أفكار وآراء

القرار الأممي وهدايا آخــر الـعـام

24 ديسمبر 2017
24 ديسمبر 2017

أ.د. حسني نصر -

ها نحن نعيش الأيام الأخيرة من العام 2017، تلك الأيام التي تتسابق فيها وسائل الإعلام والمحللين على ممارسة الطقوس السنوية المعتادة في مراجعة ما وقع خلال العام من أحداث وإعادة تقييمها، واختيار الأهم والأقل أهمية منها، والأفضل والأسوأ في السياسة والفن والأدب والسينما والرياضة وجميع مناحي الحياة، ويتفرغ فيها الجميع لتقديم حساب حصاد العام وتوقعات العام الجديد.

انتهى إذن أو كاد عام 2017 بمره وحلوه، وأن غلب الأول على الأخير، انتهى بأحزانه الكثيرة على ضحايا الحروب والإرهاب والكوارث الإنسانية، وأفراحه النادرة. لم يختلف عما سبقه واستمرت فيه الحروب والأزمات التي ورثها من الأعوام السابقة، واندلعت فيه حروب وأزمات جديدة سيورثها بالقطع للأعوام القادمة. ورغم ما شهده العالم طوال هذه السنة الكبيسة، بالمعني المجازي للكلمة وليس بالمعنى العلمي، من أحداث وحروب وكوارث ونكسات وأزمات وتراجع على جميع المستويات تقريبا، فإن أيامه الأخيرة حملت بعض الهدايا البسيطة للضعفاء والمقهورين والمظلومين والمهمشين في عالم غاب عنه العدل منذ سنوات.

لعل أول وأهم هذه الهدايا هو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر الخميس الماضي بإدانة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل الذي كان قد وقعه في السادس من الشهر الجاري. ورغم أن القرار الأممي غير ملزم، فإن صدوره بأغلبية كاسحة من دول العالم ومعارضة محدودة العدد والقيمة من أمريكا وإسرائيل وسبع دول لم يسمع الكثيرون من سكان العالم عنها ولا يعرفون مواقعها على الخريطة العالمية، يمثل هدية للعالم الذي ظل رهين الإرادة الأمريكية المنفردة تقريبا لأكثر من سبعين عاما وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهو التحدي الأبرز والأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة منذ سنوات في الأمم المتحدة بعد أن أصبحت القطب الأوحد في العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، والأهم هو انه قد يتبعه تحديات أخرى أكثر قوة، خاصة وأن قرارا مماثلا كان من الممكن أن يصدر عن مجلس الأمن بعد أن صوتت لصالحه كل دول المجلس، ولم ينقذ الهيبة الأمريكية إلا استخدامها حق الفيتو، لإسقاطه.

في تقديري فإن القرار الأممي حول القدس يمثل هدية من هدايا آخر العام ليس للعرب والمسلمين فقط ولكن لشعوب العالم كلها سواء تلك التي تدور في فلكها والمتحالفة بالإكراه معها أو تلك التابعة دون إرادتها من دول العالم النامي التي أنهكها الضغط الأمريكي الذي وصل إلى حد تهديد رئيس الولايات المتحدة الدول الفقيرة بقطع المعونات عنها إن هي صوتت لصالح قرار القدس. من شأن هذا القرار أن يعيد الاعتبار للمنظمة الدولية ويساهم في إزالة الصورة السلبية التي ترسخت عنها في السنوات الأخيرة باعتبارها منتدي للأغنياء فقط، فقد شاركت الدول الغربية الغنية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وغيرها في التصويت ضد القرار الأمريكي، إلى جانب دول أخرى تمثل أرقاما صعبة وكبيرة في النظام الدولي مثل الصين واليابان والهند، وهو ما يمثل تحولا في البيت الدولي قد يفتح المجال لاتخاذ مواقف عالمية أكثر قوة وتبتعد كثيرا عن الموقف الأمريكي في القضايا العالمية العالقة وتتمرد على الضغط الترامبي.

وبمنطق «رب ضارة نافعة» فإن القرار الأممي غير الملزم، وقبله قرار ترامب نفسه، قد يمثل حافزا للفلسطينيين والعرب والمسلمين في كل بقاع العالم، لإعادة تقييم وتصحيح أوضاعهم الداخلية والخارجية، والسعي الجاد لإعادة تقييم علاقاتها الدولية مرة أخرى . ويمكن تحقيق ذلك عبر انتهاج سياسات وطنية وإقليمية ودولية مستقلة تسقط حالة التبعية وتضع المصلحة الوطنية على حساب المصالح الشخصية الضيقة التي تصبغ علاقة كثير من الأنظمة السياسية بالسيد الأمريكي. وفي تقديري فإن العرب مطالبون الآن أكثر من أي وقت مضى بإعادة النظر في علاقاتهم غير المشروطة مع الولايات المتحدة من جانب، وفي مجمل مسيرة السلام المعطلة والبائسة مع إسرائيل من جانب آخر، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الأمريكيين لن يقدموا للعرب إلا ما تريد إسرائيل تقديمه لهم، وانهم في مواضع الاختبار والاختيار سوف يضحون برضا اثنتين وعشرين دولة في سبيل إرضاء إسرائيل التي يراها ترامب «حاضنة لأهم الديمقراطيات في المنطقة»، وهذا ما عبر عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالرئيس الفرنسي ماكرون الجمعة الماضية بباريس عندما أكد أن الولايات المتحدة لم تعد وسيطا نزيها في أية مفاوضات قادمة مع إسرائيل.

لقد شاهدنا كيف أيقظت قضية القدس وتداعياتها الشارع العربي ومن ثم الأنظمة العربية، التي سارعت بطلب فلسطيني- أردني إلى عقد اجتماع طارئ للجامعة العربية في القاهرة خلال وقت قصير وبعد توقيع ترامب على قراره بأربعة أيام، وكيف أنهم لم يكتفوا بمطالبة الولايات المتحدة بإلغاء قرار ترامب، بل دعوا دول العالم للمرة الأولى للاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. واحتشد الجميع وراء مشروع القرار المصري في مجلس الأمن، ثم وقفوا خلف مشروع القرار التركي-اليمني في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دعا الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. كل التحركات السابقة السريعة والمنجزة في نفس الوقت أثبتت قدرة العرب - إذا خلصت النوايا- على الفعل، بعد أن نجحوا في توظيف المنصات الدولية لإعادة قضية فلسطين إلى الواجهة العالمية وإعادة تسويقها بمداخل جديدة تخاطب العالم كله وليس الوسيط الأمريكي المتحيز بطبعه.

الهدية الأممية للعرب في آخر أيام عام النكبات والأزمات، تؤكد أن تأثير العرب والمسلمين في السياسة الدولية يمكن أن يتضاعف استنادا إلى هذا الإنجاز، شريطة أن تبدأ الدول العربية في مراجعة علاقاتها بدول العالم بناءً على عملية التصويت التي تمت في الأمم المتحدة، والتي كان لها الفضل في كشف الحقيقة وتمييز الدول الصديقة للعرب بحق. وإذا كان من الصعب أن تعاقب الولايات المتحدة، وفقا لتهديدات ترامب وسفيرته في الأمم المتحدة نيكي هايلي، 128 دولة صوتت لصالح القرار، فانه في الوقت نفسه يجب التواصل مع الدول الخمسة والثلاثين التي امتنعت عن التصويت، وكذلك الدول التي لم تحضر جلسة التصويت، عبر الوسائل الدبلوماسية والشعبية لشرح القضية وتأكيد عدالتها وحثها على مساندة الحقوق العربية في الجولات القادمة.