أفكار وآراء

«تجربة الخطأ والصواب» .. وضرورة الخروج الصحيح منها !!

24 ديسمبر 2017
24 ديسمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تتراكم الخبرة الإنسانية للكائن البشري؛ وفق تدرجها المعهود؛ وهو تدرج يبدأ من مرحلة الطفولة، حيث يقال إن الإنسان يبدأ في الفهم النسبي والتقليد منذ الأشهر الأولى من ولادته؛ ويستمر على ذلك إلى أن يبلغ من العمر عتيا، وهو يغير هذا، ويبدل ذلك، ويستعين بهذا، ويلغي ذلك، فهي مراوحة مستمرة في التجربة؛ يخطئ مرة ويصيب مرة، وما بين تجربة الخطأ والصواب، تتكشف النتائج شيئا فشيئا،

وبهذا الفعل تتراكم الخبرة، وتتعاظم المعرفة، ومع ذلك يستحيل أن يصل الإنسان إلى الغايات الكبرى لفهم الأشياء على حقيقتها طوال عمره المتاح له، فحتى بلوغ سن الكهولة، ستظل أفعاله ناقصة؛ حيث لم تكمل البلوغ المطلق، ولعل في هذا النقص المصاحب لحياة الإنسان، هو الذي يعطي الحياة ديناميكيتها وحيويتها، واستمرار نموها، وإلا لما وصلت إليه من تقدم في مختلف المجالات لو استطاع الإنسان أن يصل إلى غاياته المطلقة بأقصر الطرق «وإن لله في خلقه شؤون».

يأتي هذا الفهم ليؤسس للبشرية كلها محطات انطلاق؛ حيث تبدأ من نقطة ما من عمر الحياة، وتستمر كذلك إلى أن يأتي آخر ليكمل ما بدأه الأول؛ وفق تراتبية زمنية معروفة، ووفق تراكم كمي من المعرفة والخبرات الإنسانية، حتى لا تفقد هذه الإنسانية ألقها وتقدمها وقوة فعلها وتأثيرها في الحياة، وقدرتها على مجابهة مختلف المتغيرات التي تحيط بها؛ فالتغيير والتبدل سنة كونية لا محيص عنها ولا مهرب، وليس هناك شيئا سرمديا لا يتزعزع عن صورته الأصل، وهذه رسالة شديدة الوضوح للذين يقاتلون على البقاء بكل مفاهيمه دون أن تحرك فيهم هذه المعاني زعزعة القناعات، ولكي يبقى الإنسان قادر على استيعاب المستجدات من حوله في مختلف شؤون الحياة، وهذه المتغيرات والتحولات هي من صنع البشرية نفسها، وذلك وفق ما يتاح لفئة من البشر من الظروف المواتية للتغيير والتبديل والقدرة على التغيير، ما لا يتاح لفئة أخرى لظروف مختلفة، يدخل فيها الإنسان طرفا مهما لأسباب مختلفة أيضا؛ ليس هنا مكان مناقشتها؛ يحدث كل هذا لأن هناك تجربة يستفاد منها، وأن هناك فئة من البشر مرت بمثل هذه الظروف التي يستفاد من تجربتها اليوم لدى فئات جديدة ظهرت على أفق الحياة، وهذه هي الصورة العامة المتعارف عليها لدى معظم البشر، ولعلها أخذت مساحتها الكافية في اعتمادها كمنهج حياة وفق ظروف طبيعية متشابهة إلى حد ما.

ولكن: نحتاج هنا إلى وقفة أكثر تنويرية تتضح من خلالها أن صورة «تجربة الخطأ والصواب» تختلف رسالتها وتأثيراتها في التجربة الإنسانية ذاتها، فما يمر به الفرد العادي في هذا الجانب، غير ما تمر به المؤسسة؛ على سبيل المثال، وغير ما تمر به الكيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فإن كان ما يتاح للفرد في المجتمع من سلوك يعيش نفس هذه «التواترية» يخطئ مرة؛ ويصيب مرة، ويعيد ممارساته السلوكية في الخطأ والصواب مرات ومرات، فإن هذه الحالة لا يمكن أن تتكرر في الكيانات الكبرى؛ السابقة الذكر، ذلك أن ثمن التكرار يكون باهظا ومؤلما إلى حد كبير، ومعرقلا لأي جهد تنموي تسير عليه هذه الكيانات وفق استراتيجيات وخطط وبرامج؛ وما يسخر لأجل ذلك من قوى بشرية ومادية غير منكورة إطلاقا، ولذا يلزم التشديد وبصورة لا يقبل المراجعة في شأن تبني السياسات؛ سواء: الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، ووضعها في سلة «تجربة الخطأ والصواب» ولذلك ينظر إلى الدول المتخلفة من هذه الزاوية حيث لا تملك رؤية واضحة، ولا أهدافا محددة، وبالتالي فهي تعيش متذبذبة، متعرقلة، منشغلة، لا تخرج من عنق الزجاجة إلا في حالات استثنائية ضيقة جدا، والسبب أنها تعيش في هذا الخندق المتموضع الهزيل.

