الملف السياسي

جبروت القوة .. ومحنة القانون !!

18 ديسمبر 2017
18 ديسمبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

مع إدراك أن كل تلك التحركات تتم في إطار القانون الدولي ومخاطبة الضمير العالمي، وأن جبروت القوة لا يستجيب بسهولة، إلا أن التذكير بأن السلام والاستقرار في المنطقة وما حولها لن يتحقق إلا بتسوية القضية الفلسطينية بشكل عادل ودائم وفي إطار حل الدولتين، وأن الإرهاب يمكن أن يتزايد إذا لم يتم ذلك،

مما لا شك فيه أنه ليست هناك محنة أشد من تلك التي يتعرض لها القانون، سواء كان قانونا داخليا أو دوليا، عندما يواجه جبروت القوة، خاصة إذا كانت تلك القوة لا تعترف بالقانون، أو لا تعيره اهتماما، أو تنظر إليه فقط من زاوية خدمته لمصالحها هي، أو أنها تنظر الى نفسها على أنها القادرة على فرض قانونها الذاتي. وإذا كان التطور الاجتماعي والقانوني والسياسي للمجتمعات قد وصل إلى صيغة الدولة، التي تحكمها سلطة تنفيذية معترف بها من مجتمعها– أي حكومة أو سلطة- قادرة على فرض قانونها الداخلي على مجتمعها، حيث إنها تملك أدوات القوة وفرض القانون، وقد فوضها المجتمع بذلك، فان تطور المجتمع الدولي – الذي تكون الدولة وحدته الأساسية الى جانب الوحدات الأخرى من هيئات ومنظمات وكيانات وتجمعات دولية وغيرها- وبالتالي القانون الدولي، لم يصل بعد إلى درجة تطور مجتمع الدولة، وبالتالي فإنه برغم كل الحديث عن احترام القانون الدولي، والقوة الأدبية للمواثيق والقرارات الدولية، ودور المنظمات الدولية والإقليمية، وقيمة الضمير العالمي والرأي العام العالمي، وتأثيره الأدبي على مواقف وقرارات دول عديدة، إلا ان واقع السياسة الدولية، وبعد ما يقرب من أربعة قرون على معاهدة وستفاليا، لا يزال مرهونا، الى حد كبير، بممارسة سياسة القوة وتوازناتها، وسبل بناء التوافقات بين القوى الدولية المؤثرة في القضايا والتطورات المختلفة، وفق مقتضيات وحسابات المصالح لتلك القوى، في كل حالة على حدة. وإذا كان مفهوم القوة قد طرأت عليه تغيرات عديدة، بفعل التطور التقني والدور المتزايد التأثير للإنترنت كأداة من أدوات الحرب، وتغير الأهمية النسبية لعناصر قوة الدولة، في مفهومها التقليدي والحديث، فإن القوة تعني في النهاية القدرة على حمل طرف أو أطراف أخرى على التصرف على نحو معين، في موقف محدد، أو الامتناع عن التصرف بشكل يعارضه، أو لا يرضى عنه من يمتلك القوة. وتصل القوة الى حد الجبروت عندما تعصف بقواعد القانون الدولي والقرارات الدولية، وتضرب بها عرض الحائط، لأنها ببساطة لا تعبأ بها، أو أنها تملك القدرة على مخالفتها وتحطيمها، غير عابئة بالنتائج التي قد تترتب على ذلك. ومن المؤكد ان ذلك يقترن عادة بادراك عميق من جانب الطرف القوي، لقوته النسبية، ولعدم قدرة الآخرين- أي الأطراف المتضررة- على عقابه بشكل يسبب ألما، أو خسائر حقيقية له في النهاية عندما يمارس ذلك. وكما يقول المثل العربي: «من أمن العقاب أساء الأدب».

