أفكار وآراء

الاستراتيجية الأمريكية الجديدة .. بين العسكرة والدبلوماسية !

29 ديسمبر 2017
29 ديسمبر 2017

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

قبل نحو أسبوعين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخطوط العريضة لاستراتيجيته الجديدة للأمن القومى الأمريكي، والتي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة وترقبها العالم، سيما وأن واشنطن لا تزال حتى الساعة مالئة العالم وشاغلة الناس، وقد انتظر العالم ليعرف أي رئيس نحن أمامه، وهل هو جورج بوش الابن أم باراك اوباما؟

والشاهد أن الفارق بين الاثنين جوهري، فبوش الابن عمد إلى سياسة القوة كأداة وحيدة لحسم معارك أمريكا مع العالم، وقد أتبع منهجية «الحروب الاستباقية أو الوقائية» ، الأمر الذي كلف الأمريكيين أكلافا جمة وخسائر هائلة مالياً وأدبياً حول العالم.

أما خلفه «باراك أوباما» فبدوره تسبب في كوارث، بسبب عدم إقدامه على الدخول وبجسارة في لجة بحار العالم المضطرب لاسيما في الشرق الأوسط، وقد فضل إتباع سياسة القيادة من خلف الكواليس، والتي أثبتت التجارب إخفاقها.

كيف بلور الرئيس ترامب استراتيجيته؟

يمكن الإشارة إلى أربعة أركان أساسية تمثل في واقع الحال منطلقات رؤية ترامب لفترته الرئاسية الأولى، هذا إذا أفترضنا جدلاً انه سيكمل ولايته الأولى، وسيتجاوز فخ «روسيا - غيت» المنصوب له، والذي تتوالى حلقاته يوماً تلو الآخر.

بداية يتحدث الرئيس ترامب عن حماية الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، ولا أحد ينكر عليه هذا السعي، وإن كان الجميع يتساءل ما هي الطرق التي سيمضي فيها لتحقيق هذا الهدف؟ وهل سيميل كما الحال مع بوش الابن إلى «هش الذباب بالمطرقة»، أم سيسلك طرقا عقلانية في محاربة الإرهاب الذي هدد أمن الأمريكيين؟

الركيزة الثانية في استراتيجية ترامب، هي تعزيز الرخاء الأمريكي، وهي جزئية أساسية في أبجديات تفكير ترامب، رجل الصفقات العقارية، ومن بين أهم وعوده لناخبيه تجديد حال الاقتصاد الأمريكي وإعادة أمريكا إلى دائرة الازدهار الاقتصادي مرة أخرى، وهو يعلم تمام العلم أن المواطن الأمريكي وإن كان رقيق الحال سياسياً وثقافياً، إلا أن قدس أقداسه هو وضعه المالي، ومردوده الأسبوعي، وعليه فبقدر نجاحات ترامب في هذا السياق، يمكنه أن يبني شعبية وقاعدة جماهيرية تمنع عنه احتمالات خسارة الولاية الثانية له، حتى وان كانت مداخل ترامب في هذه الركيزة ربما تقوده إلى منحى تصادمي مع دول كبرى لاسيما الصين وألمانيا، وربما غيرهما.

ولعل الركيزة الثالثة في استراتيجية الأمن القومي للرئيس ترامب هي الأكثر أهمية وعرضة للجدل، إذ تحتمل مفرداتها الكثير من المعاني الظاهرة والضمنية، حيث التشابه الواضح جداً بين نقاطها وبين توجهات أمريكا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وبزوغ نجم القطب الأمريكي الأوحد.

منذ سقوط القطب الشيوعي وواشنطن تعمد إلى صبغ العالم بصبغة أمريكية بامتياز، وهو ما أسماه البعض زمن «السلام الأمريكي» أو «Pax American» في تطابق واضح من الناحية الأيديولوجية لزمن السلام الروماني المعروف تاريخيا .

