abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش.. ومتون: عندما تطحن «رحى» «الصحوة» الأحلام!

23 ديسمبر 2017
23 ديسمبر 2017

عبدالرزّاق الربيعي -

[email protected] -

هل يولد الإنسان شرّيرا ؟ أم الظروف هي التي تجعله كذلك؟

سؤال حيّر علماء النفس، وفي مقدّمتهم (فرويد) رائد المدرسة التحليلية في علم النفس الذي رأى أن « الغرائز الفطرية اللاشعورية التي تكون مخزّنة على شكل أفكار، ومخاوف، ورغبات مكبوتة لا يعيها الإنسان هي المحرّك الأساسي لسلوكه»، وبذلك فالشرّ سلوك غريزي، عكس (واطسون) رائد المدرسة السلوكية الذي يرى الإنسان صفحة بيضاء، لكن الخبرات الحياتية، والتجارب المؤلمة، هي التي تصيغ شخصية الإنسان، وجاءت المدرسة السلوكيّة الحديثة لتؤكّد «أن الإنسان صنعة البيئة والتنشئة الاجتماعية»، ويبدو أنّ عباس الرحبي كاتب مسرحية (الرحى) التي قدّمتها فرقة ( الصحوة) للمخرج د.شبير العجمي، ضمن فعاليات مهرجان المسرح العماني السابع، يميل إلى المدرسة الثانية، وهذا ما كشفه في جملة وردت في النص، جرت على لسان الفتاة التي سقتها عمتها السم انتقاما من أمها، وطعنتها في شرفها، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، تقول لوالدها «لا تؤذي عمتي إنّها إنسان طيّب نحن من زرع له الأنياب»، وذلك يؤكّد على أثر البيئة على سلوك الإنسان في عرض كشف عن عوالم الأنثى الداخلية، وصراعاتها، والانتقام، فقد عانت العمّة (هجران) من تهميش المحيط لها بعد إصابتها بالجدري، فيهجرها حبيبها(غيلان)، وهذا ما تلخّصه بجملة تقولها لـ(عناية) ابنة شقيقها هي» غنّي فما من جرح إلا له شاطئ إلا جرح المرأة بجمالها، آه أيتها الرحى لماذا دون الأخريات يعضّ الجدري وجهي بأسنانه القبيحة؟» فنرى أنفسنا أمام امرأة مجروحة بشيء عزيز هو جمالها، فالجدري شوّه وجهها ، لذا توجه سؤالها إلى الرحى التي هي معادل للزمن، وتواصل «لا ضفيرة فوق الرأس» دلالة على الصلع واليباس، وعندما تكشف عن صلعتها، تظهر عدوانيّتها، و أحقادها، خصوصا أن زوجة شقيقها عاملتها بقسوة، فتحوّلت إلى إنسانة شرّيرة تصبّ جام غضبها على ابنة شقيقها (عناية ) التي تربّت في أحضانها، لكنّها حينما تعلم أنّ حبيبها (غيلان) قادم من أجل طلب يد (عناية) التي ترفض هذا لعلمها بعلاقة الحب بينه، وبين عمّتها، يبدأ الانتقام ، فتدعي أن البنت ليست عذراء، وعندما تسأل الأم ابنتها: من الذي فعلها، ودنّس شرفها؟ تجيب عناية «فعلها الكره،الحقد الشيطان، الذي مسح قلوب الناس، فعلتها القلوب الصفراء التي بصقت لعابها بطعامنا الآمن»، وتتساءل عناية «كيف تحول هذا العشق إلى حرائق أحالت كل شي إلى رماد؟»، وتتواصل الأحداث، وتسقي العمّة (هجران) الفتاة (عناية) السم، لكي تعذّب أمّها، فتموت (عناية)، وهو أمر لم تتحمّله العمّة ، فتطعن نفسها بالخنجر الذي طلبت من شقيقها أن يقتل به ابنته غسلا للعار!

وبذلك الحدث المأساوي ينتهي العرض الذي يبدأ بدوران عجلة الرحى، وكأنها تطحن الناس، فتظهر رائحة الموت، وتبقى الإضاءة مسلّطة عليها إلى نهاية العرض، لأنّ عملية الطحن مستمرة، ويظل الحقد في النفوس، لقد حاول المخرج(د.شبير العجمي) الاشتغال على مستويين:العادي كما رأينا في النص، والرمزي الذي حاول من خلاله إظهار عدوانيّة العمّة التي أدّت دورها باقتدار الفنّانة سميرة الوهيبية، وقد أوحت بهذا عندما عبّرت عن ذلك من خلال الأداء الحركي بتجسيدها حركات مماثلة لحركة الأفعى، وزحفها، وعندما تكشف عن صلعتها تتعرى من قيمها، وتظهر (أنيابها)، وفي المشهد الأخير الذي تموت به البنت والعمّة، رأيت أن العمة،بهذا الفعل الشنيع، قتلت ماضيها، وطفولتها، فهما شخصية واحدة، والصراع يدور داخل «النفس الأمّارة بالسوء»! وقد عزّز سينوغرافيا العرض من هذا التفسير، فرأينا المسرح قسّم إلى قسمين، فعلى الجهة اليمنى دلاء شبه فارغة معلّقة بحبال هي حبال الأحلام التي تعيش بقلب (هجران) بعودة حبيبها(غيلان)، وتلوذ بها دائما كلّما انتعش الأمل، وعلى يسار المسرح نرى رحى، أما خلفيّة المسرح ، فكانت على شكل قماشة بيضاء تتغير الألوان الساقطة عليها بتغير الحالات، وقد جعل القماشة بيضاء إشارة إلى نقاء (عناية)، وطهارتها، وجاء الأداء الحركي الذي صمّمه الفنان (سعيد عامر) ليقدّم صورة تعبيريّة عن المشاعر الداخلية لـ(هجران)، و(عناية)،التي أبدعت بأداء شخصيّتها (بلقيس البلوشية) الشابّة التي أدّت دور البطولة في ظهورها الأول بمسرحيتي(بنت الصيّاد) التي أخرجها خليفة الحراصي، وقدّمتها فرقة هواة خشبة المسرح، فعّزّزت حضورها في المسرح العماني بهذا الدور، ووقفت بكل اقتدار مع محترفين كـ(سميرة الوهيبية)، و(أمينة جميل) الأم المتسلّطة على العمّة، والحنونة على البنت، و( وليد الغدّاني) الذي قام بأداء دور الأب بمساحة قصيرة، لكنّه أدّاها بتمكّن في عرض تراجيدي، إذ لم يبق على الخشبة حلم إلا طحنته ( الرحى)!