أفكار وآراء

هل السلام الدائم لا يزال ممكنا بين العرب وإسرائيل؟

23 ديسمبر 2017
23 ديسمبر 2017

د. عبدالعاطى محمد -

بعد حرب 1973 وجد المعنيون بالصراع العربي الإسرائيلي أنفسهم أمام ثلاثة خيارات: إما السلام الدائم، أو التسوية السياسية، أو الاستمرار في الكفاح المسلح. ومع أن المشهد آنذاك وجد حضورا لأنصار السلام الدائم، وأيضا لأنصار الكفاح المسلح، إلا أن الغلبة في المواقف كانت مع إيجاد تسوية سياسية.

ومع تعثر مسار التسوية اتجه الاهتمام إلى السلام الدائم. إلا أن موقف ترامب الصادم من القدس أربك مسار حل الصراع، مما جعل كل الخيارات الثلاثة مطروحة في نفس التوقيت حتى وإن تباينت في الفرص.

الاهتمام بإفساح المجال لكل الخيارات في وقت واحد يرجع لسببين رئيسيين، الأول يتعلق بالدفاع عن صدقية القرارات الدولية ورفض الانصياع لفرض الأمر الواقع المجحف بالقوة. فالقرار الذي اتخذه ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها جاء متعارضا تماما مع القرارات التي اتخذها مجلس الأمن فيما يتعلق بالمدينة مما اعتبر عدم اعتراف من جانب الإدارة الأمريكية بمشروعية القرارات الدولية وجدواها، ومن ثم كان من الواجب حقا أن ينتفض العالم ضد هذا القرار صونا للقواعد والأسس التي تحكم تصرفات الدول صغرت أم كبرت. والثاني أنه عكس موافقة هذه الإدارة على إضفاء الشرعية على وضع غير شرعي هو الاحتلال علما بأن كل الإدارات السابقة رفضت هذا الأمر. ووضع كهذا يفجر مشاعر الإحساس بالظلم الشديد مما يدفع آخرين للرد بالعنف وإن أمكن القوة المسلحة مما يضع العالم كله أمام كارثة جديدة.

ومن الصحيح أن مسألة الاعتراف وما يترتب عليه هي من خصائص السيادة لكل دولة، ولكن هذا مقبول أو مفهوم في حالة انتهاء النزاع وليس خلال وجوده لأنه في هذه الحالة يثير الريبة والشكوك في سلامة الاعتراف نفسه فالاعتراف من جانب دولة بأخرى ينطلق من مبدأ التعاون السلمي المتبادل وتوفير فرص النجاح للكيان المعترف به، وأما إن حدث خلال وجود النزاع أو الصراع فإنه بفقد هذا المبدأ ويدخل في نطاق العدوان وهو ما لا يقبله القانون الدولي ولا تستقيم معه العلاقات بين الدول. وقرار ترامب صدر في مرحلة نزاع بين طرفين أو بالأدق مرحلة صراع بين جموع الدول العربية والإسلامية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ولذلك يعد تجاوزا من الولايات المتحدة على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني خصوصا. وضد فرص السلام عموما.

أما والأمر كذلك فقد عادت مسارات المواجهة في الصراع العربي الإسرائيلي إلى الواجهة مرة أخرى وفي وقت واحد بصور جديدة بحكم تطور الأوضاع . فالأطراف المعنية غير إسرائيل والولايات المتحدة عادت لتؤكد على أن خيار السلام الدائم هو المسار الأفضل لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.. ومعنى الدائم أنه سلام يحترم موقف ومصالح كل الأطراف: العرب والفلسطينيون من جهة والإسرائيليون من جهة أخرى. وقرار ترامب منحاز للطرف الإسرائيلي ويهمل حق الطرف الآخر أي الفلسطيني، ووضع كهذا لا يحقق السلام الدائم بالطبع لأنه لن يلقى موافقة هذا الطرف. الاتحاد الأوروبي كان أبرز الداعمين لرؤية السلام الدائم ولذلك سارع بالإجماع (28 دولة) تقريبا إلى رفض هذا القرار اقتناعا منه أنه لا يؤدى إلى سلام دائم، بل على العكس إلى صراع دائم أيا تكن درجة سخونته. وأوصل رؤيته هذه إلى الولايات المتحدة فور صدور القرار وإلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وقت أن زار الاتحاد في بروكسل مؤخرا، وواجه نفس الموقف خلال زيارته لفرنسا. وهنا فإن الموقف الأوروبي لا يدافع فقط عن الحق الفلسطيني وإنما يدافع بالأساس عن الموقف الإسرائيلي حيث يرى أن أمن إسرائيل لا يتحقق بقرارات مثل التي اتخذها ترامب، وإنما من خلال الحل النهائي الذي يصنع سلاما دائما للدولة العبرية. وكان الجانب العربي قد استبق هذا الموقف الأوروبي عندما اجتمع وزراء الخارجية بالجامعة العربية وشددوا على رفض القرار والتركيز على محورية الحل النهائي والسلام الدائم القائم على القرارات الدولية ذات الشأن، ثم تم تأكيد نفس الرؤية في القمة الإسلامية.

