الملف السياسي

حسابات خاطئة وتداعيات سلبية

18 ديسمبر 2017
18 ديسمبر 2017

د. صلاح أبو نار -

ترامب لا يعاني من مشاكل، في تأييد قاعدته السياسية الخاصة، تجاه موقفه من إسرائيل. وفقا لشبلي تلحمي يرى 59% من الجمهوريين أن ترامب يؤيد إسرائيل، وهو نفس ما يراه 66% من المسيحيين الإنجيليين قاعدته الانتخابية الأكثر صلابة.

بمجرد أن ننتهي من مراجعة تحليلات مراكز الأبحاث المرموقة، لقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، سيدهشنا مدى سلبية التوصيفات التي أضفاها عليه بعض أبرز المحللين، من انطوني كوردسمان إلى مارتن اينديك إلى شبلي تلحمي. يجمع هؤلاء على انه قرار انطلق من حسابات خاطئة، ستقود إلى تداعيات شديدة السلبية. والأخطر أنه لا يناقض فقط الإجماع الدولي والشرعية الدولية، بل أيضا بعض أهم مرتكزات ومنطلقات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة على مدى عقود.

في جوهرها تمثل القدس جزءًا من قضية التحرر الوطني الفلسطيني، يحتل بحكم حقائق التاريخ الفلسطيني ومنطق الرمزية الدينية، مكانة مركزية في نضال الفلسطينيين من أجل استعادة أرضهم المحتلة وتأسيس دولتهم المستقلة.

ولقد كانت رمزية القدس الدينية على الدوام، أوسع من أن تكون رمزية إسلامية. فعندما أضحت تحت السيطرة الإسلامية، لم تصادر السلطة الإسلامية الوافدة رمزيتها المسيحية، بل حمتها بنص العهدة العمرية: «هذا ما أعطى عبدالله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وأن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا يكرهون على دينهم».

وكانت رمزية القدس اليهودية أسبق تاريخيا على رمزيتها المسيحية، لكن حضورها القوي لم يكن متوطنا في المكان نفسه. فلم تكن في كثافة الحضور المهيمن للمقدسات المسيحية، الممتدة من القدس للناصرة إلى بيت لحم. ولا في هيمنة الحضور البشري الإسلامي، بعمقه وتواصله التاريخي، وكثافة حضور مقدساته الإسلامية، وهيمنته الثقافية الكاملة. بل كانت تقف بلا امتداد تاريخي يعيد إنتاجها، ولا قاعدة بشرية كثيفة تمنحها الحياة. هناك بعيدا في الدياسبورا، محلقة في عقائد اليهودية وأساطيرها، مقتاتة على الذاكرة الجماعية اليهودية. ولم يقدر للرمزية اليهودية أن تعود إلى المكان بقوة إلا مع العقد الثاني للقرن العشرين، في ظل تحالف السيطرة الاستعمارية وحركة الاستيطان الصهيوني.

وفي سياق الصراع الوطني التحرري الذي فرضه هذا التحالف، من أول ثورة البراق 1929 مرورا بثورة 1936 وحتى حرب 1948، تولد صراع موازٍ بين الرمزيات الدينية الثلاث. ولما كانت جبهات هذا الصراع الرمزي، أوسع كثيرا من القوى الثلاث الضالعة فيه، سعت الجماعة الدولية لفرض حلله عبر تدويل القدس وامتداداتها الدينية.

كان لفكرة التدويل مقدماتها التاريخية. نجدها مثلا في معاهدتي باريس 1856 وبرلين 1878، وكلاهما جاء أعقاب حروب مع الدولة العثمانية، وسعت بعض أحكامهما لفرض نوع من الحماية الدولية للأماكن المقدسة المسيحية.

كما نجدها أيضا خلال فترة السيطرة البريطانية، في مشروع لجنة بيل 1936 الذي استهدف تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، مع بقاء الأراضي المقدسة تحت الانتداب البريطاني، باعتباره نوعا من الإدارة الدولية.

