أفكار وآراء

اليمين الشعبوي والحكومة النمساوية الجديدة

20 ديسمبر 2017
20 ديسمبر 2017

عبد العزيز محمود -

تعهد «كورتس» خلال لقائه برئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي، باستمرار الحكومة النمساوية كشريك موثوق به داخل الاتحاد الأوروبي، لكنه دعا إلى إصلاحات تستهدف تركيز الاتحاد الأوروبي على حماية الحدود الخارجية، ومنح الحكومات الوطنية مزيدا من السلطات، وهو ما ستطالب به النمسا خلال توليها رئاسة الاتحاد في منتصف عام 2018 .

بنجاحه في تشكيل حكومة ائتلافية من المحافظين واليمين الشعبوي، بعد ستة أسابيع من انتخابات مبكرة، أصبح سيباستيان كورتس رئيس حزب الشعب، المستشار الـ25 للنمسا (منذ إعلان الجمهورية الأولي في عام 1919) وأيضا أصغر رئيس حكومة في العالم، بينما أصبحت النمسا ثالث دولة أوروبية يشارك فيها الشعبويون في الحكم بعد النرويج والمجر.

ولم تكن مشاركة اليمين الشعبوي في الحكومة النمساوية الجديدة حدثا مفاجئا، خاصة بعد هيمنة الجناح اليميني على «حزب الشعب المحافظ»، الذي يتصدر المشهد السياسي، وانهيار التحالف بين الشعب والديمقراطيين الاجتماعيين، وتنامي الغضب بين غالبية النمساويين تجاه الهجرة غير الشرعية.

ومع إعلان نتائج الانتخابات التي أجريت في أكتوبر الماضي، بدا واضحا أن النمسا تتجه نحو أقصى اليمين، بعد فوز حزب الشعب بالمركز الأول، وحصوله على 31.5٪ من المقاعد في المجلس الوطني (الغرفة التشريعية الثانية في البرلمان النمساوي)، بينما جاء حزب الحرية اليميني الشعبوي بجذوره النازية في المركز الثالث، بعد حصوله على 26٪ من المقاعد.

وكان فوز الحزبين بـ113 مقعدًا من أصل 183 مقعدًا داخل المجلس الوطني، نتيجة طبيعية لتعهداتهما بتشديد القيود على الهجرة غير الشرعية وتدفق المهاجرين، والتصدي لما وصفاه بمحاولة «أسلمه» النمسا، وإقامة مجتمعات موازية فيها، يعتبرانها تهديدا للهوية الوطنية ولدولة الرفاه في بلادهما .

ولضمان الأغلبية داخل البرلمان، قرر «كورتس» التحالف مع اليمين الشعبوي، بعد قيامه بفك تحالفه مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي حصل في الانتخابات على 26٪ من المقاعد، وانتقل إلى المعارضة، إلى جانب منتدى النمسا الجديدة الليبرالي (قائمة بيتر بيلز)، والذي حصل على 4،4٪ من المقاعد.

وبعد ستة أسابيع من المحادثات نجح المحافظون واليمين الشعبوي في تشكيل ائتلاف حكومي، بعد اتفاقهما على تقاسم المقاعد الوزارية بالتساوي تقريبا (8 وزارات للشعب و6 للحرية)، وتقديم تنازلات متبادلة فيما يتعلق بإصلاح التعليم وقوانين العمل والحد الأدنى للأجور والبيئة.

ومن فوق تلة مطلة على العاصمة فيينا، حيث دارت معركة أنهت حصار العثمانيين لها في عام 1683، أعلن رئيسا حزبي الشعب والحرية اتفاقهما على تشكيل (ائتلاف الفيروز)، نسبة للوني الحزبين (الأسود للشعب والأزرق والأحمر للحرية)، وكان اختيارهما لهذا الموقع تعبيرا عن موقف مشترك من الإسلام والأقلية المسلمة في النمسا التي تمثل 4٪ من السكان.

وبموجب هذا الاتفاق تولى «كريستيان كورتس»، رئيس حزب الشعب، منصب المستشار، في الحكومة الجديدة التي تضم 15 وزيرًا، وتولى حزبه مسؤولية ثماني وزارت منها المالية والزراعة والعدل، بينما تولى هاينز كريستيان شتراخه، رئيس حزب الحرية اليميني، منصب نائب المستشار ووزير الرياضة والخدمات العامة، وشغل حزبه ست مقاعد وزارية من بينها الدفاع والخارجية والداخلية، مما يضمن له السيطرة على معظم الأجهزة الأمنية.

