1207733
1207733
المنوعات

خوليو كولتازار وفوسفور الكتابة في اللّيل

28 ديسمبر 2017
28 ديسمبر 2017

أحمد فرحات -

في مطعمٍ عتيق في شارعٍ بالِغ العتاقة في باريس، التقيته. كان هو الذي اقترح مكان اللّقاء وزمانه: مطعم دهليزيّ المدخل.. ثمّ دائريّ المساحة من داخله، مُضاء بالشموع ليلاً نهاراً. أمّا الشارع فاسمه «موفتار»، ويعود إنشاؤه إلى أكثر من 630 سنة خلت في الدائرة الخامسة من العاصمة الفرنسيّة، وهو الشارع الذي عادةً ما كان الروائي والقاصّ والشاعر الأرجنتينيّ خوليو كولتازار يحبّ التجوال فيه، وكذلك تناول طعام غدائه وعشائه، وكذلك كتابة بعض سرديّاته، من قصّة ورواية، وحتّى نصوص شعريّة، وخصوصاً تلك التي تضمّنها ديوانه الرابع: «إلّا الشفق». والكتابة.. كتابته، كان يزاولها في مقهيَين اثنَين في الشارع المذكور: واحد خصَّصه لجلساته النهاريّة والآخر لجلساته المسائيّة.

خوليو كولتازار الذي وُلد لأبٍ أرجنتينيّ يعمل مُلحقاً تجاريّاً في العاصمة البلجيكية بروكسل في عام 1914 ومات في باريس في عام 1984، قضى طفولته، بدءاً من عامها الرابع في بانفيلد - جنوب بوينس آيرس؛ وذلك بعدما هجر والده أمّه، فربّته، إلى جانب أمّه بالطبع، جدّته، التي تَعلَّم من مرويّاتها الكثير.. الكثير. أمّا أمّه التي يعتبرها «كنزاً رومانسيّاً نادراً»، فقد كانت تُشرف على قراءاته وحتى كتاباته الابتدائيّة التي باشرها، وهو في سنّ الثامنة. كما أنّ هذه الأمّ، هي التي دفعته لقراءة أسفار أدب الخيال العلميّ، مجسَّدةً في المقام الأوّل بالفرنسي الشهير جول فيرن، ولا يدري هو سبب إقدامها على ذلك، إلّا من خلال « أنّها كانت صاحبة رؤية غامضة للعالَم، وخيال إيغاليّ عجيب لا حدود لمَداراته؛ وكانت هي الخلاصة التي وضَعتْني أمام سكّة الفتح الكتابي القصصي والروائي والشعري».

لكنّ خوليو كولتازار اختار العيش في ما بعد في أوروبا، فترك الأرجنتين نهائيّاً إلى فرنسا، وهو في سنّ السابعة والثلاثين، مُحصّلاً جنسيّتها ومُستفيداً من كون عاصمتها باريس، هي المرجل الثقافي دائم الخفق للعالَم، حيث عمل في حقل الترجمة الأدبية والفلسفية، فنقَل أعمالاً أدبيّة متخيّرة إلى اللّغة الإسبانية، وخصوصاً لأندريه جيد، وجون كيتس، و«أمير المُفارقات» جيلبرت شيسترتون . كما أنّ عمله في الترجمة عن اللّغتَين الفرنسية والإنجليزية إلى الإسبانية.. والعكس أحياناً، انتظَم في ما بعد، عندما التحقَ بوظيفة مُترجِم في اليونسكو، وصار بمقدوره أن ينظّم وقته، وينصرف إلى القراءة والكتابة الإبداعيّة، التي تميَّز بها منذ «خطاطاته» الأدبية الأولى، وارتفع اسمه في ما بعد إلى مصافّ الكبار ممّن يكتبون بالإسبانية، إلى جانب: بابلو نيرودا، وميغيل أستورياس، وخورخي لويس بورخيس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وأوكتافيو باث، وكارلوس فونتيس.. وغيرهم.. وغيرهم.

ماذا عن هذا التفعيل للأدب الأمريكي اللّاتيني في باريس، ومنها انطلقت شرارته إلى العالَم أجمع، والذي كان وراءه روجيه كايوا، الناقد وعالِم الاجتماع الفرنسي المعروف؟ سألت خوليو كولتازار؟.. فأجابني: لأنّ هذا الأدب يستحقّ التضوئة عليه، أوروبيّاً وعالميّاً، ولأنّ فرنسا هي وحدها المخوّلة القيام بهذا الدور الثقافيّ العالميّ الكبير، كون عاصمتها باريس، هي المساحة الكوزموبوليتية الحيويّة الأولى بين عواصم الأمم الغربيّة على مستوى تفعيل الثقافة والفكر والأدب والفنّ والفلسفات الجديدة ونظريّات العلوم الإنسانيّة... إلخ. هل كنتَ تنتظر أن تقوم واشنطن أو نيويورك بهذا الدور مثلاً؟ وهي مُدنُ سياسة وتروستات ماليّة ضخمة، وعلاقتها بالثقافة ديكوريّة تزيينيّة ليس إلّا. أمريكا تُسلّع الأدب والثقافة وتُسيِّلهما أرباحاً في سوق التداول العالَمي، ولاسيّما عن طريق السينما والإنتاج السينمائي الضخم، وبما يفيد سياساتها هي، لا دَورة الثقافة الجديّة في العالَم.

