أفكار وآراء

جدوى تحسين الاستهداف للفقراء

20 ديسمبر 2017
20 ديسمبر 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

شارك البروفيسور من اصل استرالي «مارتن رافاليون» مدير البحوث السابق بالبنك الدولي والاستاذ في جامعة جورج تاون مؤخرا في واحدة من النقاشات المثيرة للغاية حول تحديد من هو الفقير وكيف نصل إليه ؟. نظم النقاش «منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وتركيا وايران» وأدار الحوار مع رافاليون كل من الدكتور ابراهيم البدوي - مدير المنتدى- والدكتورة شيرين الشواربي استاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة. استعرض رافاليون نتائج دراسات استغرقت 30 عاما من اجل وصول افضل الى الفقراء وأفادنا بمادة خام غنية جدا للنقاش ،غير ان الجدل الذي تعرضت له دراساته ودراسات غيره حول تحسين الاستهداف وضرورة زيادة جودة ودقة المعايير المستخدمة في تحديد الفقراء ومستحقي المساندة ، وقد أغراني حديثه بأن اطلب منه ان يتقبل مزحة تقول ان التحسين يحتاج الى تحسين وتحسين التحسين يحتاج هو الآخر الى تحسين ...وبحلول 2030 سيكون عدد العاملين على تحسين الاستهداف قدر عدد الفقراء في العالم .

قال مارتن ان عدد الفقراء انخفض من 1.8 مليار فى 1980 الى 800 مليون فى 2014 ما يدل على نجاح جهود مكافحة الفقر التى تقودها الامم المتحدة والبنك الدولي .لكن الحقيقة تقول اننا خفضنا الفقر الأدنى فقط وهناك تجاهل تام برأيه لتحريك الحدود الدنيا للفقر او عتبة الفقر الأدنى لأن تحريكها سيجعل أعداد الفقراء تظهر اكبر مرة أخرى ما يجعل المجتمع يشير الى فشل السياسيين ولهذا يقاوم السياسيون هذا الأمر . لكن مارتن ظل قلقا طوال الوقت لسبب آخر أيضا وهو ان قياس الفقر يجب ألا يتوقف عند الدخل والاستهلاك فقط فعامل مهم جدا في الموضوع هو المقارنة بالآخرين. وقد ذكر لنا ان المغنية الامريكية جانيس جوبلين - والتي بدأت تغني فقط قبل 3 سنوات من موتها- تقول في إحدى أغنياتها : يارب لماذا لا تدبر لي مرسيدس فأنا اتألم لأن أصدقائي جميعا اشتروا بورشة ! ومعنى ذلك ان الإنسان لا ينظر الى استهلاكه مجردا بل بالمقارنة مع الآخرين. وقد اختلف كثيرون مع وجهة النظر هذه لأنها قد تميع مفهوم الفقير وتؤدي في النهاية الى اعتبار أغلبية البشرية فقراء . لكنني رأيت فيها شيئا حقيقيا وتنطوي الفكرة على معنى إنساني مهم . قد قال رافاليون نفسه انه ممن يساندون عملية إعادة التوزيع عالميا وان معدلات الاستهلاك عند الأغنياء ليست سبب سعادتهم واشار الى روبرت فرانك من جامعة كورنيل والذي يؤكد دوما ان هناك مخاوف قوية من الاستهلاك المبالغ فيه والذي ليس له مبرر واضح فضلا عما يسببه من دمار للموارد النادرة. ونبه مارتن الى قول ادام سميث ان العامل لا يستطيع ان يتواجد في أماكن معينة بسبب زيه او مظهره عموما او لعدم قدرته على الإنفاق الذي يتطلبه مثل هذا المكان . وعلق بأن الاحتواء الاجتماعي مهم للسلام الاجتماعي فلا يجوز ان تكون هناك أماكن مقصورة على قوم دون آخرين ، وزاد بأن تكاليف الاحتواء او القدرة على العيش المشترك في الأماكن العامة يجب ان تؤخذ في الاعتبار عند قياس الفقر .

وعندما قال مارتن ان اليمنيين يستهلكون القات ليس لأنه بمثابة ( كيف )  ولكن لأنه يجمع شمل الاصدقاء والمعارف فهو نوع من الاحتواء الاجتماعي حيث يتواجد في جلسة التعاطي الغني والفقير وقد اختلف معه هنا كل من الدكتورة كريمة كريم استاذ الاقتصاد بجامعة الازهر وآخرون ورأوا ان الألفة الاجتماعية يمكن ان تتحقق بوسائل أخرى بعيدا عن الكيف الذي يؤثر بشدة على الصحة.