وعلى امتداد التاريخ، وفي حقبه المختلفة، كانت القوى الامبراطورية، والقوى الكبرى، والدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تقوم بممارسة جبروت القوة، عندما ترى أن مصالحها تقتضي ذلك. والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى، والمؤكد أن الجميع يذكر أن إدارة الرئيس بوش الابن، على سبيل المثال، قامت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، بغزو أفغانستان عام 2001، ثم غزو العراق عام 2003، وكانت عمليات الغزو تحدث على الهواء مباشرة وباتساع العالم، وبزعم ان العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، اعترف الأمريكيون بعد ذلك بعدم صحة هذا الأمر، كما ان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم تكن بالتأكيد استثناءً من ذلك أيضا، فهي وخلال أقل من عام منذ تولي الرئيس ترامب السلطة في 20 يناير الماضي، قد انسحبت من اتفاقية التجارة مع دول المحيط الهادي، وانسحبت من اتفاقية باريس للمناخ، وانسحبت من اتفاقية الهجرة، ومن منظمة اليونيسكو، وفي السادس من الشهر الجاري أعلن ترامب قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقراره نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب الى القدس، عندما يتم الانتهاء من تشييدها. ومع ان ترامب قد برر خطوته الخطيرة هذه بأنها تنفيذ لقرار الكونجرس الأمريكي بهذا الخصوص، الصادر منذ عام 1995، ووفاء بوعده الانتخابي، الذي تعهد به خلال حملته لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، إلا أن جبروت القوة الأمريكية استهان في الواقع بكل عناصر ومعطيات المشهد في الشرق الأوسط، في الظروف الراهنة، وفق حسابات المصالح من وجهة نظر الإدارة الأمريكية بالطبع. ومن المفارقات أن الإعلان عن ذلك اقترن بالحديث من جانب الإدارة الأمريكية عن خطة سلام تعدها وتقترحها لحل أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية في القلب منها!! وهو أمر لا يتسق مع ذاته، بغض النظر عن التسريبات العديدة في هذا المجال. على أية حال فانه يمكن الإشارة باختصار شديد، الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا : إن الاعتراف، سواء كان اعترافا قانونيا أو بحكم الأمر الواقع، الذي يقوم به، أو تعلن بموجبه دولة ما اعترافها بدولة، أو بحكومة، أو بقيادة، أو بعاصمة دولة أخرى، هو إجراء قانوني وسياسي بالطبع، يتم في إطار علاقة الدولتين المعنيتين فقط، أي الدولة التي تقوم بالاعتراف بالدولة الأخرى، ومن ثم فانه إجراء ثنائي لا تترتب عليه أية آثار قانونية بالنسبة للأطراف الأخرى، دولا أو منظمات أو غيرها. وهناك حالات اعتراف ظلت لسنوات طويلة محصورة في إطار العلاقة المباشرة بين طرفيها. ومع ان الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل يظل محصورا في إطار العلاقة الأمريكية الإسرائيلية - نظريا على الأقل- إلا ان الأهمية السياسية له تتخطى ذلك بالتأكيد، بالنظر الى انه اعتراف صادر من أقوى دولة في العالم، ومن الطرف الذي يمكنه- إذا أراد- ممارسة ضغط على إسرائيل في إطار عملية السلام. هذا فضلا عن ان هذا الاعتراف الأمريكي يمكن ان يفتح الطريق لتشجيع أطراف أخرى على القيام بالخطوة ذاتها، والاختباء وراء الموقف الأمريكي، وهنا تكمن خطورة المحاكاة.

وعلى ذلك فان اللجنة التي تم تشكيلها في إطار جامعة الدول العربية للتحرك في الأمم المتحدة وعلى المستوى الدولي لمواجهة القرار الأمريكي وتبعاته، ينتظرها الكثير من الجهد، للحيلولة دون سير دول أخرى على خطى ترامب، ومن ثم عدم زيادة عدد الدول التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتنقل مقر سفارتها إليها عن الدول التي قامت بذلك من قبل والتي لا يتجاوز عددها عشر دول، ظلت غير مؤثرة وغير ذي وزن حتى الآن، ولكن الاعتراف الأمريكي سيضفي عليها أهمية أكبر من ذي قبل، خاصة إذا نجحت إسرائيل في جذب دول أخرى بأية وسيلة، وهى ما تحاوله بالفعل، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.

*ثانيا: إنه إذا كان الرئيس الأمريكي غير مهتم بردود الفعل العربية، ولا بمصالح بلاده مع الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة، سواء لإدراكه لطبيعة ردود الفعل هذه، أو ليقينه بأن مصالح بلاده لن تتأثر عمليا ولا بشكل محسوس بسبب قراره الخطير، لاعتبارات عديدة، منها بالتأكيد القوة الأمريكية، والدور المهم والمؤثر الذي تلعبه الولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط، وفي حل أزمة الشرق الأوسط، وهو دور لا يدانيه دور أية قوة عالمية أخرى، لا روسيا ولا الاتحاد الأوروبي، ولا الصين ولا غيرها، فإنه لا الفلسطينيين، ولا الدول العربية، ولا الدول الإسلامية، تستطيع عمليا عزل الولايات المتحدة، ولا وقف تأثيرها السلبي على عملية التسوية السلمية، وقبل يومين فقط أعلنت واشنطن أنها لا تتصور إلا يكون حائط البراق، أو حائط المبكى، جزءا من إسرائيل في أية تسوية قادمة، وحائط البراق يقع في الجانب الغربي للمسجد الأقصى الشريف، وكان ترامب قد وقف أمامه ورفق ان يعتمر القلنسوة اليهودية، عند زيارته لإسرائيل خلال جولته في عدد من دول المنطقة في شهر مايو الماضي. ومع إدراك ان كل كلمات الشجب والتنديد والإدانة لن تمحي اثر الموقف الذي أعلنته إدارة ترامب بالنسبة للقدس وبالنسبة لحائط البراق– المبكى– الذي قامت بسببه ثورة فلسطينية استمرت عام 1929، ثم عام 1936 واستمرت لنحو ثلاث سنوات، فان مواجهة جبروت القوة الأمريكية، ليس أمامها إلا التمسك بأهداب القانون والشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن الدولي. صحيح أن واشنطن- خاصة في ظل الإدارة الحالية- لا تعطي أهمية ولا وزنا كبيرا للقرارات الدولية، ولكن الصحيح أيضا هو ان هذا المدخل القانوني الدولي، هو المدخل الذي يمكن من خلاله مخاطبة وكسب تأييد عدد غير قليل من الدول والقوى الدولية، خاصة تلك التي أيدت الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ووقفت الى جانب التسوية السلمية وحل الدولتين.