ولكنّ الولايات المتحدة أَنجبت كتّاباً وشعراء طليعيّين يا سيّد كولتازار: فولكنر، هيمنغوي، وولت ويتمان، هنري ميلر، تنيسي وليامز، جون دوس باسوس، وليم سارويان.. وغيرهم.. وغيرهم.. وقبل أن أنهي سؤالي بادرني بالقول:

صحيح جدّاً ما تقوله يا صاحبي..هؤلاء كتّاب كبار أنجبَتهم أمريكا وشغلوا العالَم بنتاجاتهم الرياديّة.. ولكن مَن الذي أطلق أصوات هؤلاء في العالَم سوى مدينة اسمها باريس؟!.. الروائي وليم سارويان قال لي إنّه لولا باريس، لظلّ حبيس إعلام كاليفورنيا، فباريس نفسها هي التي قدّمته حتّى إلى بلاده ومدنها الكبرى: واشنطن ونيويورك وشيكاغو وبوسطن وميامي وسياتل... إلخ.

شعار «الواقعيّة السحريّة»

ولدى سؤالي له عن رأيه في المصطلح النقدي الذي راج حول نِتاج أدباء أمريكا اللّاتينية في أوروبا والعالَم: «أدب الواقعية السحرية»؟.. أجاب بأنّه لا يستسيغ أيّ مصطلح نقديّ يُروَّج له بإطلاق، ويُدمغ به الآخرون كيفما اتّفق. «الواقعية السحرية» شعار مثير ولا شكّ، وقد طرب له النقّاد الماركسيّون وجمهورهم قبل غيرهم، ولكن أنا لا أقبل أن «يُغطّيني» مصطلح كهذا، ولا أيّ مصطلح نقدي أو تقويمي آخر. أنا أكتب بانفجار تلقائيّ ذاتيّ، وبلا حسابات للنتائج. كنتُ، وسأظلّ، مجرّد عنادٍ ملتهبٍ في عواصف الأقدار التي يتسبّب بها البشر. أُقاوِم الديكتاتوريّات في بلادي، وفي كلّ مكان، على طريقتي، وبجذوة سلاحي الأدبي الفائق الخصوصيّة، والذي لا يحدّه مصطلح، أو تمنهجه نظريّة، أو يلفّه انطباع نقدي، سواء أطلقت عليه تسمية «واقعية سحرية» أم «فانتازيا متفلّتة».. أم.. أم ما تشاء.

كونك من أوائل كتّاب أمريكا اللّاتينية الذين قلبوا مقاييس النظام الروائي التقليدي، ومزجوا الفانتازيا بالتصوّرات الواقعية، وضربوا الخطّية الزمنية في لعبة السرد، ومزجوا بين المتناقضات، وفكّكوا الرموز، وشفّروا الأبعاد، وروّعوا الابتكارات وكسّروا الشطحات الخياليّة، ثمّ جمعوا هذه العناصر كلّها جمْعاً سيمفونياً ونقضوها من جديد، وخصوصاً في روايتك «الحجلة.. لعبة القفز بين المربّعات»(1963).. هل تعتبر ذلك كلّه دلالة على طليعيّة الكتابة الروائيّة لديك، ولدى مَن نَسَج وينسج على منوالك الكتابيّ الفانتازي هذا؟