وفي 29 نوفمبر 1947 اتخذت الأمم المتحدة القرار 181، الذي اعلن تقسيم فلسطين وإنشاء دولتين عربية ويهودية، وتدويل القدس والقرى والبلدان المجاورة لها، بتحويلها إلى «كيان منفصل» يخضع لنظام دولي خاص تحت إشراف الأمم المتحدة. ولكن انطلاقة حرب 1948، قادت عمليا إلى تقسيم المدينة بين إسرائيل والأردن، وفي 11 ديسمبر 1949 أعلنت إسرائيل القدس الغربية عاصمة لها.

وفي العقود التالية واجه التدويل مصيرا شديد التناقض، يدل بوضوح على مدى حساسية وضع المدينة لدى الجماعة الدولية. فلم تعجز الأمم المتحدة فقط عن حشد إرادة دولية لفرض التدويل، بل فشلت أيضا في مجرد الوصول لاتفاق قانوني على نظام لإدارته. ولكن في المقابل احترمت كل دول العالم تقريبا قانون التدويل، ورفضت الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإقامة مقرات لسفاراتها فيها.

وهكذا أصبح وضع المدينة شديد الغرابة. ففيها توجد كل مؤسسات الدولة المركزية. ويضطر كل السفراء لتقديم أوراق اعتمادهم في القدس، بينما كل السفارات مقرها في تل أبيب. ويضطر كل الرؤساء الأجانب لإجراء مقابلاتهم في القدس، بينما لا تعترف دولهم بها كعاصمة لإسرائيل.

ولا يعني التناقض الحاد السابق أن التدويل وقراره مجرد واقعة قانونية رمزية، فالرموز في عالم السياسة الضاري لا تصمد كل هذا الصمود، إلا إذا كانت تعبر عن قوة حقيقية ونافذة. الأمر الذي يعني أن قرار ترامب شكل اختراقا هائلا لإجماع دولي، استمر قائما رغم عجزه عن الفعل الإيجابي ما يقرب من سبعين عاما. وهنا سيظهر سؤال منطقي: ما الذي دفع ترامب صوب قرار بمثل هذا الحجم؟

يمكننا من خلال استقراء الوضع الراهن ومراجعة التحليلات المطروحة طرح ثلاثة عوامل للتفسير.

يتصل العامل الأول بوضع ترامب الداخلي. من المؤكد أن أداء ترامب السياسي يستثير انتقادات واسعة. تخبرنا قياسات جالوب الدورية لنسب الرضا عن أداء ترامب السياسي خلال عامه الأول، إن نسبة الرضا كانت في أول مارس 43%، انخفضت إلى 34% في منتصف ديسمبر، بينما ارتفعت نسبة عدم الرضا فيما بين التاريخين من 51% إلى61%.

غير أن ترامب لا يعاني من مشاكل، في تأييد قاعدته السياسية الخاصة، تجاه موقفه من إسرائيل. وفقا لشبلي تلحمي يرى 59% من الجمهوريين أن ترامب يؤيد إسرائيل، وهو نفس ما يراه 66% من المسيحيين الإنجيليين قاعدته الانتخابية الأكثر صلابة.

والخلاصة: طالما لا تزال القاعدة الخاصة مؤيدة، ليس من المرجح وجود دور جوهري لعامل الرضا.

ويتصل العامل الثاني بالتيار الذي أطلقته إدارة ترامب في السياسة الخارجية. يتسم هذا التيار بسمات واضحة : انغماس في المصالح الذاتية، يصاحبه تقلص حتمي في الدور العالمي. مفهوم صراعي لأداره العلاقات الدولية، يقوم على منطق الصفقات والربح والخسارة والتكلفة بالمعنى المباشر والفج . انسحاب متصاعد وعبر أشكال ودرجات مختلفة، من الصيغ الدولية المنظمة للعمل الجماعي الدولي، مثل الأمم المتحدة واليونسكو واتفاقيات التجارة الدولية واتفاقية باريس للمناخ والناتو والاتفاق النووي الإيراني.

ويحمل قرار القدس الكثير من سمات هذا التيار: التوجه الصراعي، وحسابات المصلحة المباشرة والضيقة، ومناهضة فجة للإجماع الدولي، وتصور أن منطق الصفقات الاقتصادية يمكنه أن يحل محل منطق الحقوق الوطنية والتاريخية، وتنصل تام وسافر من معايير الإجماع العالمي والشرعية الدولية.