نبه مارتن والحضور الى اهمية اخذ معايير معينة في الاعتبار عند قياس الفقر مثل القدرة على الوصول الى السلع العامة ومعدلات وفيات الامهات الحوامل ومعدلات وفيات الاطفال الرضع ومستوى ارضيات المنازل ومستوى التعليم او الامية الخ . وقد قدمت مداخلة امل ان تحظى بالتأمل اذ قلت انه يمكن الوصول الى الفقراء ببساطة من خلال ما يوجد بأمعائهم من طفيليات او بكتيريا .. فما يصابون به لا يصيب غيرهم والتحاليل البسيطة كفيلة بالأمر . ورد مارتن بالقول ان ذلك ينتمي عموما الى مذهب المنادين بتحليل نوعية الغذاء للفقراء وما يصيبهم من أمراض مثل تقزم الأطفال والأنيما غير ان ذلك نفسه فيه مفارقات فبينما يقول المنطق ان الفقير يصاب بكل تأكيد بالنحول فإننا نجد عددا كبيرا من النساء الفقيرات بصفة خاصة - ومصر نموذجا - مصابات بالسمنة ، وتبين ان السبب هو أنهن لا يأكلن بروتينات بقدر ما يأكلن نشويات لأنها الأرخص ومن هنا جاءت البدانة الخادعة .

حذرت الدكتورة هبة حندوسة وهي اول مدير لمنتدى البحوث من الإفراط في الركون الى الدعم النقدي لأنه يضعف الرغبة في العمل والمبادرة عند كثيرين وقالت ان تجربتها مع الفتيات في صعيد مصر تؤكد ان سكان الأوساط الفقيرة في حاجة الى تغيير حياتهم بتدريبهم على الحرف والإنتاج وتعريفهم بالأسواق وتسهيل حصولهم على تمويل ميسر ومساندة في التسويق وذلك اهم بكثير عندهم من أي تحويلات نقدية. ونقل الدكتور جودة عبد الخالق استاذ الاقتصاد ووزير التموين الأسبق المناقشة هذه الى مدى أبعد فقال ان المعونات الاجنبية ارتبطت في الأغلب بزيادة معدلات الفقر وان الأوان ان نفكر في تحسين مستويات المعيشة قبل ان نتحدث عن تحسين الاستهداف للفقراء ورد مارتن رافاليون بمثل غريب اذا اكد - نقلا عن كاتب في نيويورك تايمز - ان الامريكيين يشترون أوراق يانصيب بقيمة تساوي فجوة الفقر في العالم وان المعونات الاجنبية تشكل نصف تلك الفجوة ايضا ومعنى هذا ان التمويل المطلوب لتحقيق خطة القضاء على الفقر يسهل تدبيره بالفعل لكن الأهم منه رفع كفاءة استخدام الأموال وبناء القدرات في مجتمع الفقراء والقضاء على الإقصاء الاجتماعي.

وصدمنا رافاليون حين قال انه احيانا ما تتواجد الموازنة الكافية لمكافحة الفقر لكن نحو 75 % منها يضيع او يهدر في الفساد وسوء التوزيع ولغياب المعلومات. وعند ذلك اكد الباحث الدولي الشهير في اسواق العمل راجي اسعد - الاستاذ في جامعة مينسوتا بأمريكا - ان الدراسات توضح ان الدعم السلعي لا يزال افضل في الكثير من البلاد لان الأسواق غير الناضجة او المشوهة والمليئة بكل اشكال الاحتكار والاستغلال ترفع الاسعار بمعدلات لا تستطيع الزيادات في التحويلات النقدية للأسر الفقيرة ان تجاريها.

واعلن مارتن ان الفقر مسألة فردية وليس أسرية وان كان الاستناد الى مسوح الدخل والإنفاق للأسر أمر مهم وكانت تلك أيضا من القضايا الخلافية معه وقد اشار متحدثون الى ان ذلك ربما يجوز في دول متقدمة أو دولة مثل الولايات المتحدة يمكن ان يكون فيها أخ مليونير وأخوه الثاني مشردا بيد ان الأمر ليس كذلك في اغلب الدول النامية. كانت آخر النقاط الملفتة هي اهمية الصدق في التعامل مع الفقراء وقد قدم مارتن تفسيرا متماسكا لكون العمال الامريكيين - والبيض بشكل خاص - قد انتخبوا ترامب اذا قال ان الساسة الامريكيين وعدوهم اكثر من مرة بانهم سيعوضونهم عما خسروه بسب العولمة لكنهم لم يفوا بالوعود فكان طبيعيا ان ينتخبوا رجلا يقول انه سيحطم هذه العولمة نفسها . بل وكان قد قيل ايضا ان الحكومة الامريكية ستطور مهارات العمال الذين هربت مصانعهم الى الخارج ليستطيعوا الانتقال الى مصانع اخرى لكن ذلك ايضا لم يحدث، ثم اختار العمال أيضا ترامب الذي وعد بأن يجعل المصانع المهاجرة تعود الى أمريكا . لم يكن لدى احدنا اعتراض فالصدق منجاة كما نقول بيد ان البعض همهم بأن نجاح ترامب جاء أيضا نتيجة عوامل أخرى لا تقل أهمية.