المنوعات

العوالم المهدمة في رواية «الأرض المنخفضة» لجومبا لاهيري

31 ديسمبر 2017
31 ديسمبر 2017

ليلى عبدالله -

تقول الروائية الإيرانية «آذر نفيسي»: «ليست الرواية استعارات ومجاز، إنها تجربة حسية لعالم آخر. فإذا لم تدخلوا ذلك العالم، لتتنفسوا وتحبسوا أنفاسكم مع شخصياته، وتشاركوهم مصيرهم، فلن يكون بإمكانكم الدخول إلى عمق الشخصيات أو التعاطف معها، والتعاطف هو جوهر الرواية».

استعيد عبارة الكاتبة الإيرانية بعد انتهائي من قراءة رواية الكاتبة الهندية المقيمة في ايطاليا حاليا «جومبا لاهيري» في روايتها «الأرض المنخفضة» ترجمة «يارا البرازي» الصادرة عن دار مسكيلياني 2018. هذه الرواية التي تمدد حيوات شخصياتها إلى ثمانية فصول في524 صفحة وعبر زمن مديد ما يربو على عشرين عاماً.

تفتتح لاهيري روايتها بحكاية صبيين «ساباش» و «أوديان» يخال للبعض في البدء بأنهما صديقان في المرحلة العمرية نفسها، مع قليل من القراءة يعرف أنهما أخوان وأن «ساباش» أكبر عن أخيه «أوديان» بعام. كلاهما يعيشان بمحبة في ظل والدين من الطبقة المتوسطة ويجتاز كلاهما المرحلة الدراسية بنجاح ويتفوقان في المجالات العلمية في الكيمياء والفيزياء، غير أن حياتهما تتبدل كليًّا حين تظهر بوادر الاندفاع السياسي عند الشاب المتحفز «أوديان» الذي ينظم لحزب يناصر الثورة، حزب مغضوب عليه من قبل السلطات الهندية ويدفع «أوديان» حياته ثمن ميوله السياسية الصاخبة.

هذه الرواية تاريخ طويل تمكنت لاهيري من سحب القارئ إلى قمة «التعاطف» الذي ينجذب له ويمتلئ به وهو يتتبع سيرة حياة شابين تفرقهما ميولهما ويدفع أحدهما الثمن باهظا نتيجة فعلة الآخر!

سيشعر القارئ بالتعاطف العميق لـــ«ساباش» الذي يختار السفر إلى أمريكا ليكمل دراسته في مجاله العلمي وخلال عام واحد تحدث تطورات هائلة في كيانه الأسري، يتزوج أخاه أوديان من فتاة يحبها ثم يقتل على يد رجال الشرطة الذين كشفوا حزبيته. يغادر مخلفاً زوجة أرملة وطفلة في رحمها لم يعرف بوجودها مطلقاً، وأبوين تتوقف حياتهما تماما أمام مشهد مغادرته الأبدية. «ساباش» الشخصية التي حمّلتها الكاتبة ثقل حكايتها، الشخصية التي وجب عليها أن تحمل أعباء كل شيء وتمضي في حياة وجدت نفسها رغماً عنها فيها، حل محل «أوديان» وصار زوج زوجته وأب ابنته والابن الوحيد لوالدين جف فيهما نبع الحياة. تمضي السنوات ويكتشف «ساباش» أن محاولته لتصحيح الأوضاع التي خلفها أخاه باءت بالفشل، فلقد تركته زوجته «غاوري» لأنها كانت مسكونه بحب أخيه «أوديان» وتركته وحيداً برفقة ابنته «بيلا» الذي يظل يعتني بها حتى تكبر وتصير أما وحينها تعرف أو والدها هو عمها وحل محل أبيها في ظروف قاسية!

الرواية معبأة بجو عميق من الوحدة، فكل شخصية من شخصياتها تعيش في بئر وحدتها الغائر. منكفئة على جراحاتها. الأم تكتنف وحدتها على شرفتها التي تطل على الأرض المنخفضة حيث قضى ابنها أوديان آخر لحظاته، و«غاوري» التي هربت إلى كاليفورنيا، إلى جامعتها ودراساتها العلمية في حياة تخلو من كل إثارة. بينما شبح الوحدة في حياة «ساباش» تكاد تغطي كل لمحة من حياته غير أن الانفراج يأتي حين يتعرف على «إلسا» المرأة التي يتزوجها في نهاية ستيناته.

إذا ما كان «ساباش» الشخصية التي حملت على عاتقها حيوات الآخرين، فإن «أوديان» هو الشخصية التي شرخت الحيوات في الرواية، بسبب اندفاعه السياسي خلّف ذكريات قاسية وغيّر أقدار بقية الشخصيات من حوله، لقد تخلى «أوديان» عن دوره في الحياة واندفع نحو ما كان يظنه ثورة وحرية وعدالة غير أن طموحاته السياسية تبددت في آخر لحظات حياته ما قبل مقتله على يد رجال الشرطة.

كم كانت حياته وحياة من حوله ستتغير لو أنه بقي كأخيه «ساباش» يلهث خلف طموحاته العلمية في أكبر دول العالم! كم كانت عائلته ستكون مختلفة عما صارت إليه من قهر ووحدة! كم كانت زوجته «غاوري» مفعمة بالمحبة لو أنه موجود! كم كانت ستحظى ابنته «بيلا» بحياة مستقرة وسعيدة في كنف والدها! بل كم كان سيكون جداً طيّباً برفقة حفيدته «ميجنا»!

وكم سيشعر القارئ بالغضب تجاه «أوديان» الذي دمر حيوات وكم يشعر بالتعاطف تجاه «ساباش» الذي ضحى بنفسه من أجل أن يعيد بناء ما هدمه أخيه!

وكم سيوّد قارئ رواية «الأرض المنخفضة» لو أنه يعيد «أوديان» إلى حيوّية الصبي الذي كانه قبل أن تلطخه السياسة و تجرّه إلى عوالمها الفجّة!