أفكار وآراء

لماذا أبقت الجمعية العامة على الدور الأمريكي؟!

30 ديسمبر 2017
30 ديسمبر 2017

د. عبد العاطي محمد -

كان بإمكان الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تطرح بديلا لمسار عملية السلام في الشرق الأوسط سواء فيما يتعلق بوضع أسس جديدة أو بإقصاء الدور الأمريكي بعد أن ظهر انحيازه جليا إلى جانب إسرائيل في مسألة القدس. ولكنها اكتفت برفض قرار ترامب، وتركت الباب مفتوحا للمفاوضات المباشرة بنفس الأسس وللوساطة الأمريكية!.

وفقا لميثاق الأمم المتحدة للجمعية العامة أن تناقش أية مسألة تكون لها صلة بحفظ السلم والأمن الدولي يرفعها إليها أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة، ولها أن تقدم توصياتها بصدد هذه المسألة للدولة أو الدول صاحبة الشأن أو لمجلس الأمن أو لكليهما معا. وبمقتضى هذا الدور تقدمت تركيا تؤيدها اليمن بمشروع القرار الذي ناقشته الجمعية العامة وأصدرت بأغلبية ضخمة (128 موافقة واعتراض 9 وامتناع 35 مع تغيب 12 دولة) قرارها الذي قضى بإدانة ورفض القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، كما تضمن قرار الجمعية عدم الاعتداد بهذا الموقف الأمريكي واعتبار قرار ترامب باطلا ولا تكون له أية آثار قانونية، وعليه فقد قررت أيضا منع أية دولة من نقل سفارتها إلى القدس.

ولا شك أن القرار الدولي جاء بمثابة موقف سياسي عالمي انتصر للعرب والمسلمين وشكل هزيمة سياسية سواء للولايات المتحدة أو إسرائيل اللتين استقبلتاه بانفعال شديد وصل إلى حد السخرية. وكان ترامب قبيل التصويت قد توعد من سيصوتون لصالح القدس بأن الولايات المتحدة ستقطع عنهم مساعداتها!. ومن المؤكد أن قرار الجمعية العامة وجد ترحيبا كبيرا في العالمين العربي والإسلامي، حيث جدد الأمل بأن المجتمع الدولي لا يزال مقتنعا بصدق الحقوق العربية والإسلامية ليس في مسألة القدس وحده بل في الصراع العربي الإسرائيلي كله، ولا يزال مستعدا لاتخاذ مواقف جادة ضد كل ما يظهر في السياسات الإسرائيلية والأمريكية بما يشير إلى أنه ينتهك هذه الحقوق ويهدف إلى القضاء على القضية الفلسطينية تماما. وكان ملفتا أن الأغلبية الكاسحة من دول العالم اتخذت موقفا صارما من الإدارة أمريكية تقود دولة عظمى بقوة ومكانة الولايات المتحدة برغم كل صور التهديد والوعيد. وتلك من المرات القليلة للغاية التي يتحقق فيها موقف كهذا منذ إنشاء المنظمة الدولية 1945.

برغم التأكيد على أهمية كل ما يشير إلى مظاهر لانتصار سياسي تحقق في الجمعية العامة، إلا أن ما يتعين التوقف عنده هو الجدوى العملية لهذه المظاهر، خصوصا إذا كانت النظرة العربية والفلسطينية من التوجه إليها بعد أن تم رفض قرار مشابه وأقوى دلالة في مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي، هو تغيير معادلة السلام القائمة التي لم تحقق المرجو منها منذ مؤتمر مدريد 1991. فمن المعروف جيدا أن قرارات الجمعية العامة هي توصيات بالدرجة الأولى ولا تتحول إلى قرارات إلا إذا وافق عليها مجلس الأمن إذا ما تمت إحالتها إليه، وهو ما لم يحدث في هذه الحالة إدراكا من الأعضاء بأن النتيجة معروفة سلفا هي استخدام الفيتو الأمريكي. ولم تصدر هذه القرارات على شاكلة قرار الاتحاد من أجل السلام الذي حدث عام 1950مرة واحدة ولم يتكرر، ونشأ أساسا على خلفية أنه إذا عجز مجلس الأمن عن القيام بمهامه في أزمة ما تقوم الجمعية العامة بدوره، وبالطبع لم تنطبق هذه الحالة على المناقشة التي جرت مؤخرا بشأن القدس.

ومع ذلك كان من المفترض، استغلالا لخطورة القرار الأمريكي وحماسة الغالبية الكبيرة من دول العالم بما فيها الدول الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وكلاهما من أعضاء مجلس الأمن الدائمين، أن يتسع مضمون مشروع القرار الذي ناقشته الجمعية العامة ليتضمن بندا أو أكثر يتعلق بمسيرة السلام المتجمدة في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق كان من المفترض أن تطالب الجمعية العامة مجلس الأمن بمناقشة هذه المسيرة مجددا واتخاذ قرار جديد يحسم الجدل حول حل الدولتين معترفا بقيام الدولة الفلسطينية وأن تكون عاصمتها القدس الشرقية، مع تغيير آلية التفاوض لتأخذ صورة المؤتمر الدولي لا المفوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية وأن تشارك الولايات المتحدة في هذا المؤتمر كغيرها من الأطراف المعنية .