ومن جهته اختار «كورتس» عددًا من أصدقائه المحافظين كوزراء في حكومته، بعضهم لم يسبق له المشاركة في الحكم، بينما تولت «كارين كينسل»، خبيرة القانون الدولي، وزارة الخارجية، و«هيربرت كيكل»، أمين عام حزب الحرية، وزارة الداخلية، و«ماريو كوناسيك» وزارة الدفاع، والثلاثة يمثلون أقصى اليمين في النمسا.

ولم تكن هذه أول مشاركة لليمين الشعبوي في حكم النمسا، فقد شارك حزب الحرية في حكومة ائتلافية برئاسة المستشار «فولفجانج شوسل» في عام 2000، وسط تهديدات من الاتحاد الأوروبي بمقاطعة النمسا، خوفا من إضفاء الشرعية علي اليمين الشعبوي في أوروبا. يذكر أن حزب الشعب الذي تأسس في عام 1945 يهيمن على المشهد السياسي في النمسا منذ عقود، ممثلا ليمين الوسط بأيديولوجية كاثوليكية محافظة، بينما يمثل حزب الحرية الذي أسسه نازيون سابقون في عام 1956، أقصى اليمين بمواقفه القومية المتطرفة التي تركز على الهوية الألمانية (88٪ من سكان النمسا من أصول ألمانية) ومعاداته للأجانب والمهاجرين والأقليات.

ويتبنى الحزبان مواقف مشتركة ضد الهجرة، للحيلولة دون تكرار موجات اللجوء التي شهدتها النمسا في عام 2015، ومع إجراء تعديلات علي قوانين العمل، طالبت بها جمعيات رجال الأعمال، لكنها تثير قلقا لدى اتحاد العمال والاشتراكيين الديمقراطيين. كما يدعو الحزبان إلى تعزيز العلاقات مع إسرائيل، والوقوف ضد كل ما يعتبر معاداة للسامية، وإلى منع تركيا من دخول الاتحاد الأوروبي، وتهدئة العلاقات بين روسيا والغرب، في ظل اتفاق للشراكة بين حزب الحرية النمساوي وحزب روسيا الموحدة، الذي يساند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وبمشاركة حزب الحرية في الحكومة النمساوية الجديدة، يواصل اليمين الشعبوي تمدده في أوروبا، بعد دخول حزب البديل من أجل ألمانيا إلى البوندستاج الألماني، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، واحتفاظ حزب التقدم النرويجي بموقعه في الائتلاف الحكومي، وهيمنة القوميين (حزب فيدس) على الحكومة البلغارية، ومشاركة الجبهة الوطنية في انتخابات الرئاسة بفرنسا، وحصول حزب الحرية على المركز الثاني في انتخابات هولندا.

هذا التمدد الشعبوي يثير قلقا متزايدا لدى الاتحاد الأوروبي، وهذا ما دفع المستشار النمساوي الجديد «سيباستيان كورتس» للتوجه إلي بروكسل للقاء كبار قادة الاتحاد لتهدئة مخاوفهم جراء مشاركة اليمين الشعبوي في الحكومة النمساوية الجديدة.

وتعهد «كورتس» خلال لقائه برئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي، باستمرار الحكومة النمساوية كشريك موثوق به داخل الاتحاد الأوروبي، لكنه دعا إلى إصلاحات تستهدف تركيز الاتحاد الأوروبي علي حماية الحدود الخارجية، ومنح الحكومات الوطنية مزيدا من السلطات، وهو ما ستطالب به النمسا خلال توليها رئاسة الاتحاد في منتصف عام 2018.

والآن وبعد أن أصبح اليمين الشعبوي شريكًا في الحكومة النمساوية الجديدة، التي يتوقع أن تحكم لمدة خمس سنوات، يبدو أن النمسا مقبلة على تحولات، حيث تسعى الحكومة الجديدة إلى أن تتحرك بأسلوب تدريجي، حتى لا تثير ردود فعل عنيفة ضدها، في الداخل أو في الخارج.

صحيح أن هذه التحولات لا تعني الانزلاق نحو النازية، أونحو أهداف شعبوية غير قابلة للتطبيق، لكن الصحيح أيضًا هو أن النمسا سوف تصبح أكثر تشددًا تجاه الهجرة والأقليات والإسلام وأوروبا الموحدة كذلك، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج على مستويات عديدة، داخل النمسا، وكذلك في علاقاتها داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه.