الملف السياسي

قد لا يتغير الكثير .. ولكن يبقى الرهان على الزمن !!

01 يناير 2018
01 يناير 2018

عماد عريان -

,, ليس هناك أدنى شك في أن القرار الأمريكي المعلن بشأن القدس وما ترتب عليه من تداعيات وردود فعل دولية متطابقة في الرفض والشجب والغضب يمثل لحظة تاريخية كاشفة، ليس فقط للعزلة الأمريكية ولكن أيضا لحالة عجز النظام العالمي عن فرض شرعيته وإرادته العادلة على الأطراف المارقة وعلى رأسها بالقطع الولايات المتحدة وإسرائيل,,

ردود الفعل الدولية تجاه القرار الأمريكي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل وفتح الباب أمام من يريد من الدول لنقل سفاراتها إلى المدينة المقدسة جاءت متسقة مع حقائق القانون الدولي والشرعية الأممية ، وحقيقة الأمر أنه لم يكن متوقعا موقفا دوليا يخالف ذلك ، إلا أن حالة الإجماع الدولي التي تجلت في منظمة الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة وكذلك المواقف والتوجهات الرافضة للقرار الأمريكي على مستوى المنظمات والاتحادات الإقليمية جميعها أبرزت العزلة الأمريكية – الإسرائيلية في مواجهة العالم بأكمله على وجه التقريب ، وايضا في مواجهة موقف صلب يرفض صراحة سياسات الأمر الواقع وتكريس نهج الأحتلال وممارسة «البلطجة السياسية الاسرائيلية» المدعومة بتهديد أمريكا لدول العالم الرافضة لقرارها!

هذا المشهد الدولي الرائع لا شك في أنه دعم سياسي غير محدود للفلسطينيين ومطالبهم العادلة والمشروعة ويمكن البناء عليه مزيدا من المكاسب التي قد يبدو الكثير منها معنويا وأدبيا أكثر منه ماديا ملموسا على أرض الواقع ، فبدون شك الشرعية الدولية والقانون الدولي والمواقف الصريحة لدول والمنظمات العالمية تدعم الحقوق الفلسطينية ، إلا أن المؤسف في الأمر أن طبيعة النظام السياسي الدولي وهيمنة الولايات المتحدة عليه بقوة غاشمة ودعمها اللامحدود لإسرائيل في كل المجالات حقائق مستقرة على أرض الواقع تؤكد أن الموقف الدولي الصلد في مواجهة التصرفات الأمريكية بشأن القدس لن يغير شيئا على أرض الواقع برغم القرارات الدولية الصريحة والواضحة في هذا الشأن.

وليس أدل على ذلك من القرارات الأممية الأخيرة واعتبارها مسألة القدس من قضايا الوضع النهائي، التي يتعين حلها عن طريق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، وفقا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، كما تعرب كذلك عن الأسف البالغ إزاء القرارات الأخيرة المتعلقة بوضع المدينة ، في إشارة إلى الاعتراف الأمريكي الأحادي بالقدس عاصمة لإسرائيل ، وتؤكد أيضا على أن أية قرارات أو إجراءات بشأن القدس يقصد بها تغيير طابعها أو وضعها أو تكوينها الديموغرافي ليس لها أثر قانوني ، وتعد لاغية وباطلة ويتعين إلغاؤها امتثالا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ، وتطالب كذلك جميع الدول أن تمتنع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس ، عملا بقرار مجلس الأمن رقم 478 الصادر عام 1980.

ولقد شكل قرار الجمعية العامة ضربة قوية للإدارة الأمريكية من عدة وجوه. فمن جهة تحدت الدول الـ 128 التي صوتت لتمرير القرار تهديدات الولايات المتحدة وإسرائيل اللتين قادتا حملة ترهيب شرسة ضد الدول الأعضاء قبيل التصويت ، كما توعد الرئيس ترامب بقطع المساعدات المالية عن الدول التي ستصوت لصالح القرار ، فبينما صوتت تسع دول، غالبيتها غير معروفة، وتابعة لواشنطن مثل ، بالاو، وميكرونيزا ، وجواتيمالا، ضد مشروع القرار فيما امتنعت 35 دولة أخرى عن التصويت ، لم تنجح التهديدات وحملة الترهيب في الحيلولة دون مرور القرار بالأغلبية بعد تصويت 128 دولة لمصلحته ،الأمر الذى دفع السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي إلى تكرار تهديداتها للدول التي صوتت تأييدا للقرار، معلنة أن الولايات المتحدة ستظل تتذكر هذا اليوم ، وسرعان ما كرم ترامب هذه الدول بوليمة طعام في البيت الأبيض ومنحة مائة مليون دولار!