توقفت الجمعية العامة عند مسألة القدس وحدها دون أن تتطرق إلى وضع مسيرة السلام ذاتها. ومجددا فإن دعم القدس بما ظهر في موقف الجمعية العامة أمر مهم للغاية وموضع تقدير وإعجاب ودليل على حيوية المجتمع الدولي مما يدفع بالتفاؤل مستقبلا. ولكن الفرصة كانت قائمة لتصحيح مسار عملية السلام، وهو ما لم يحدث، حيث أبقت الجمعية العامة بعدم طرقها للموضوع على الوضع القائم، أو على وجه الدقة أبقت على الباب مفتوحا لنفس المسار القديم أي المفوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الولايات المتحدة.

هنا فرضت الواقعية السياسية متطلباتها مع التسليم بعدم إنصافها للحقوق العربية والفلسطينية. فمن الصحيح أن التصويت الضخم لصالح القدس عكس تعاطفا صادقا من المجتمع الدولي مع أصحاب القضية، ولكن ما لا يجب إغفاله هو أنه جاء اعتراضا على انتهاك الولايات المتحدة للقرارات الدولية ممثلة في قرارات مجلس الأمن ذات الصلة والتي كانت هي نفسها قد شاركت في صياغتها ووافقت عليها أو لم تعترضها بالفيتو على الأقل. ومن يرجع إلى قائمة التصويت يلحظ أن دولا كثيرة جدا ممن لها علاقات جيدة مع إسرائيل (تتعاون معها عسكريا واقتصاديا إلى حد كبير) ساندت قرار الجمعية العامة. الهند على سبيل المثال أيدت القرار برغم قوة علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل واتجاهها في العقود الأخيرة إلى التعاطف مع السياسة الإسرائيلية بعد أن كانت في الماضي من أشد الرافضين لها. ومن جهة أخرى لا يجب التقليل من المغزى السلبي لوجود 65 دولة يمكن إدراج مواقفها في خانة رفض قرار الجمعية العامة، وهو رقم ليس بالصغير بالنسبة لعدد أعضاء الأمم المتحدة البالغ 193 دولة. نعم هناك 9 دول رفضت القرار معظمها لا يعلم بها أحد على الساحة الدولية وقد اعتادت دائما أن تصوت لصالح إسرائيل. ولكن هناك 35 دولة امتنعت عن التصويت (في حكم الرفض) من بينها دول مهمة مثل الأرجنتين وكندا واستراليا والمكسيك وبولندا ورومانيا وتشيكا وكرواتيا، ودول مثل البوسنة والهرسك التي دافع المسلمون عنها بالمال والرجال في الماضي القريب!، ودول إفريقية مثل أوغندا والكاميرون ورواندا وبنين وإفريقيا الوسطى. ومن بين من لم يحضروا (في حكم الرفض أيضا) دول مثل كينيا وأوكرانيا والمجر والكونغو الديمقراطية وزامبيا. ولاشك أن لكل هذه الدول مبرراتها الخاصة ولكن المعنى هنا هو أنه لم يعد من السهل في ظروف العالم المعاصر إطلاق نفس القواعد التي كانت تتبع في الماضي لتحديد موقف دولة ما، وإنما هناك سيولة في المواقف وتغيرات يصعب التنبؤ بها. التصويت كان في جانب منه مؤشرا على الانقسام الذي أصاب المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة بسبب تعقد وتنوع واتساع مجال الأزمات الدولية.

وربما من صاغ القرار استشعر أن توسيع مجاله ليشمل إعادة النظر في مسيرة السلام برمتها سيؤدي إلى زيادة عدد الرافضين والممتنعين والغائبين مما لا يوفر له أغلبية الثلثين من الحاضرين المشتركين في التصويت، حيث إنه مما يوصف بالقرارات المهمة بينما تحتاج القرارات الأخرى للأغلبية فقط. وهذا اعتبار صحيح إلى حد كبير، وإن أشار إلى شيء فإنما يشير إلى أن المجتمع الدولي بظروفه الراهنة حيث الانقسام والتوتر في علاقات الدول الكبرى وتعقد الأزمات الإقليمية لا يميل إلى توسيع مجال المواجهة والصدام خصوصا في مواجهة الولايات المتحدة. وعليه تركز جهد الجمعية العامة في الدفاع عن مبدأ احترام القرارات الدولية ممثلا هنا في وضع القدس، فكان لها ما أرادت بسهولة. ورأت في حصر اجتماعها في هذه المهمة فقط رسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل بأن المجتمع الدولي لا يزال يمنح لهما الفرصة للتحرك في مسيرة السلام بالشرق الأوسط طالما يتم ذلك ضمن احترام القرارات الدولية، وإن حدث تقدم في هذا الإطار فإن المجتمع الدولي جاهز لتأييده بنفس القوة التي رفض بها قرار تغيير وضعية المدينة قبل الاتفاق النهائي.

ما يؤكد التماهي العربي مع هذا التوجه الذي حكم مناقشة الجمعية العامة للقضية هو أن لا الجانب العربي ولا الفلسطيني قطع بفك الارتباط بجهود السلام بأي شكل من الأشكال، ولا القيام بتحرك صدامي مع الإدارة الأمريكية برغم كل ما جرى، كما أن الموقف الفرنسي (تعبيرا عن الموقف الأوروبي) يدفع في نفس الاتجاه، الإبقاء على الباب مفتوحا لجهود السلام، وعلى الدور الأمريكي أيضا!.