أفكار وآراء

حُلُول الثورة الصناعية الرابعة

20 ديسمبر 2017
20 ديسمبر 2017

جيم هوجلاند- واشنطن بوست -

ترجمة قاسم مكي -

تسيطر السيارات والشاحنات ذاتية القيادة على الطرق. وتتولى أجهزةُ الإنسانِ الآلي (الروبوتات) وظائفَ «العملِ» في المصانع. وتستأجر الهواتفُ الفائقة الذكاء طائرات مروحية، بل حتى طائرات عادية، من شركة «أوبر» لنقل أصحاب هذه الهواتف عبر المناطق الحضرية المتمددة. كما تستخدم الآلاتُ اللوغريثماتِ لتعليمِ نفسِها مهاما إدراكية كانت تستلزم في السابق ذكاء بشريا مما يقضي على ملايين الوظائف الإدارية والصناعية. هذه مشاهد عن عَالَمٍ سَيُعَادُ إنتاجُه، في معظمه خلال الخمسة إلى العشرة أعوام القادمة، بواسطة اختراقاتٍ تِقَنِيَّةٍ تشكل الثورة الصناعية الرابعة. يمكننا أن نلمح نفس هذه المشاهد (الرؤيوية) ليس فقط في وادي السيلكون. (وادي السيلِكون جزء من منطقة خليج سان فرانسيسكو اشتهر بشركات التقنية العديدة التي انطلقت منه أو تتخذ لها مكاتب فيه ومن أهمها جوجل وآبل وفيسبوك وياهو- المترجم ). بل يمكننا أن نجد هذه المشاهد أيضا في مراكز البحث بباريس ومصانع السيارات الكهربائية الصينية أو حتى في مراكش المغربية قرب الصحراء الكبرى.

لكن الإحلال التقني في القرن الحادي والعشرين مختلف. ففي الماضي كانت لدى المجتمعات مهلة أعوام كي تتواءم مع التغيير المدفوع بمحرك البخار والكهرباء والحاسب الآلي. أما اليوم فالتغيير فوري وموجود في كل مكان. وهو ينتشر «رقميا» حول العالم في نفس الوقت. وتصحو الحكومات عند كل المستويات وفي كل القارات «فجأة» على التحولات المتسارعة لوسائل التواصل الاجتماعي وأشكال اللوغريثمات الأخرى والذكاء الاصطناعي مما أخرجها من سيطرتها بل حتى من إدراكها لها (حملة ترامب الانتخابية وروسيا في عام 2016 على سبيل المثال). ما جعلني أدرك أن حياة الأمريكيين على وشك التعرض لإحلالات تقنية أكثر اكتساحا من تلك التي حدثت في العقد الماضي مشاركتي في مشروع بحثي حول التكنولوجيا والحُكم بمعهد هوفر في جامعة ستانفورد هذا العام. فالسيارات ذاتية القيادة والحوسبة السحابية وأسراب الطائرات الآلية التي تتولى توصيل المشتريات إلى باب بيتك أو تغيِّر من استراتيجيات خوض الحرب البحرية والبرية كلها مفاهيم معروفة جيدا. لكن يبدو لي مفاجئا أنها بجانبي الآن.

وكذلك رؤى التغيير المذهلة في وادي السيلكون والتي كانت حاضرة أيضا ضمن أجندة مؤتمر السياسات العالمية السنوي الذي عقده معهد العلاقات الدولية الفرنسي في (مراكش قرب) الساحل الإفريقي للمحيط الأطلسي الشهر الماضي . لقد تقاسمت القضايا المعهودة من شاكلة سياسة التوازن الدولي للقوى ومتاعب الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا من الاتحاد أجندة المؤتمر مع قضايا أخرى مثل إنترنت السيارات (وهي نسخة أخرى من إنترنت الأشياء) وهشاشة وضع الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية التي تدور حول الأرض الآن (عددها 5000 قمر صناعي.) هذه ليست قضايا مجردة بالنسبة للمغرب الذي يستضيف المؤتمر. فقد صار الشهر الماضي أول بلد إفريقي يطلق قمرا صناعيا تجسسيا في الفضاء. وتعتبر المملكة المغربية لاعبا رئيسيا في الجهود التي ترعاها الأمم المتحدة لترتيب استراتيجية دولية لاحتواء التغير المناخي.