ويتصل العامل الثالث والأخير بحسابات إدارة ترامب في عملية صنع القرار. تحكمت في تلك الحسابات عدة أفكار، كان لها دورها المهم في تمريره.

أولها: إن المعارضة العربية المتوقعة سواء الرسمية أو الشعبية، سوف تكون محدودة تماما. فالقوى العربية الراديكالية انهارت، والقوى المعتدلة غارقة في مشاكلها الداخلية وصراعاتها الإقليمية، والشعوب خرجت من خبرات 2011 وما بعدها منهكة سياسيا، والقيادة الفلسطينية فاقدة للكفاءة ومنقسمة وعاجزة عن الحشد، والإجماع الدولي القديم حول القضية الفلسطينية تراجع كثيرا.

وثانيها: إن المنطقة العربية أضحت الآن خاضعة لعمليات سياسية مختلفة تماما، عن التي سادت خلال العقود الماضية.

دول انهارت وأضحت خرابا، وثانية مأزومة ومنهمكة في ترميم كيانها، وثالثة تشهد صعود قيادات جديدة وشابة تشن صراعاتها الضارية للإمساك بأعنة السلطة. وحروب أهلية، وأنماط جديدة من التدخلات الإقليمية، وإرهاب عابر للحدود توطن إقليميا، وصراعات أدوار إقليمية جديدة تقتات على دعاوى الانقسامات الدينية، وعلاقات غير معلنة ومتنامية مع إسرائيل تكتسب تدريجيا علانيتها وشرعيتها. وفي ظل هذه العمليات الجديدة، تراجعت أولوية القضية الفلسطينية، وانكمشت مصادر دعمها السياسي، وتفككت تحالفاتها الداعمة، وأخذت مقدساتها العتيدة تتحلل، وأضحى ما كان يقال سرا يطرح علنا.

وثالثها: إن السياسات العربية في ظل العنصرين السابقين، أضحت مؤهلة للتعامل مع القضية الفلسطينية والوجود الإسرائيلي، من منظور جديد يختلف عن المنظور القومي القديم. منظور يقر إمكانية التنازل عن الأرض أو تبادلها، والقبول بسيادة وطنية منتقصة، ومقايضة الوطني بالاقتصادي، وليس فقط القبول بالأمر الواقع بل ومنحه الشرعية أيضا. وهذا هو مدخل ما يسمى بالصفقة النهائية.

بشكل العامل الثالث العامل الأساسي المحرك لحسابات صنع قرار القدس. ومشكلة هذه الحسابات ليست في غياب واقعيتها بل في نمط واقعيتها. يتسم هذا النمط بالسطحية وغياب الحس التاريخي. نمط يقرأ لحظة الأزمة العربية، فلا يخطئ في قراءة تجلياتها، لكنه يتجاهل أسبابها الحقيقية، ويسعى لتحويل لحظة الأزمة إلى لحظة تأسيس تاريخي. نمط يقترب من الأزمة من منظور انتهاز الفرصة. فرصة الفوضى الضارية، واختلاط الخطوط، وتفكك الروابط والمجالات الجامعة وإفلاس وعجز مؤسسات وهياكل سياسية تخطاها الزمن، سعيا لإيجاد حقائق دائمة تناهض أسس الواقع نفسه وتاريخيته. نمط يقرأ ما فوق السطح ويحسن القراءة، لكنه يتجاهل ما تحت السطح بل ويزعم عدم وجوده.

والأمر المؤكد أن حسابات من هذا النمط، يمكن أن تحقق نجاحات رغم قصورها الواضح. إلا أنها نجاحات باهظة الثمن، وعاجزة عن الاكتمال والتجذر في الواقع، وبالتالي قصيرة العمر. يطرح المحللون المنتقدون لقرار ترامب أن القرار يناهض أسس السياسات الأمريكية تجاه المنطقة على مدى عقود متوالية، وأنه ينال جذريا من مصداقيتها السياسية فيها، وأنه سيضعف من موقع وقوة أوثق حلفائها فيها، وأنه سيوفر لخصومها مساحات رحبة للعب ضدها، وأنه سوف يمنح قبله الحياة لفصائل إرهابية خطرة كانت أوشكت على الموت.