مارست البشرية «تجربة الخطأ والصواب» على امتداد أزمان طويلة عندما كانت لا تملك المعرفة الحقة، وعندما كانت كثيرا من الأشياء لم تفصح عن حقيقتها، وذلك لضعف الأدوات الموصلة إلى حقائق الأشياء وتفتيت جوهرها، ومع تقدم البشرية ذاتها بفعل توظيف العقل والفكر لأدوات كثيرة، استطاعت البشرية أن تخرج من عنق الزجاجة هذا وتستشرف آفاقا رحبة من المعرفة، هيأ لها نقلة نوعية في مختلف شؤون الحياة وتحررت بذلك من مستنقع «تجربة الخطأ والصواب» إلى رحابة الآفاق الممتدة، واستطاعت بذلك إلى حد بعيد أن تتوغل إلى مظان الأشياء وحقائقها، وتنتقل بتجربتها الإنسانية إلى مصاف الوضوح والسطوع، واستطاعت أن تستشرف آفاق المستقبل المنظور من خلال رؤى شديدة الوضوح ومسارات معروفة التوجهات والنتائج، وبكل أريحية، ولذلك ينظر إلى الشعوب التي ارتقت هذا المرتقى على أنها شعوب متقدمة؛ متحضرة؛ تسير وفق رؤى وخطط وبرامج، توصلها إلى الغايات المهمة في سلم نموها الإنساني والبشري إلى حد سواء، ونظر إلى الشعوب الأخرى التي لا تزال ترزح تحت وطأة «تجربة الخطأ والصواب» ولم تتحرر منها، على أنها شعوب متخلفة تقتات على ما تبقى من موروث ما عاد له مكانا اليوم في خضم تنامي عصر المعرفة القائمة على الحقائق التي لا يتنازع عليها اثنان.

وهذا كله لا ينكر جهد الإنسان المستمر في حقيقة الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من عمر البشرية، بل بالعكس يسجل نجاحات مهمة في قدرته على الاشتغال الحقيقي الناجز في سبيل البحث عن حيوات كثيرة ديناميكية معبرة عن قدرة العقل البشري في الوصول الى هذه المستويات المتقدمة من الحياة اليومية، وإن كان يسجل إخفاقا شديد الوضوح في عدم قدرة الإنسان الآخر الذي لم يتقدم قيد أنملة في ذات المسار الإنساني مع أن كلا الإنسانين يعيشان على نفس سطح هذه البسيطة، ويستظلان سماء واحدة، ويأكلان من أرض واحدة، لسبب أو لآخر، فإن تفسير ذلك يعود الى مجموعة الظروف المحفزة أو المعرقلة للجهد الإنساني لكي يتقدم ويبدع في هذه الحياة، أو ينكفئ ويتقهقر على ذاته، وهذا كله – كما هي قراءة الواقع – يعود إلى الأنظمة السياسية في كل هذه التجارب الإنسانية، سواء هذه الأنظمة تعيش مفردة «كدولة» أو تعيش مجموعات «كمنظمات» أو «تكتلات» اقتصادية أو سياسية وهي المؤسسات القادرة على رسم السياسات والاستراتيجيات والخطط والبرامج، ومجموعة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، سواء معلنة هذه الأهداف، أو غير معلنة؛ حيث يجرى تنفيذها من تحت الطاولة؛ كما يقال؛ وبما أن المسألة مرتبطة بحاضنة أكبر، فإن الجهد الفردي في ذات السياق يبقى محدودا في تأثيره على الواقع، ولكن هذا لا يلغي لأن يحاول الإنسان الفرد أيضا الخروج من مستنقع «تجربة الخطأ والصواب» ويحرر ذاته من الانزواء تحت مظلة الظل، فعليه أن يبحث لنفسه عن خطى شديدة الوضوح، ويقيم على أساسها خطواته المتلاحقة، وهو غير معذور عن القيام بهذه الخطوات الباحثة لها من موقع آخر في وسط عالم يضج بالجديد، ويسير على رؤى وأهداف شديدة الوضوح، خاصة اليوم في ظل تنامي معرفة متحققة في مختلف مجالات الحياة، ومعرفة متاحة بكل الوسائل؛ حيث لا معرفة محتكرة على فئة دون أخرى، ولا مساحة جغرافية دون أخرى، أو كيان سياسي دون آخر، يبقى فقط مستوى الهمة والحرص على الاجتهاد الصادق للخروج من مأزق التقوقع المفضي إلى البقاء في زاوية ضيقة، والتكرار في استخدام وسائل عفا عليها الدهر.

كل البشرية مطالبة؛ ليس فقط اليوم؛ للترقي المفاهيمي في مسألة «تجربة الخطأ والصواب» والخروج من عنق الزجاجة، فالحياة بكل مكوناتها محفزة لاشتعال التجارب الإنسانية، وإضافة مواد أخرى أكثر حيوية لاستمرارها وتطورها، وإن كانت التجربة تظل مقبولة في بدايات المرحلة، في كل جهد إنساني، ويقبل الخطأ أيضا في المرة الأولى، فإن التحرر منهما، والانتقال الى مرحلة أكثر وضوحا، يصبح واجبا يحتمه الواقع، وليس خيارا ثانويا، لأن المكوث أكثر في خانة «تجربة الخطأ والصواب» يصبح معرقلا لأي جهد تنموي، يفترض أن يكون له مساحة أفقية من الإنجاز الملموس وغير القابل للمراجعة لمعالجة أخطائه بين كل فترة وأخرى.