لم يتطرق المؤتمر إلى سياسات الصين تجاه تايوان أو الهند. بل بدلا عن ذلك تم التنويه بأن الصين تنتج سيارات كهربائية أكثر من باقي العالم كله في سياق حملة صينية لا هوادة فيها لتقليل التلوث. وقال أحد المتحدثين إن الصين «تتحول أيضا إلى معمل عالمي إلى جانب كونها مصنعا عالميا.» وهو يشير بذلك إلى تطوير الصين المطرد للذكاء الاصطناعي في كل أشكاله المدنية والعسكرية. وتتفاوت القوى الكبرى تفاوتا واسعا في تسخير التحول التقني لمصالحها الوطنية. لقد نتج عن ذلك عالمٌ جديد من قطبين ويرتكز على التقنية بدلا عن الترسانات النووية. والقوتان العُظْمَيَان اليوم هما الولايات المتحدة والصين. لقد امتنعت حكومة الولايات المتحدة عن التدخل وتركت قوى السوق تطور شركات تقنية عملاقة لها امتدادات عالمية. واختارت الصين المنافسة المباشرة وأبقت فيسبوك وجوجل وشركات أخريات بعيدا عن أسواقها. وفي الأثناء سَعَت للحصول على الملكية الفكرية لشركاتها الوطنية. هذا فيما تترك أوروبا شركاتِ التقنية الأمريكية تدخل أسواقها وتنظم نشاطها بدلا عن منافستها. أما روسيا فحوَّلت تقنية المعلومات إلى سلاح وأضافت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ترسانتها من الجنود والصواريخ والدبابات. لقد شرع الدبلوماسيون وواضعو الاستراتيجيات في تقصي هذا التقاطع المتمدد بين التقنية والشؤون الدولية بأمل إيجاد سبل لمواءمة قواعد الردع التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة واتفاقيات ضبط التسلح مع مهددات الفضاء الالكتروني. ويرتجف بعض الخبراء من فكرة إدراج الذكاء الاصطناعي في أنظمة القيادة والسيطرة الوطنية مما يقلل كثيرا من الوقت اللازم لتعامل البشر مع الصواريخ المعادية أو أشعة الليزر. لقد انطلقت دعوات موجهة إلى الحكومات للشروع في التصدي للمشاكل العادية الملحة التي أوجدها الأثر الإحلالي للتقنية على أسواق العمل الداخلية والأنظمة السياسية التي تزداد هشاشتها.

فكثيرا ما تتطلب الوظائف التي يوجدها الذكاء الاصطناعي والأتمتة (فيما هما يزيحان في الأثناء الوظائف التي انتهى أوانها) إعادة تدريب مستمرة وتغييرات متعددة للمسارات الوظيفية ومواقع العمل. وتشير جهات التوظيف الأمريكية إلى وجود 6.1 مليون وظيفة شاغرة في الوقت الحاضر، غالبا بسبب افتقار المتقدمين لهذه الوظائف إلى المهارات المطلوبة أو الحراك الوظيفي (القدرة على الانتقال من وظيفة الى أخرى، جغرافيا أو مهنيا- المترجم). وثمة إقرار واضح (في كل مكان) من مدينة بالو ألتو بولاية كاليفورنيا الأمريكية إلى مراكش المغربية بأن ثورة الاتصالات المتجسدة في وسائل التواصل الاجتماعي أفرغت الأحزاب السياسية والأنظمة الديموقراطية من مضمونها ومكَّنت الديماغوجيين من استثارة مشاعر الغوغاء والتحكم بهم «عن بُعْد». العالم يدور، كما ظل يفعل دائما. ولكنه الآن يدور في حيِّز ضيق أو بالأصح على شريحة حاسب آلي .