفة. حينها كان الروائي الكبير يعاني من الديون الكثيرة التي ورثها عن أخيه، وكان عليه الوفاء بسدادها، ليس ذلك فحسب فقد كان عليه أيضا أن ينفق على أسرة هذا الأخ الذي توفي وترك زوجته وأبناءه. كما كان عليه أن ينفق على ابن زوجته الأولى التي ماتت وتركت له ابنا من زواج أول ليرعاه. لذلك كان دستويفسكي - الأخلاقي البائس - يكتب بأقصى طاقته تحت ضغط الحاجة للوفاء بأقساط ديونه والإنفاق على نفسه ومن يعولهم.

وأمام التزاماته المتعددة، وضيق الوقت أصبح بحاجة إلى كاتبة اختزال يملي عليها رواية «المقامر» التي اتفق على تسليمها للناشر في موعد محدد. وهنا ظهرت «أنا جريجوريفنا» التي أرسلها له أحد أصدقائه لتقوم بمهمة الاختزال. وتنجح في مهمتها، وتساعد الكاتب على تسليم ملازم الرواية في الوقت المحدد، وبذلك تفوت الفرصة على الناشر اللئيم الذي كان يتربص بدستويفسكي لكي يستولي على حقوق نشر مؤلفاته من دون مقابل، بالإضافة إلى دفع دستويفسكي غرامة مالية كشرط جزائي لتأخره عن تسليم الرواية.

غير أن نجاح «أنَّا» في المهمة لم يكن هو كل شيء. فقد تسلل حبها هادئا وواثقا وبنعومة إلى قلب الروائي البائس، وعندما فاتحها في أمر الزواج على استحياء خوفا من فارق العمر بينهما، كانت المفاجأة أنها هي أيضا أحبته، ووافقت على الزواج منه. لكن هل هذا هو كل شيء لكي تصبح زوجة دستويفسكي امرأة عظيمة، تستحق مقولة تولستوي فيها؟

بالطبع لا. فهناك ما هو ضروري لاكتمال شروط عظمة الزوجة خاصة إذا كانت زوجة كاتب. ومن ذلك الصبر وإنكار الذات، والقبول بوضعية استثنائية في ظل رجل مشغول دائما بكتاباته، وتوفير أقصى درجات الراحة والانسجام له لكي يمارس عمله. وهي أشياء فعلتها «أنَّا» ببراعة، إلى درجة أن صفاتها التي يمكن أن تكون مذمومة كانت ذات أثر إيجابي كبير في حياة زوجها الغارق في الديون، والمريض بالصرع، ومدمن القمار!

لقد كانت «أنَّا جريجوريفنا» المرأة القوية متعددة الصفات الحسنة، أيضا امرأة « بخيلة مقترة» إلا أنها بفضل هذه الصفة ضمنت استقرار العائلة، والحفاظ على مستوى معيشي مناسب في الوقت الذي كانت المصاعب المالية تعصف بحياة الزوج. وهنا تتحول الصفة المذمومة إلى صفة محمودة في مثل هذه الظروف!

لقد فعلت «أنا جريجوريفنا دستويفسكايا» الكثير بالنسبة لزوجها ومن يقرأ مذاكراتها بوسعه أن يتأكد من عظمة هذه الزوجة الاستثنائية ودورها الكبير في تكريس مجد زوجها الأدبي من خلال دعمه وإدارة أعماله وتهيئة الجو المناسب كي يمارس إبداعه.

زوجة نجيب محفوظ

وعلى الطريق ذاته تأتي «عطية الله إبراهيم» زوجة الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، وهي وإن لم يعنها تولستوي بمقولته مباشرة فإنها جديرة بهذا المديح أيضا. ولعل ما امتدحها به نجيب محفوظ يعلو في تقديره عما امتدح به تولستوي «أنا جريجوريفنا» فقد قال فيها محفوظ: «إذا كان لأحد فضل في المكانة التي وصلت إليها بعد الله - سبحانه وتعالى - فهي زوجتي عطية الله التي كانت بالفعل عطية من الله».

لقد خشي نجيب محفوظ لسنوات طويلة على حياته الأدبية من الزواج، فالزواج له ارتباطات وقيود قد تحد من الصفاء الذهني الذي ينشده للكتابة. وهو - إلى جانب عوامل أخرى - ما أخره عن اتخاذ هذه الخطوة حتى بلغ الثالثة والأربعين من عمره، لكن سيجد في النهاية من «عطية الله» ما يبدد خشيته من الزواج تماما.

وإذا كان دستويفسكي تزوج أنا جريجوريفنا عن حب وبعد أن وقع في غرامها، فإن نجيب محفوظ لم يعش قصة حب مع زوجته قبل زواجهما. لكنه آنس منها تفهما لطبيعته الشخصية واحتياجاته ككاتب - كما صرح بذلك في عدد من أحاديثه الصحفية - فقد رآها أنموذجًا جيدًا للزوجة الصالحة. وهنا يعطي محفوظ لحبه معنى مختلفا عن الحب الرومانسي الذي عاشه في قصص مختلفة قبل الزواج، وكتب عنه في رواياته. فعبرت الحياة الزوجية بينهما عن نفسها مجسدة في عطاء زوجة ارتضت أن يحاط زواجهما بالسر لمدة عشر سنوات في بدايته. وأن تعيش في ظلال زوجها الكاتب «ست بيت» بمعنى الكلمة. وهو نموذج المرأة الذي اعتبره نجيب محفوظ تاجا على رأس جيله.

تعرف نجيب محفوظ على زوجته من خلال أحد أصدقائه فقد كانت أختا لزوجة هذا الصديق، وعلى عكس أنا جريجوريفنا التي بدأت باختزال رواية لزوجها وامتدت إلى إبداء أراء نقدية في روايات أخرى قبل نشرها، لم تكن لعطية الله إبراهيم علاقة بأدب زوجها قبل النشر، فمن سمات نجيب محفوظ أنه لم يكن يعرض ما يكتبه على أحد قبل أن ينشره، حتى زوجته وابنتيه، كانت أعماله تذهب إلى المطبعة مباشرة بعد فراغه من كتابتها. وكانت زوجته وابنتاه يقرأن هذه الأعمال بعد نشرها مثلهن مثل جمهور القراء العاديين.

لكن عطية الله إبراهيم اضطلعت بأعباء البيت في ظل رجل يعترف بأنه لم يكن اجتماعيا. فلم ترهقه بما لم يحب، واكتفت من حياته بيوم واحد في الأسبوع يخصصه للأسرة بينما بقية أيام الأسبوع ينفقها ببذخ على عالمه الأدبي قراءة وكتابة وعزلة، باستثناء جلسات المشاهدة المنزلية للتلفزيون.

لقد ضربت «أنَّا جريجوريفنا» و«عطية الله إبراهيم» مثلا طيبا لزوجة الكاتب المتفهمة لطبيعة زوجها، وكان لدورهما الإيجابي في حياة زوجيهما فضل كبير على ما أمدانا به من أدب عظيم. لكن هل تكون علاقة الزوجة الحكيمة بزوجها الكاتب معينا على الإبداع في كل الأحوال؟

بسخريته المريرة وفيما اشتهر عنه من أخبار سيجيبنا الفيلسوف اليوناني «سقراط» الذي عانى الأمرين من زوجته «اكسانثيبي» سليطة اللسان، ناصحا بالزواج على أي حال. فإن ظفر المرء بزيجة طيبة فسوف ينعم بالسعادة، وإن كانت الزوجة شريرة فإن الزوج سيصبح فيلسوفا!.