وإذا كان من غير الواقعي ان تقوم أية دولة عربية أو إسلامية أو الفلسطينيون بمعاقبة الولايات المتحدة، لا بشكل مباشر ولا غير مباشر، لأسباب كثيرة، ولا بشكل فردي ولا جماعي أيضا، فإن العمل من خلال الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها يظل هو السبيل الممكن أمام الدول العربية لمواجهة تبعات القرار الأمريكي.

ومع أن مقاطعة زيارة مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي للمنطقة، هذا الأسبوع، من جانب الفلسطينيين وبعض المؤسسات الأخرى قد وجدت هوى عند البعض، فضلا عن المظاهرات التي دعت إليها منظمة فتح خلال زيارته لإسرائيل، كتعبير عن الغضب والاستنكار للقرار الأمريكي، فإن المصالح الفلسطينية والعربية تتطلب الإبقاء على بعض خيوط الاتصال، للتعبير عن المواقف الرافضة للقرار الأمريكي وللإبقاء على تواصل يحول دون الاستفراد الإسرائيلي بكل أركان الإدارة الأمريكية، واستغلال المقاطعة الفلسطينية لصالحها كما يحدث الآن.

*ثالثا : إنه بالرغم من محاولة بعض الأطراف الإقليمية المزايدة على المواقف العربية، بل ومحاولة إحراج بعض الأطراف العربية، بشكل مباشر أو غير مباشر، ليس حبا في قضية فلسطين، ولا في الفلسطينيين بالطبع، ولكن لأسباب معروفة ومفضوحة أيضا، فإن التضحيات العربية بوجه عام والمصرية بوجه خاص من أجل فلسطين وحل قضيتها العادلة، لا يمكن المزايدة الموسمية عليها. وبعيدا عن حسابات التنافس الإقليمي، فانه من الأهمية بمكان ان تركز الدول العربية في تحركها على نقطتين أساسيتين، أولهما الالتزام بالقرارات الدولية التي تؤكد جميعها على عدم الاعتراف بما تقوم به إسرائيل من إجراءات وممارسات لتهويد القدس الشرقية، ورفض ضمها للقدس الشرقية أيضا، ورفض تغيير الوضع الراهن في القدس المحتلة، ومن ابرز هذه القرارات قراري مجلس الأمن رقمي 478 لسنة 1980 و2334 لسنة 2016، الى جانب قرارات منظمة اليونيسكو ذات الصلة، وهى عديدة ومفصلة أيضا، مع المطالبة والدعوة لبطلان أية قرارات من جانب واحد تتعلق بمستقبل القدس، باعتبار ان مستقبل القدس هو من موضوعات الحل النهائي، وانه يتم حسمه من خلال المفاوضات. والمؤكد ان إعلان واشنطن بأن قرارها لا يؤثر على الوضع النهائي للقدس وان تحديد الحدود السيادية متروك للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ليس صحيحا، لأن القرار يصادر على المستقبل ويحدده منذ الآن بالنسبة لواشنطن وهو ما تتمسك وستتمسك به إسرائيل بالطبع.

أما النقطة الثانية فإنها تتمثل في التمسك بالوضع القانوني للقدس الشرقية المحتلة، باعتبارها أرضا احتلتها إسرائيل ضمن الضفة الغربية خلال عدوانها عام 1967، وان إسرائيل تظل قوة احتلال ولا يمكنها ضمها أو تهويدها، مهما اتخذت من إجراءات. يضاف الى ذلك انه بات من المهم والضروري التركيز في التحركات العربية والإسلامية القادمة على الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، في إطار حل الدولتين، وهو ما دعت إليه السلطنة، وأخذ به قرار مجلس وزراء الدول العربية الاستثنائي يوم العاشر من ديسمبر الجاري وأخذت به أيضا القمة الإسلامية الطارئة في إسطنبول قبل ايام. هذا فضلا عن العودة الى قرار تقسيم فلسطين في 29 أكتوبر عام 1947، وما تضمنه بالنسبة للقدس، ومحاولة احيائه مرة أخرى كرد على محاولات إسرائيل لابتلاعها. ومع إدراك ان كل تلك التحركات تتم في إطار القانون الدولي ومخاطبة الضمير العالمي، وان جبروت القوة لا يستجيب بسهولة، إلا ان التذكير بأن السلام والاستقرار في المنطقة وما حولها لن يتحقق إلا بتسوية القضية الفلسطينية بشكل عادل ودائم وفي إطار حل الدولتين، وأن الإرهاب يمكن أن يتزايد إذا لم يتم ذلك، ويمكن أن يجد من يستمع إليه ويهتم به ويعمل لتحقيق السلام برغم محنة القانون في مواجهة جبروت القوة!