وفي السياق ذاته وبعد قرار الجمعية العامة بأيام قلائل ، أعلنت الولايات المتحدة التي تعد المساهم الأكبر في موازنة الأمم المتحدة، إذ تؤمن وحدها 22 في المائة من موازنتها الأساسية ، خفضاً في موازنة المنظمة الدولية في ما بدا تنفيذاً لتهديدات أطلقتها على هامش تصويت الجمعية العامة لمصلحة قرار يخص القدس ، وكانت الجمعية العامة تبنت موازنة بلغت 5.396 مليار دولار لعامي 2018-2019، وهو ما يشكل خفضاً بسيطاً عن تلك التي كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش يسعى إلى الحصول عليها وتقدر بـ5.4 مليار دولار، وبدا لافتا إشادة السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي بالخطوة التي اعتبرت أنها تمضى في الاتجاه الصحيح ، كما أعلنت في بيان أن عدم الفاعلية والزيادة في الإنفاق بالمنظمة الدولية أمران معروفان ، مشيرة إلى أن النقاشات عن الموازنة أثمرت نجاحات عدة، منها اقتطاعات مالية وخفض في وظائف الإدارة والدعم المنتفخ.

ورغم أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة إلا أن لها تأثيرا معنويا لا يمكن تجاهله ، كما ستشكل ضغطا إضافيا على التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية ، فاستنادا على قرار الجمعية العامة الأخير بشأن القدس ، ستسعى السلطة الفلسطينية ، بدعم من قوى إقليمية ودولية ، إلى تشجيع روسيا والصين وفرنسا ، على لعب دور أكبر في عملية السلام ، بعدما تمسكت برفض الوساطة الأمريكية ، حيث أعلن مستشار الرئيس الفلسطينى لشؤون العلاقات الدولية نبيل شعث، أن روسيا والصين أكدتا خلال اللقاءات التي عقدها الوفد الفلسطيني مع مسؤولي البلدين، ضرورة عقد اجتماع تحضيري لبحث آلية جديدة لعملية السلام ضمن إطار دولي وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ، مشددا على جاهزية روسيا التامة للعمل مع الصين وأوروبا، من أجل الذهاب لبديل دولي لرعاية عملية السلام في حضن الأمم المتحدة استنادا على القانون الدولي ، ومؤكدا رفض العودة إلى الرعاية الأمريكية واحتكارها العملية السياسية كون الولايات المتحدة لم تطبق شيئا من التزاماتها على مدار أكثر من عشرين عاما.

ومن جهة ثانية ، من شأن سياسات ترامب حيال القدس والقضية الفلسطينية أن تنال من الهيمنة التى تحاول واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفيتى السابق مطلع تسعينيات القرن الماضى ، فرضها على العالم وتأييدها قدر المستطاع ، فلقد جاء قرار ترامب بشأن القدس بمثابة حلقة فى مسلسل القرارات الانعزالية التى اتخذها ترامب منذ تسلمه السلطة ، فرغم أنه لم يكد يكمل عامه الأول فى الحكم ، الا انه لم يتورع عن العمل، بشكل مقصود على تقويض أطر شتى للشرعية الدولية ، فضلا عن زعزعة عدد من الأسس والركائز القانونية للنظام العالمي الراهن ، مما قد يؤدي الى تهديد مكانة الولايات المتحدة وريادتها القلقة والمرحلية لذلك النظام الدولي .

بالفعل لقد صدم ترامب العالم قاطبة بإعلانه اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل ومطالبته وزارة الخارجية الأمريكية ببدء الاستعدادات لنقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس ، والغريب أن ترامب قد وصف هذا التحرك بأنه «خطوة متأخرة جدا» من أجل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط والعمل باتجاه التوصل إلى اتفاق دائم ، كما اعتبر أنه يصب في مصلحة الولايات المتحدة ويساعد على تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ، حسب قوله ، وفي مسعى لإضفاء شيء من التوازن على تحركه المثير أكد ترامب أن الولايات المتحدة تدعم حل الدولتين إذا ما أقره الإسرائيليون والفلسطينيون ، إلا أن شواهد عديدة تؤكد أن شيئا كثيرا لن يتغير على أرض الواقع في الإتجاهين ، فلن يردع أحد واشنطن عن تنفيذ مخططاتها ، وفي الوقت ذاته لن تتمكن ، لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل من حمل الفلسطينيين على الإعتراف بالأمر الواقع ، أو التفريط في حقوقهم المشروعة والعادلة ، تحت أي ظرف من الظروف، ولن تقوى أية دولة مهما أوتيت من قوة على أن تخفي القدس من على الخريطة الفلسطينية ، وإذا كان من الجائز الإستناد إلى مقولة «عبد المطلب» الخالدة « للبيت رب يحميه »، فإن القدس صامدة إلى أبد الدهر مادامت الصفوف الفلسطينية متحدة متمسكة بحقوقها التاريخية التي لا تسقط بالتقادم.