الملف السياسي

خيار الرجل القوي أم خيار بناء التوافق الوطني؟

25 ديسمبر 2017
25 ديسمبر 2017

د. صلاح أبونار -

في 17 ديسمبر مر عامان على توقيع الاتفاق السياسي الليبي المعروف باتفاقية الصخيرات. ووفقا لقراءة خاصة تتبناها القوى السياسية المسيطرة على شرق ليبيا والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، يعني ذلك وفقا للاتفاقية نهايتها، ومعها المسار السياسي المنطلق منها بمؤسسات الحكم المترتبة عليه.

بينما ترى قراءة اخرى عامة ومتوافق عليها دوليا ، أن عملية الصخيرات مستمرة باقية على شرعية مؤسساتها، والإطار الوحيد الصالح لإنهاء الأزمة.

وفي صلب هذا الخلاف سنجد رؤيتين متناقضتين لحل الأزمة الليبية: رؤية تراه في الرجل القوي، واخرى تراه في بناء التوافق الوطني. ولاترفض الأولى خيار التوافق، لكنها تراه التوافق المؤسس بإرادة الرجل القوي، وعبر منطق ومسار القوة العسكرية. وفي المقابل لا ترفض الثانية القوة، لكنها تراها القوة النابعة من التوافق الوطني، والممارسة عبر إطلاق عملياته والممأسسة بشرعية مؤسساته. ولاتحتل الرؤيتان نفس المكانة على المسرح السياسي الدولي. فالثانية تحتل الواجهة وتسيطر على عمل المنظمات الدولية والمواقف المعلنة لقوى دولية، بينما تقف الأولى منزوية ولانراها قوية وسافرة الا في الكواليس السياسية والمخططات والمفاوضات السرية.

لكن داخل الواقع السياسي الليبي نفسه، سنراهما على نفس الدرجة من القوة، يقتسمان شرق لبيبا وغربها. بنغازي عاصمة الشرق، في مواجهة طرابلس عاصمة الغرب. والفريق خليفة حفتر ومعه الجيش الوطني الليبي وتحالف ميليشيات الكرامة ومن حوله تحالفات قبلية وجهوية، في مواجهة فايز السراج وتحالف ميليشيات فجر ليبيا ومن حوله تحالفاته القبلية والجهوية. والأمر نفسه مع مؤسسات الحكم الأساسية: مجلس النواب الموالي لحفتر في طبرق الشرقية، في مواجهة حكومة الوفاق الوطني ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي في طرابلس. واليهما تفد الوفود سعيا لحل الأزمة، ومنهما تنطلق الوفود للتفاوض حول الأزمة.

غير ان هذا الانقسام يحمل داخله تناقضات المشهد السياسي الليبي . فلن نعثر على معسكرين صلبين متجانسين بشكل أساسي، ذلك أننا أمام تحالفات واسعه فضفاضة، صنعتها السياقات والتوازانات الصراعية المتغيرة للأزمة، والتدخلات الدولية والإقليمية وتدفقات السلفية الجهادية، ووساطة القوى الخارجية ومبادرات المنظمات الدولية، وبالتالي سنجدها تحالفات تحمل داخلها تناقضات وتفاوتات حادة، وصراعات مضمرة ومكتومة قابلة للانفجار. في الغرب سنجد الليبرالي العائد بعد عقود المنفى، يتحالف إراديا أو اضطراريا مع قوى وميليشيات جهادية او قبلية موالية للقذافي. وفي الشرق سنجد العسكري المنشق على القذافي، والذي قضى عقدين في الولايات المتحدة مهاجرا او منفيا يتحالف خارجيا مع موسكو، وداخليا مع ضباط من بقايا جيش القذافي يقودون قوات من قبائل همشت في عهده وتمردت ضده. وفي كل الأحوال نحن هنا أمام تجل للسمتين الأساسيتين، المميزتين للمسيرة السياسية الليبية بعد نهاية القذافي: العسكرة والانقسام. العسكرة بمعني هيمنة العمل العسكري على السياسي، والانقسام بمعنى فرط التشظي السياسي، بفعل نجاح البنى القبلية والجهوية والدينية الخاصة في تكييف العمل السياسي.