في هذا الإطار صاغ المحافظون الجدد رؤيتهم للقرن الأمريكي حيث أمريكا تمنع أي قوة أخرى من الظهور. هل في استراتيجية ترامب ما يشابه خطة المحافظين الجدد؟

قبل الجواب نشير إلى أن الخطوط الاستراتيجية العريضة للسياسة الخارجية كما أشار إليها المرشح دونالد ترامب، لم تكن لتخرج بعيداً عن دائرة الفكر الانعزالي، فقد أكد ترامب على أن شعار «أمريكا أولاً» إنما يعني ان تبقى الولايات المتحدة مهتمة بالداخل، وأن تبدأ في التحلل من تبعات الامتداد الامبراطوري الذي دفعت ثمنه ولاتزال.

غير أن ما جرى بعد ذلك قصة أخرى، إذ لم يقدر لجماعة المستشارين الذين جاء بهم ترامب إلى البيت الأبيض البقاء، وهم الأدمغة المؤدلجة والتي كان منوطا بها رسم سياسة أمريكية جديدة، وفي المقدمة منهم الجنرال «مايكل فلين» الغارق الآن في مستنقع «روسيا - غيت»، وعقل ترامب الذي قاده للفوز «ستيف بانون»...... من كان وراء ما جرى؟

أغلب الظن طبقة الجنرالات الذين يمثلون القوة الأمريكية الحاكمة في ذلك البلد الامبراطوري، والدليل على ذلك أن الركيزة الثالثة تتحدث عن إعادة بناء القوة العسكرية - الأمريكية لضمان بقائها في المرتبة الأولى .

في هذا السياق نشير إلى بعض الأرقام التي تؤكد نية ترامب بالفعل تدشين عهد عسكري جديد لبلاده، فقد وقع على موازنة عسكرية للعام 2018 مقدارها 700 مليار دولار، منها نحو 65 مليار للعمليات الخارجية، وسوف ينفق منها كذلك 4.6 مليار في أوروبا الشرقية لمواجهة ما يراه الأمريكيون عدوانا روسياً.

وبجانب الرقم المتقدم هناك حديث عن رقم هائل يبلغ 1.2 تريليون دولار، أي ألف ومائتي مليار دولار من أجل تجديد وإبدال وإحلال الترسانة النووية الأمريكية في الأعوام الـ15 المقبلة ... هنا علامة الاستفهام هل تتوافق هذه الأرقام مع ما وعد به ترامب خلال حملته الانتخابية من إحلال عهد سلام بينه وبين روسيا الاتحادية أم العكس بالمطلق هو الصحيح.

يكاد المرء يلمس في استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومي عودة من الشباك لسياسة الضربات الاستباقية بعد أن غادرها باراك أوباما من الباب، وقد تحدث في هذا الشأن الجنرال «هربرت ماكماستر» مستشار الأمن القومي في كلمته أمام منتدى الأمن بمكتبة رونالد ريجان بولاية كاليفورنيا مشيراً إلى ان بلاده سوف تسعى إلى «الحفاظ على السلام عبر استخدام القوة». هنا يمكن لنا أن نتساءل من الذي له الحق في توصيف أفعال معينة على الصعيد العالمي بأنها أفعال تتسق وسياقات السلام العالمي، وأخرى تهدد الأمن والاستقرار حول العالم؟ ثم وربما هذا هو الأهم..» هل تملك واشنطن أن تكون القاضي والجلاد في نفس الوقت؟

الشاهد ان إعلان الاستراتيجية كان قريبا زمنياً من قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب، وهو فعل رأته 128 دولة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بوصفه فعلا مهددا للسلام، في حين ذهبت مندوبة أمريكا في المنظمة الأممية، بل والرئيس ترامب نفسه إلى تهديد الدول التي ستصوت لصالح مشروع القرار الذين يحرم أو يدين تغيير وضع القدس الآني، فهل ستمضي إدارة ترامب إلى معاقبة العالم بدوله كافة حال رفض سياساتها، وأي فوقية تحملها رؤية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؟

يبدو أننا أمام قوة مفرطة، وإن بدت في قفازات حريرية، بل أبعد من ذلك إذ إننا نشتم في الجوار رائحة لإحياء برامج عسكرة الفضاء بصورة علنية، إذ تؤكد مفردات هذه الركيزة على «تعزيز قدرات الولايات المتحدة عبر مجالات عدة بما في ذلك الفضاء والأنترنت، وتنشيط القدرات التي أهملت»... هل القصد هنا برنامج حرب الكواكب أو النجوم الذي بلور لبناته الرئيس رونالد ريجان على خلفية قناعات دوجمائية من «جيرى فالويل» و«ليندسي هالي» وغيرهم من اتباع اليمين الديني الأمريكي المتطرف؟

يستلفت النظر كذلك القول إن حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها يعظمون قوتها ويحمون ما يسميه المصالح المشتركة، بل ويتوقع ترامب منهم تحمل مسؤولية أكبر للتصدي للتهديدات المشتركة ...