عن تساؤلي هذا، علّق خوليو كولتازار قائلاً: سؤالك هذا يحوي من تحدّي الإجابة الشيء الكثير.. ولكنّني ببساطة سأجيبك: أردتُ من روايتي «الحجلة.. لعبة القفز بين المربّعات» أن أقيمَ ملحمةً كتابيّة كبرى بحجم رواية اعتياديّة، بطلتها امرأة اسمها تاليتا. وكان همّي خلالها أن أكتب بطريقة آليّة على غرار السورياليّين، وأيضاً بطريقة فائقة العقلانيّة على طريقة معماريّي السرد الكبار في العالَم، ممَّن سبقونا؛ وكلّه انطلاقاً من واقع بلادي الأرجنتين وعموم الوطن البوليفاري، الذي يرزح تحت حكم ديكتاتوريّات منفوخة بذاتها، ومُرتهَنة لأسيادها في الخارج، وقد حوّلوا مجتمعاتنا إلى محاضن تفرِّخ الفساد ورعاة المخدّرات والقتل السريع والوئيد في كلّ اتجاه، وفي شتّى طبقات المجتمع. وأنا لا أثور ولا أتمرّد في روايتي هنا، وفي غيرها من روايات وقصص، بقدر ما أتحمّل آلام نفسي وأمضغها في انكفاء مستغرق عليها، لكنّك تراني من جهة أخرى، أنتقل إلى ضفّة المرح والفكاهة ومُواجَهة الظلام بما يناقضه من ضوء، ويضيق بالظلام ذرعاً حتّى يسقطه. تراني أزرع اللّين في قلب القسوة والقسوة في قلب اللّين، حتّى لا يملّني القارئ وأملّ نفسي معه في آن واحد.

وممّا أفادني به خوليو كولتازار، أنّه في باريس اكتشَف نفسه بأنّه أرجنتيني أكثر ممّا ينبغي، وأنّه استخدم حتّى «لغة لونغاردو» في روايته المذكورة، كما في بعض أشعاره. و«لونغاردو» هي لغة أهل بوينس آيرس، التي يأنس إليها مع خورخي لويس بورخيس. ومن فرط شغفه بهذه اللّغة، وصل الأمر معه حدّ القول « إنّ حبّي للغتي «اللّونغاردوية»، صار شرطاً من شروط بقاء ثقافتي كلّها».

ما معنى الحفاظ على الخصوصيّات والهويّات في مجتمع آخر، نذرنا أن نعيش قيَم ثقافته ولغته ومداولات عيشه اليومي، فضلاً عن الانتماء الوطني إليه وحتّى التوصية بأن نُدفن في ترابه؟

أجابني كولتازار على الفور: لأنّني منتمٍ إلى فرنسا بعمق، اكتشفتُ انتمائي إلى الأرجنتين بعمق أيضاً، وجاهرتُ بذلك مراراً.. وفي النهاية، أنا لا أستهدف سوى وضع حدٍّ لحركة التآكل الخفيّة والبطيئة التي تعتريني، من داخل، تجاه هذَين الانتماءَين الإنسانيّين القويَّين.

في عموم رواياتكَ وقصصكَ القصيرة، نجد للشعرية المحلّ الأبرز، فما معنى أن تكتب قصائد إذن، وتُصدِر مجاميع شعرية «مستقلّة»؟.. قال:

أنا أصرّ بين الفينة والأخرى على كتابة القصيدة، لتخليص نفسي من فائض جغرافيا الكلام الذي يظلّ يهطل عليّ في أثناء كتابتي الرواية؛ ثمّ إنّ القصيدة تمثّل لي برقيّة عابِرة، لكنّها خطيرة جداً بمختزل معناها، وكثافة ضربات هذا المعنى. ولديّ إحساس بأنّ القصيدة التي أكتبها هي قطعة من الزمن الذي لا يسقط في الزمن.. كما لديّ إحساس أيضاً بأنّ القصيدة تُشكلّ نوعاً من كتابة فوسفوريّة تضيء اللّيل، مهما اتّسعت حلكته.

وحول أنّ الشعر، هو في وجود دائم، ولا خوف عليه.. علّق كولتازار بشكلٍ لافت قائلاً:

ليتني أنا قائل مثل هذا القول، لأنّه من أقوى ما سمعت من كلام في الشعر وحوله، معنىً وهويةً وكياناً أدبيّاً عظيماً. وعلى أيّ حال، أنا لا أستغرب أن يأتي هذا الكلام حول الشعر من عربيٍّ، لأنّ العرب هُم أهل الشعر بامتياز، وهُم الأكثر جنوحاً للامتلاء فيه.

وكشاعر أسألكَ أيضاً، يُقال إنّ الشعر نقيض المعرفة والعِلم، فما مناقشتك السريعة والمُختزَلة لمثل هذا القول؟

على العكس أيّها الصديق العربيّ.. أجابني محدّثي وأضاف: الشعر مُكمِّلٌ للعِلم وأحياناً، بل غالباً، هو الذي يسبق العِلم.. وكلاهما – على أيّ حال - في تنافس حول مَنْ يصل أوّلاً.

قبل أن أنهي دردشتي مع الروائي والشاعر الكبير خوليو كولتازار، ينبغي أن أسجّل الشكر كلّه للكاتبة والصديقة الأرجنتينية ليونورغونزاليس، كونها كانت صلة الوصل الفعليّة بيني وبين هذا المُبدع الكبير... ولولاها لما قام هذا الحوار في الأصل.

* بترتيب مع مؤسّسة الفكر العربي