ويقودنا ذلك لاستنتاج يبدو منطقيا، يفيد ان خيار الرجل القوي هو الأكثر قدرة على التعامل مع معطيات الوضع . غير ان هذا الاستنتاج يواجه تحديين، يحدان كثيرا من صحته. يتعلق الاول بمدى صلاحية المرشح الأساسي لهذا الخيار، والثاني بمدى نجاح الخيار نفسه. ماذا عن التحدي الأول؟ يمثل مصطلح الرجل القوي، الوصف الإعلامي الأثير في وصف الفريق حفتر المرشح الأساسي لهذا الخيار. غير أن هذا العسكري العتيد يواجه نمطين من القيود يحدان من قدرته على ممارسة هذا الدور. فهو من جهة لايملك الموارد العسكرية ، ولا القاعدة الاجتماعية والسياسية، القادرة على تمكينه من أداء تلك المهمة، بل انه داخل منطقة نفوذه ذاتها يواجه تحديات مضمرة وليست هينة. وهو من جهة اخرى غير مجمع عليه دوليا، ومن المشكوك أن يتمكن من اكتساب هذا الإجماع في المستقبل القريب، واقصى درجات الإجماع عليه هو كونه لاعبا أساسيا في الأزمة. وعلة غياب الإجماع سنجدها أساسا في صلاته بروسيا ودورها في صعوده، داخل مصدر أساسي للنفط الأوروبي على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط .

وسنجد التحدي الثاني في مدى صلاحية خيار الرجل القوي لحل الأزمة الليبية جذريا. وصل الوضع الليبي لدرجة من التشظي والعسكرة السياسيين، لن تمكن هذا الخيار من شق طريقه، الا عبر قمع سياسي عالي الوتيرة. سيخلف بيئة اجتماعية اكثر دمارا، وبنى اجتماعية أولية اكثر انكفاء على نفسها، ستحمل داخلها احتمالات عالية لتمردات قبلية وجهوية مستقبلية، وسياق اجتماعي اكثر ترحيبا بالتطرفات الجهادية، ووضع موات لاستمرار تدفقات الهجرة الإفريقية عبر السواحل الليبية. وكل ذلك يجعله شديد التكلفة، وستتعدى حدود ليبيا صوب أوروبا، وهو ما يحد كثيرا من إمكانية دعمه سياسيا.

بعد سنوات تمكنت الوساطة الدولية، من مأسسة خيار التوافق الوطني عبر اتفاقية الصخيرات. شكلت الاتفاقية مايشبه دستورا انتقاليا، نص على الحقوق الأساسية، واعتمد شرعية مجلس النواب واطلق حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي كسلطة رئاسية مؤقتة ومجلس الدولة كهيئة استشارية، ووضع قواعد عمل السلطات الأساسية، وقواعد للتهدئة الوطنية، وخطة لاستعادة الأمن وتفكيك الميلشيات المسلحة .

ولم تكن مشكلة الصخيرات الأساسية في أهدافها، ولا في المؤسسات والمسارات الحركية التي أطلقتها. كعملية سياسية كانت قوتها الحقيقية هي إرادة الوفاق الوطني، وعبر تلك الإرادة فقط يمكنها تعبئة وتوجيه موارد القوة اللازمة لفرض برامجها. إلا أن التطورات أثبتت أن القوى الدافعة نحو هذا الوفاق لم تنضج تماما، وهكذا شقت طريقها بقوة دفع قاصرة. القصور الناتج عن تحيزات القائمين عليها في طرابلس، وتطلعات المعارضين لها في بنغازي، وتناقضات وصراعات المجال الأهلي، وجماعات المصالح التي أسست اقتصاد النهب، والأدوار الخارجية المحفزة للصراع .

في بيانات الدكتور غسان سلامة الممثل الخاص للامين العام للأمم المتحدة من 12 سبتمبر2017 سنعثر على طرحين. يفيد الأول أن الوضع العام لايزال شديد التردي، بعد عامين من الصخيرات. وهنا سنلاحظ اقراره بفشلها العملي، لكنه لايحملها كمخطط مسؤولية الفشل. ويشدد الثاني على ان مخطط الصخيرات، لايزال صالحا في خطوطه الأساسية لتخطي الأزمة ، إلا انه في حاجة لأمرين: التعديل عبر التفاوض، وبناء إجماع جديد وأوسع حوله. وفي 20 سبتمبر اطلق سلامه «خطة عمل» جديدة لتفعيل الصخيرات. وسبق الإعلان مقدمات واضحة. في 25 يوليو استضاف الرئيس الفرنسي ماكرون السراج وحفتر، ووفقا لما اعلن اتفقا على اجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة. وفي 29 يوليو اعلن عن الانتهاء من إعداد مسودة الدستور الجديد. ولكن منذ إعلان سبتمبر تسارعت التطورات في اتجاهين متناقضين. في 17 ديسمبر ألقى الفريق حفتر بيانا اعلن نهاية اتفاقية الصخيرات، ملمحا لعزمه خوض انتخابات الرئاسة. وفي اليوم التالي اعلن سيف القذافي عن عزمه الترشح لانتخابات الرئاسة. ولكن قوة الدفع الجديدة التي اطلقها غسان سلامة كانت طاغية. في الأسبوع الأول من ديسمبر زار السراج واشنطن، والتقى تيلرسون وزير الخارجية ثم ترامب، في إشارة للتأييد الأمريكي لمسار الوفاق الجديد. وفي 14 ديسمبر صدر قرار لمجلس الأمن، يشدد على كون الصخيرات الإطار الوحيد الصالح لإنهاء الأزمة. وفي 17 ديسمبر القى سلامه أمام المجلس بيانا استعرض التحديات وما تم تنفيذه. وفي 18ديسمبر صدر بيان في تونس عن وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر، يعلن تأييدهم للخطة. وفي21 ديسمبر زار وزير خارجية فرنسا طرابلس وبعدها بنغازي، وصرح بعد اجتماعه بالفريق حفتر انه أخبره بضرورة احترام عملية السلام الجارية والاندماج فيها.

وهنا سيظهر سؤال: ما الذي يجعل عملية الصخيرات بعد عامين من التعثر، ذات حظوظ نجاح اكبر خلال عام 2018 الذي تحدد كمدى زمني لها؟ يمكننا طرح عدة عوامل. عامل أول وأساسي نجده حاضرا في كافة بيانات سلامة، يفيد أن الليبيين حل بهم الإرهاق من الفوضى والإفقار، ويسيطر عليهم السخط على الانقسامية والعنف، واضحوا اكثر إصرارا على الخروج من هذا النفق عبر بناء توافق وطني يقود لحكم رشيد. وعامل ثان يتعلق بخطة العمل ذاتها. تقر الخطة بضرورة بناء إجماع وطني جديد وواسع. من خلال تعديلات مطلوبة على الاتفاقية، عبر لجنة مشتركة من مجلسي النواب والدولة، ثم من خلال تحقيق مصالحة وطنية عامة، عبر ملتقى وطني عام تحضره كل القوى الليبية، يتفق على المبادئ الحاكمة للفترة الانتقالية ويتولى اختيار أعضاء مؤسسات البلاد التنفيذية على أساس توافقي.

وعامل ثالث يتصل بتحولات المحيط الإقليمي، وتأثيرها على التوجهات المحتملة للقوى الإقليمية والدولية. شهد هذا المحيط تحولين: تصاعد الصراعات الإقليمية حول اليمن وشمال الخليج ، الأمر الذي قد يدفع بعض القوى الإقليمية لتقليص دورها الليبي تركيزا لمواردها على صراعات تعتبرها اكثر محورية. ومن جهة ثانية تلقت السلفية الجهادية ضربات قاصمة في سوريا والعراق، وسوف تكون احدى خطواتها التالية المؤكدة اعادة الانتشار الجغرافي، وتعتبر ليبيا في وضعها الراهن ملاذا مثاليا لها. وطالما ظلت الدولة غائبة والانقسام مسيطرا ستظل ليبيا ملاذا جاذبا، ويترتب على ذلك أن الكثير من القوى الدولية لن يميل للحلول العسكرية، التي ستأتي معها بالفوضى والتفكك الاجتماعي والفراغ السياسي. تقف ليبيا الآن على أبواب اختيار مصيري، عليها ان تتسلح لاجتيازه برؤية استراتيجية شاملة وصائبة. لكن الرؤى الاستراتيجية لاتقود إلى اكثر من رسم ملامح الطريق، أما اجتياز الطريق نفسه فيحتاج إلى ماهو اكثر من خريطة: الوحدة والتضامن والإرادة الخيرة.