السطور هنا غامضة وغير واضحة وربما هذا مقصود بعينه، حتى يتوزع اللبس على الحلفاء الأوروبيين والشرق أوسطيين مرة واحدة، والرجل لم يدار أو يوار طوال حملته الانتخابية مبدأه «الدفع مقابل الحماية»، وخلافاته مع الأوروبيين واضحة كل الوضوح حول مساهماتهم في تمويل حلف الناتو ، وفيها يطالب بأن تدفع كل دولة أوروبية 2.5% من إجمالي موازنتها كل عام الأمر الذي يرفضه الأوروبيون.

أما الركيزة الرابعة ، فهي متصلة بالثالثة وفيها يسعى ترامب إلى «تعزيز النفوذ الأمريكي» الأمر الذي يتحقق في واقع الحال تلقائياً حال بسط أمريكا نفوذها عسكرياً على العالم.

لا يتسع المجال للتفصيل حول موضع روسيا والصين في تلك الاستراتيجية، وباختصار غير مخل تدرج الاستراتيجية الجديدة روسيا والصين على قائمة التهديدات والتحديات الكبرى التي تواجهها الولايات المتحدة، وهو أمر طبيعي من وجهة نظر ترامب، نظراً لتمسك كل من موسكو وبكين بفكرة بناء عالم متعدد الأقطاب، وقد عبر «ليونيد سلوتسكي» رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الروسي أن الهدف الوحيد للاستراتيجيته الجديدة لترامب هو «إعادة الهيمنة الأمريكية على العالم وجعل واشنطن منفردة بمقدرات ومقررات النظام الدولي».

نقد الاستراتيجية لم يتأت من الجانب الروسي فقط، ذلك أن هناك أصواتا أمريكية نافذة قالت إن استراتيجية ترامب للأمن القومي تغذي الحروب، ومنها صوت «فيليب جيرالدي» المدير التنفيذي لمجلس المصالح الوطنية بالولايات المتحدة، والذي أوضح أن «منح العسكريين المزيد من الأموال، وهي في الأصل كثيرة جداً، أمر غير صائب خاصة أن ذلك يخلق أداة تجعل أي رئيس معرضاً لإغراء استخدامها في حل المشكلات خارج الحدود.

هل تجيء هذه الاستراتيجية كطريق ثالث للقومية الأمريكية التي يعلو صوتها في الأيام الأخيرة أمريكياً والتي تذكر العالم بأخطار عاشها في النصف الأول من القرن العشرين من جراء تعاظم المد الشوفيني والقومي، وبخاصة أن المشهد الأمريكي لا يخلو من مسحة عقائدية دينية؟

كان من الواضح أن ترامب غازل ناخبيه الذين صوتوا له منذ عام، ويغازل آخرين، مستخدماً مصطلحات وعبارات قومية من أجل إرضاء ناخبيه ومنح فرصة لمؤيديه بأن يسمعوا ما يرغبون في سماعة.

السؤال المتبقي هل كافة أركان إدارة ترامب موافقون على أبعاد هذه الاستراتيجية؟

الواضح جداً أن صوت العسكرة فيها أعلى بكثير من صوت الدبلوماسية، وهذا ما يتسق وملامح إدارة تتسارع وتتصارع فيما بينها حتى الساعة، إدارة منقسمة ما بين مجموعة الاستخبارات فيما البيت الأبيض غير مؤكد من يدير دفة الأمور فيه الرئيس أم مجموعة مستشاريه؟ الخلاصة ... مكانة أمريكا كمدينة فوق جبل تهتز، ودورها الرائد في الإنارة والتنوير يخفت، فهل يملكون شجاعة المراجعة أم ان الدافع القسري يقودهم إلى حيث لا يشاؤون؟