مسار التسوية السياسية لا يزال قائما أيضا، بوصفه الموروث الأكبر من الجهود الدبلوماسية المبذولة منذ قرار مجلس الأمن الشهير 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967. ذلك القرار أسس لمسار المفاوضات السياسية على مدى نصف قرن تقريبا، حيث تضمن انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب وجاء النص الإنجليزي محذوفا منه أداة التعريف (أل) ليصبح التفاوض على أراض أي يسمح لإسرائيل بضم بعض ما احتلته منها وليجعل المسار محددا في التفاوض حول الحدود. كما تضمن القرار إنهاء حالة الحرب واحترام سيادة دول المنطقة على أراضيها مما اعتبر اعترافا من الدول العربية بإسرائيل. وجاء القرار 338 لمجلس الأمن الصادر في 22 أكتوبر 1973 مطالبا بوقف إطلاق النار والبدء فور تحقق ذلك في تنفيذ ما جاء في القرار 242. ومن الصحيح أن القرارين أشارا إلى السلام الدائم، ولكنهما وجها النظر أساسا إلى تحقيق تسوية سياسية أولا قبل الحل السياسي الشامل الذي يحقق السلام الدائم. وبعد حرب أكتوبر بست سنوات وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية السلام ، ثم تلاها الأردن لتصبح الحلول الجزئية وحول الحدود هي القاعدة (استنادا إلى مضمون القرارين السابقين).

وجاء مؤتمر مدريد للسلام ليؤسس لنقلة من الحلول الثنائية إلى الجماعية في اتجاه الحل النهائي وإقامة السلام الدائم، ولكن المسار لم يمض في طريقه من حيث التفعيل ليعود الموقف إلى الحلول الثنائية، وكان اتفاق أوسلو 1993 دليلا على ذلك. وفي أواخر عام 2000 سعى الرئيس الأمريكي كلينتون إلى التأسيس لحل نهائي أي تحقيق السلام الدائم ولكن من خلال الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكأنه أراد سلاما دائما ولكن عبر حل ثنائي!. ولم تنجح المحاولة.. ومع أن مبادرة السلام العربية عام 2002 فتحت الباب أمام الحل النهائي (السلام الشامل والدائم مقابل الانسحاب من الأرض والوفاء بالحقوق الفلسطينية)، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق، وأصبح مشهد الحل منحصرا في المفاوضات الثنائية بين السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، تلك المفاوضات التي استغرقت عدة سنوات بلا جدوى وانتهت إلى الفشل. ومع ذلك عادت واشنطن لتتحدث عن استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأن لديها ما يسمى بصفقة القرن التي تتأسس عليها أولا وتقرها الأطراف العربية المعنية مباشرة بالصراع في نفس الوقت. والاتحاد الأوروبي ذاته لم يقطع تماما باستبعاد واشنطن من المفاوضات.!

وأما الكفاح المسلح فإنه لم يخرج من دائرة حل الصراع برغم هيمنة الحلول السياسية على الموقف، وحتى ياسر عرفات نفسه كثيرا ما كان يدعو العالم بألا يجعل غصن الزيتون الذي يحمله في يده يسقط، في إشارة منه أن الفلسطينيين لا يزالون يحملون السلاح في اليد الأخرى. وجاءت انتفاضة 1988 ثم 2000 بقيادة حماس لتؤكد أن خيار المقاومة المسلح لا يزال حيا، وبعد قرار ترامب انتفض الفلسطينيون مجددا مستخدمين الحجارة للتأكيد على رفض الاستسلام.

المشكلة اليوم هي أن الأطراف العربية لم تتفق على موقف واحد فيما يتعلق باختيار أي من المسارات الثلاثة: السلام الدائم أم التسوية أو الكفاح المسلح، بل تركت الساحة لكل هذه المسارات معا وفي وقت واحد. اهتمامها انصب على الحل النهائي أي تحقيق السلام الدائم، وهذا موقف جيد بكل تأكيد خصوصا أنه مدعوم من الاتحاد الأوروبي وقد يؤدي إلى مسار دولي مختلف بعيدا عن الدور الأمريكي. ولكن الاتحاد الأوروبي لن يصل بموقفه إلى حد الصدام مع الولايات المتحدة، والأطراف العربية لم تكشف عن خطواتها المستقبلية لتغيير الموقف الأمريكي من داخله. ومن ناحية أخرى فإن السلطة الفلسطينية لم تعلن إلغاء أوسلو لأنها لا تقوى على تحمل تبعات الإلغاء ولم تفعل التهديدات السابقة بأنها ستحل نفسها لتحمل إسرائيل كل تبعات استمرار احتلالها للأرض، هذا بينما تتواصل صور الاحتجاجات الفلسطينية دون أن يحدث ذلك أثرا في الموقف الدولي تجاه الإدارة الأمريكية.

ما حدث في مواجهة المشهد العصيب هو أن الأطراف العربية المعنية مباشرة بالصراع خطت خطوة واحدة في كل مسار هي في حد ذاتها ليست كافية ولا على مستوى ضخامة الخطر، بينما كان المنتظر هو أن تحدد صراحة أي مسار تريد وأن توجد الآليات المؤثرة لتحقيقه فلكل مسار مقوماته وتبعاته وتكلفته، بينما التشتت في أكثر من اتجاه لن يخدم سوى الموقفين الإسرائيلي والأمريكي.